أحمد بهاء الدين شعبان
إذا كان “والرتلاكير” الباحث فى شئون المنطقة العربية، والشرق الأوسط قد أقر أن “العالم لم يشهد بلداً، لعب فيه الشباب والطلاب دوراً، في تاريخ كفاحه الوطنى، مثل مصر، فالمؤكد أن مصر لم تشهد حقبة زمنية لعب فيها طلاب كليات الهندسة، وخاصة كلية الهندسة جامعة القاهرة، دوراً قيادياً فى العمل السياسى العام، والنشاط الوطني الخاص، مثلما حدث في عقد السبعينيات في القرن الماضى، حيث انعقدت فيه شارة قيادة “الجيل الذهبى” فى السياسة المصرية، كما وصفه الباحث المعروف “نبيل عبدالفتاح” لطلاب كلية الهندسة، في القاهرة وأغلب الجامعات الأخرى بالعاصمة، وفى جميع المحافظات الأخرى التى كانت قد بدأت الانتشار فى سائر أرجاء الجمهورية.
من القانون للهندسة:
وقبل هذا العهد كانت أغلب قيادات العمل الوطنى تأتي من اتجاه “الدراسات الإنسانية”، وبالذات من خريجى مدارس، أو كليات “الحقوق” ونموذجها الكبير “الزعيم مصطفى كامل”، فقد كانت البلاغة، والفصاحة، والقدرة على المجادلة والتعبير هى الأسلحة السياسية الأساسية، والمدخل للقيادة منذ أوائل القرن، حيث افتتحت أولى الجامعات الأهلية فى البلاد، أما فى تلك الفترة “فترة السبعينيات” كانت كلية الهندسة على قمة كليات القمة، فقد كانت لا تقبل إلا الحاصلين على أعلى المجاميع وأكبر الدرجات في امتحانات “الثانوية العامة” أو كما كان يطلق عليها “التوجيهية” قبل ذلك ومن هناك فمن الطبيعى أن يكون المنتسبون لصفوف هذه النوعية من الكليات “العملية” مثلها ومثل كليات الطب والعلوم والصيدلة، ومن الشباب المتفتح، الواعى، المهتم بشئون وطنه وشعبه، خاصة وقد كان عقد السبعينيات، السابق ذكره هو العقد الذى قدم محملاً برائحة “نكسة ٥ يونيو ١٩٦٧”، حيث حلقت فى سماء “المحروسة” طيور الحزن السوداء، وعاش الوطن كله على حلم مواجهة عار الهزيمة، وتطهير الأرض من الاحتلال الصهيونى البغيض.
الحرب التى لم نخضها
كانت مصر حتى ذلك اليوم “٥ يونيو ١٩٦٧” تعيش لحظات من القسوة الوطنية والقومية، فمصر هى الدولة الرائدة، والقوة الإقليمية القائدة، التى يقودها حبيب الملايين، وزعيم الأمة، وأحد القيادات البارزة فى العالم الثالث، والقطب المحتوى والمتصدى للنفوذ الاستعمارى فى المنطقة، وأحد نجوم حركة “عدم الانحياز” “جمال عبدالناصر” وجيشها، بحسب وسائل الإعلام النافذة وقتها أقوى قوى ضاربة فى الشرق الأوسط ومصانعها تنتج ما تحتاجه البلاد، من الإبرة للصاروخ، وفى غمار هذه الشعارات والمواقف الوطنية والقومية والدولية اللافتة، لم يجر الانتباه إلى تغلغل البيروقراطية والإهمال والانشغال بالصراع على السلطة بين مراكز النفوذ، حتى وقعت الواقعة التى كانت لها تأثير مروع علي المصريين والعرب وأصدقائهم فى العالم أجمع، وبالذات بسبب فداحة نتائج الحرب التى لم يخضها جيش مصر ولا شعبها.
كارثة الهزيمة:
فقد انتهت حرب الأيام الستة والعدو الصهيونى يحتل كامل فلسطين التاريخية وأقساماً من أراضى لبنان والأردن ومرتفعات الجولان السورية، وكل شبه جزيرة سيناء المصرية، واستقرت قدمه الغليظة على ضفة القناة، متحدياً في غطرسة واستفزاز كرامة الشعب كله، الذي جلله الإحساس بالعار، وامتلكت وجدانه الشعور بأن إعادة بناء القوات المسلحة، التى فقدت أغلب عتادها وأسلحتها وإعداد الدولة لجولة ثانية من الصراع تستعيد خلالها شرف مصر وكرامتها واعتبارها أمام نفسها وأمام العالم أجمع هو المبرر والدافع للوجود، وبالطبع فقد كان هذا الإحساس الطاغى شديد الوطأة على الأجيال الأحدث سناً من الشباب والطلاب أيضاً، أى تلك الفئة التى أطلق عليها وصف “جيل الثورة” وهى الفئة التى ولد أغلب المنتسبين لها فى مواكبة مع انطلاقة ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ وصعودها وإلى القمة، ثم انكسارها يوم ٥ يونيو الذى لا ينسى.
دور منظمة الشباب بالاشتراكية:
وقد كان من حظ هذا الجيل من الشباب ومن الطلاب بشكل رئيسى، أنه نال قسطا كبيراً من التعليم الجيد، قبل أن يبدأ فى التدهور بعد ذلك.
لكن الأهم أنه نال حظاً وافراً من التثقيف السياسى والتعمير الوطنى من خلال إنشاء منظمة الشباب الاشتراكية التى قصد النظام منها أن تخلق جيلا من الشباب المصرى واعتمد أيديولوجيا لاستكمال مسيرة الثورة، والحق أن هذه التجربة الرائدة، على كل ما تعرضت له من انتقادات وشابها من ملاحظات كانت تجربة بالغة الأهمية والتأثير، الذى استمر يوجه الحركة السياسية لعقود بعدها. فقد تعهد نفر من خيرة أساتذة الفكر والتاريخ والعلوم السياسية، والثقافة الوطنية عشرات الآلاف من نوابغ شباب تلك الآونة “عمال، وفلاحين، وموظفين”.. وبالذات من الطلاب، فهيأوا لهم بيئة من التثقيف الرفيع، والمعرفة المعمقة عن تاريخ وأحوال مصر والوطن العربى والعالم، منحوهم منظوراً شاملاً للتحليل وتحديد المواقف الاستراتيجية والتكتيكات وخلفت لديهم وعياً غير مسبوق بالوطن ومشكلاته، وعمقت انتمائهم لبلادهم إلى حد لم يدرك النظام نفسه حدوده، إلا بعد أن صحوا على صيحات هذا الجيل الهادرة وهى تهز شوارع مصر مطالبة بإعادة محاكمة المتسببين فى في الهزيمة، ورافضة الأحكام الهزيلة الصادرة بحق بعض العناصر الثانوية فى قيادة سلاح الطيران، التى قصد منها أن تكون كبش فداء تتحمل وحدها تكلفة الكارثة.
حدث ذلك عام ١٩٦٨، بدءاً من شهر فبراير حيث انتفض الطلاب وكانت الشرارة من هندسة القاهرة، حيث تواكب خروجها مع خروج عمال من القلعة الصناعية “حلوان” لذات السبب كان الشعب يعلن بوضوح أن أول خطوات “هزيمة الهزيمة هو معرفة الدواعى الحقيقية لها، لا التعمية على هذه الأسباب، ومعاقبة المتسببين الفعليين فى نتائجها، لا تبرئتهم وإلقاء المسئولية على كاهل غيرهم.
وتكرر خروج الطلاب بعد ذلك في شهر نوفمبر.. وكان هذا الأمر أول “انفصام” بين الجسد الطلابى والنظام.. بين “الأبناء الذين تربوا على عينه، وبين “الزعيم جمال عبدالناصر”. الذى هزته هزاً مظاهرات الطلاب، وهى تهتف ضد نظامه، لكنه كان يعرف عمق الجرح ويدرك فداحة الخطب.. فاستجاب لنبض الشارع الذى يطالب بالمحاسبة والتغيير “الشعب يريد.. وأنا معه”، وأصدر وثيقة بيان ٣٠ مارس، ومن وحى هذه الأجواء، وكوعد بإعادة بناء ما تهدم، وعلاج ما أصابه العطب. غير أن القدر كان أسرع، فتوفى الرئيس “عبدالناصر” فى سبتمبر عام ١٩٧٠، وحل محله نائبه، أنور السادات الذى سرعان ما بدأ يرسل إشارات ذات دلالة نشى بأنه لن يستمر على طريق سلفه، ولن يستكمل حمل المبادئ التى آمن بها “الريس” الراحل.
- جامعة السبعينيات:
ومن جديد عاد دور كلية الهندسة، إلى السطوع
في تلك الآونة كان حال جامعاتنا مغايراً لواقعها الراهن، فقد كانت الاهتمامات الفكرية والثقافية والعامة، غالبة، والقيم الحاكمة هى قيم احترام العلم والعمل، والتفاعل مع المجتمع ومشكلاته.
في كلية الهندسة - جامعة القاهرة - على سبيل المثال كانت هناك جميعة لهواة الموسيقى الرفيعة، وأخرى للفنون والقراءة، وكان بالجامعة فرق مسرحية تقدم مسرحيات نقدية صريحة، أذكر منها مسرحية “البعض يأكلونها والعة” وقد دارت حول الفساد وقضاياه، كما انتشرت فى كلياتها جماعات للتوعية الوطنية، تحت أسماء شتى، منها أسماء ورموز وطنية تاريخية كـ “عبدالله النديم” خطيب الثورة العرابية العظيم، أو “جواد حسنى” الفدائى البطل أو تحت أسماء عامة، كسماء مصر فى قيادة هذا الجيل تأسست في كلية الهندسة - جامعة القاهرة هى جامعة “أنصار الثورة الفلسطينية”.
الدور الرائد لـ “أنصار الثورة”:
ولجماعة “أنصار الثورة الفلسطينية” قصة ينبغي أن تروى، فى هذا المقام، ولو بإيجاز شديد.
فلقد انطلقت موجة جديدة من موجات نضال شعب فلسطين ضد الاحتلال الصهيونى واغتصاب الأرض، في يناير ١٩٦٥ بانطلاقة حركة الكفاح المسلح “فتح” أو ما بات يعرف بـ “الفدائيين” الذين منحوا أملاً للشعوب العربية كافة، ولشعب مصر بصورة خاصة، بأن العدو الصهيونى ليس عدواً أسطورياً لايمكن قهره، وأن بالإمكان مواجهته والتصدى لعدوانه، كما فعل “الفدائيون” الفلسطينيون فى معركة “الكرامة” بالأردن، والتى تكبد فيها الجيش الصهيونى خسائر فادحة في مواجهة مجموعة من المقاتلين الذين لا يملكون ما يملك من عتاد، لكنهم يمتلكون قضية عادلة تدفعهم للصمود والانتصار.
وقد صادف بعد وقوع معركة الكرامة تواجد بعض طلاب هندسة القاهرة فى الأردن، فى فترة الصدام المروع بين الفصائل المسلحة والجيش الأردنى، واحتدام الصراع بينهما فيما عرف بأحداث سبتبمر الدامى أو “أيلول الأسود” عام ١٩٧٠.
ففى هذا الشهر دارت وقائع حرب طاحنة بين قوات الملك حسين ملك الأردن والفدائيين، وبعد أن استفحل نفوذهم، وبات الملك يستشعر بخطرهم على عرشه، خاصة مع حقيقة كون قسم كبير من مواطنى الدولة، هم بالأساس من أجل فلسطين، وتعاطفهم مع أبنائهم الثوار، كان أمراً محتوماً وملحوظاً.
وبادرت القوات الأردنية بالاشتباك مع الفدائيين فى محاولة لتصفية نفوذهم المتزايد ودارت وقائع حرب طاحنة بين الطرفين طالت مخيمات اللاجئين الفلسطينيين الذين تعرضوا لمحنة إنسانية كبيرة، أثرت في وجدان الطلاب المصريين، الذين عادوا إلى مصر يروون لزملائهم فى كلية الهندسة الفظائع التى كانوا شهوداً عليها، بحق الفلسطينيين فى تلك الفترة، ومن جراء التعاطف معهم، تأسست بالكلية “جماعة أنصار الثورة الفلسطينية” بهدف الدفاع عن القضية الفلسطينية، والتعريف بأحوالها، ومواجهة إسرائيل، ودعم جهود الحرب لاستعادة ما تم احتلاله من أرض، فى عام ١٩٦٧.
“الحسم والضباب”
وقد كان لهذه الجماعة دوررائد مشهود، إذ سرعان ما اتسع تأثيرها وامتد نفوذها، ليس في جامعة القاهرة وحدها، وإنما فى أغلب جامعات مصر، حيث تشكل على غرارها عدد كبير من الجماعات الطلابية أخذت تبث الوعى بضرورة التحرير، وحتمية مجابهة الخطر الصهيونى، ومن هنا فقد كان سهلاً، أن يتخذ الطلاب موقفاً واحداً، فى مواجهة ما اعتبروه تسويقاً من سلطة الرئيس “أنور السادات” فى اتخاذ قرار الحرب ضد العدو الصهيونى، بعد أن أعلن فى أوائل عام ١٩٧١، تأجيل قراره بأن يكون ذلك العام هو “عام الحسم” متعللاً بـ “ضباب الحرب “الهندية - الباكستانية”، التى اندلعت آنذاك، واستخدم الطلاب فى بث دعايتهم وسائل مبتكرة، كصحف الحائط، والأغانى ورسوم الكاريكاتير وخلافه.
“البوسطجى.. والرئيس”!
ومن مدرج الساوى الشهير بالكلية انطلقت دعوة الطلاب إلى الاحتشاد لتدارس الوضع.. ووسط جموع هادرة ملأت المدرج بكافة مقاعده وطرقاته ومداخله رد الطلاب على مقولة الدكتور أحمد كمال أبو المجد “وزير الشباب” الذى أرسله السادات للإجابة على تساؤلاتهم حول سبب تأجيل قرار الحرب الذى وعد به، بقوله: “ما أنا إلا بوسطجى أنقل تساؤلاتكم للرئيس” ثم أعود إليكم بما يبلغني من جواب!.. فقد قالوا له” ما دام الحال على نحو ما ذكرت، فعليك أنت تذهب إليه “للسادات” لكى تبلغه أننا هاهنا معتصمون، ولن نبارح أماكننا حتى يأتى لكى يرد على تساؤلاتنا التى هى تساؤلات الشعب كله!.
• الاعتصام الكبير:
وهكذا انفجرت الحركة الطلابية في يناير ١٩٧١من هندسة القاهرة لكى تبدأ شرارتها فى الوطن كله وانتقل الاعتصام من كلية الهندسة إلى قاعة الاجتماعات الكبرى بالجامعة، عبر الشارع الفاصل، وأصبحت دعوة كلية الهندة للاعتصام محل إلهام طلاب مصر وشبابها، بل وشعبها الذى تفاعل بقوة مع هذه الكلية الداعية، التى لم تلجأ لعنف وإنما للنضال السلمى من أجل الجامعة وعيونها وعلى عكس ما رأيناه من طلاب الجماعات الإرهابية وإخوان الدم فى الفترات الأخيرة.
• رجعوا التلامذة:
وغنى الشعب كله بكلمات شاعره “أحمد فؤاد نجم”، وألحان “الشيخ إمام عجبى” ، من وحى كفاح طلابه وهو وطلاب الهندسة:
رجعوا التلامذة، ياعم حمزة للجد التانى يامصر أنت اللى باقية وأنت قطف الأمانى.
لا كورة نفعت ولا أونطة ولا المناقشة، وجدل بيزنطة
ولا الصحافة والصحفجية شاغلين طلعوا شبابنا عن القضية
رجعوا التلامذة يا عم حمزة للجد تاني
• عيطى يا بهية على القوانين:
وحينما اقتحمت قوات الأمن أسوار الجامعة، فى آخر يوم ٢٤ يناير ١٩٧١، واعتقلت نحو ١٥٠٠ طالب وطالبة، ونقلوا قياداتهم إلى سجن القلعة “باستيل مصر” الشهير، آنذاك، كتب نجم وغنى الشعب مع الشيخ”إمام” لطلاب مصر، ولطلاب كلية الهندسة:
أنا شفت شباب الجامعة الزين أحمد وبهاء والكردى وزين
حارمينهم حتى ألوف بالعين
وف عز الظهر مغميين
عيطى يابهية على القوانين
وقابلت سهام فى كلام إنسان منقوش ومآثر ف الجدران عن مصر وعن عمال حلوان
مظاليم العهد المعتقلين عيطى يابهية على القوانين
• الشهادة واللهيب:
انتفض الطلاب، وكانت كلية الهندسة؟ جامعة القاهرة، هى الشرارة، واستيقظت مصر بفعل هذه الروح الوطنية الجارفة، فى ٦ أكتوبر ١٩٧٣، مع صيحة من مصر وهم يعبرون الفناة ويحققون الحلم ويطهرون الأرض من دنس الاحتلال.
• الأسماء هى بعض لأسماء قادة الحركة الطلابية فى السبعينات، وأحمد بهاء الدين شعبان كاتب هذه السطور وسهام صبرى (رحمها الله)، وكلنا آنذاك من هندسة القاهرة.