الثلاثاء 28 مايو 2024

د. على رأفت شيخ المعماريين المصريين: الصُدفة لعبت دورًا فى حياتى العمارة تعكس الأيديولوجية السياسية والاجتماعية للمجتمع

26-4-2017 | 13:31

هو شيخ المعماريين المصريين، بل والعرب أيضًا، لذلك حينما يتحدث د. على رأفت أستاذ العمارة المتفرغ بكلية الهندسة جامعة القاهرة، والحائز على وسام الجمهورية والاستحقاق وجائزة النيل، فيجب أن ننصت بجدية لما يقول.. ورغم اقترابه من سن التسعين فهو مازال يذهب إلى مكتبه وكليته العريقة عدة مرات أسبوعيًا، بينما يقول طلابه: إنه يحرص على حضور مشاريع التخرج للطلاب حتى الآن، بل ويتم منحهم مكافآت تشجيعية بنفسه.

«د. رأفت» تخرج فى الهندسة كأول دفعته فى العمارة كما كان متوقعًا من الجميع، وذلك عام ١٩٤٩ وذهب إلى بعثة شخصية بالولايات المتحدة الأمريكية، التى وصلها فى أول أيام اندلاع ثورة يوليو ١٩٥٢ لذلك يحكى بإسهاب عن العمل السياسى والطلابى فى الجامعة وعن أيام المصريين فى الولايات المتحدة. «د. رأفت» يُشخص أزمة مصر فى البناء فى أنها تعود إلى أننا نقدس العمل الفردى والعائلى، لذلك تاريخيًا يميل المصرى إلى الزراعة والبناء. وقال فى حوار مع «المصور» لست ضد التنوع المعمارى داخل المجتمع، لكن أتحفظ تمامًا على فكرة التنميط لكل المشروعات فلابد من إيجاد التنوع ليُلبى حاجة إنسانية، لافتًا إلى أن العمارة تعكس عقيدة المجتمع وأيديولوجيته السياسية والاجتماعية.

 

لماذا اخترت كلية الهندسة تحديدًا رغم أن الموضة كانت كلية الحقوق فى الأربعينيات؟

تأثرت جدًا بوالدى، حيث كان مهندسًا فى السكة الحديد، وكان يأخذنى فى الثلاثينيات وأنا صغير فى رحلات معه سواء للصيانة أو لإنشاء سكك حديدية جديدة، لذلك أقول إننى من المحظوظين الذين تعرفوا على مصر مبكرًا فى حياتهم سواء فى ريف مصر أو الصحراء، وعندما كبرت التحقت بكلية الهندسة ليس فقط مثل والدى، لكن لأنى كنت متفوقًا للغاية، وكان أبى يُحفزنى على ذلك، والتحقت بالكلية وحصلت على المجانية الكاملة ٦٠ جنيهًا فى ذلك الوقت، وكان الهدف واضحًا أمامى هو التفوق والحصول على شهادة الدكتوراه، وكان والدى ورائى دائمًا ولا يقبل عن التفوق بديلًا، خاصة أن العائلة كلها أساتذة فى الجامعات فى تخصصات مختلفة من الطب حتى الزراعة.

ولماذا اخترت تخصص العمارة تحديدًا؟

لأن ميولى كانت فنية فى الرسم وأحب الموسيقى، وهو التخصص الوحيد الذى به رؤية فنية كان تخصص العمارة، وكان قريبا إلى نفسى، لأننى تربيت وكبرت فى منطقة شبرا.. وهذه المنطقة كانت عريقة، خاصة للطبقة المتوسطة لأن محمد على حينما أعجب بالمنطقة بنى قصره بها، وأيضًا شق طريقا وشارعا طويلا بها، وكان أول شارع مستقيم فى مصر فى ذلك العهد، وكذلك بنى فيها مدرسة التوفيقية.. وعلى جانبى الطريق أقيمت المنازل، التى سكنتها الطبقة المتوسطة وكانت بالنسبة لى تحفة معمارية والمنازل مداخلها على الطراز الرومانى والفرندات بالحديد الفورجورجية، وهو ما فتح لدى الحس الفنى والجمالى فى المعمار، ولذلك اخترت هذا التخصص فى الهندسة بعد ذلك.

وكيف كانت الجامعة فى الأربعينيات؟

الجامعة كانت حياتنا بالكامل فيها، وكنت قد اشتريت دراجة لأذهب بها، نظرا لبعد المسافة من شبرا إلى جامعة القاهرة، وكانت دفعتى تضم ٢٠ طالبًا فقط لا غير والأساتذة متفرغون لنا وللبحث العلمى.. ومن هنا نمت العلاقة الشخصية بين الطالب والأستاذ، يضاف إلى ذلك أن فى هذا التوقيت مصر كانت مشتعلة سياسيًا وأغلب الطلاب بالجامعة كانوا مُندمجين فى السياسة، وكانت شيئًا طبيعيا جدًا فى حياتنا أن نخرج فى المظاهرات وننادى بالاستقلال لمصر من الاحتلال الإنجليزى، وفى ذلك الوقت فُتح علينا كوبرى عباس وكنت عليه وتعلقت به، وكانت مصر كلها تشتعل ضد المحتل الأجنبى، وقبلها أيضًا كنا نتظاهر فى مدرسة التوفيقية، بل أذكر أننا تظاهرنا ضد قسم الهندسة الفنية، لأن طلابه كانوا يريدون الالتحاق بالنقابة.

وهل السياسة أثرت على مستواك العلمى كما يُشاع الآن؟

كُنا نعمل بالسياسة الوطنية، يعنى أننا كُنا ضد الاحتلال، وأبدأ لم يؤثر على مستواى الدراسى الخروج فى المظاهرات، أو حتى الأنشطة الاجتماعية، التى كُنا نقوم بها سواء فى الحفلات الفنية والغنائية وغيرها، بل كُنا نذهب للتشجيع فى مباريات كرة القدم بين المدارس الثانوية الكبرى، ورغم أننى كنت مشغولًا دائمًا فكنت حريصًا على التفوق أيضًا، وعلى أن أكون فى المركز الأول، وهو ما حدث بالفعل، وبعد تخرجى كان المعتاد أولا أن يعمل الخريج حتى يثقل خبرته، وبالفعل افتتحت مكتبًا صغيرًا ومنه تكونت لدى الخبرة العملية أيضًا، ثم ذهبت إلى البعثة فى الخارج وكانت فى يوليو عام ١٩٥٢ وكانت إلى الولايات المتحدة الأمريكية عن طريق فولبرايت والصدفة فى حياتى دائمًا تلعب دورًا.

هل سافرت مصادفة؟

عرفت بالبعثة وتقدمت إليها مصادفة، لأن الإعلانات كانت قليلة فى ذلك الوقت وركبت المركب إلى الولايات المتحدة فى أول يوليو ١٩٥٢ واستغرقت الرحلة ثلاثة أسابيع كاملة وقامت ثورة يوليو ونحن على ظهر المركب، وكُنا نتابع الأخبار من على السفينة، وعندما نزلنا فى ميناء نيويورك “كُنا مجموعة من المصريين” وجدنا أمامنا مراسلين للصحف يريدون أن يعرفوا أى معلومات عن الثورة الجديدة، وبالفعل تحدثنا معهم حتى إنه كان يُطلب منى مُحاضرات عن الثورة المصرية، وكانوا يدفعون لى ٥٠ دولارًا مقابلها، وتشعبت علاقاتى داخل نيويورك وغيرها من المدن الأمريكية، وهناك فى الولايات المتحدة تعرفت على د. عزيز صدقى وكان أكبر منى بسنوات قليلة وتوطدت علاقتنا هناك.

ومتى عُدت إلى مصر؟

عُدت إلى مصر بعد حرب ١٩٥٦، حيث مكثت فترة فى الولايات المتحدة بعد حصولى على الدكتوراه لمساعدة الوفد المصرى فى الأمم المتحدة فى ذلك الوقت، وأتيحت لى هذه الفترة أيضًا أن أطبع رسالتى للدكتوراه، حيث كانت رسالة هامة جدًا وأحدثت تغييرًا فى المجتمع الأمريكى من حيث طرق البناء.. حيث كان عنوانها طراز الخرسانة المسلحة فى العمارة والبناء.. وأستطيع أن أقول إننى من الأوائل، الذين ساهموا فى إدخال مفهوم الخرسانة فى العمارة هناك لأن المبانى فى الولايات المتحدة أغلبها يعتمد فى بنائه على الحديد والخشب، لذلك حينما تحدث الحرائق، وهى ظاهرة منتشرة فى أمريكا يحدث تدمير شديد وانهيار سريع للمبانى.. وخير مثال على ذلك ما حدث فى ١١ سبتمبر والانهيار السريع للبرجين، لكن وجود الخرسانة بكثافة يطيل أمد المبنى ويساعد على إمكانية إخماد الحرائق، وبعد هذه المرحلة هناك قررت العودة إلى الوطن للمساهمة فى الخدمة الاجتماعية.

لكن الكثيرين لم يعودوا إلى الوطن؟

لا أعتقد ذلك، فأغلب من أعرفهم عاد إلى الوطن وكان المناخ العام فى وقتها أننا جميعًا نريد أن نشارك فى إعادة بناء الوطن والتنمية فيه بعد أن تخلصنا من سلطة الاحتلال وقتها، وعندما عُدت عملت بالجامعة وساهمت فى تصميم وإنشاء سفارات مصر فى مدن نيودلهى وإسلام آباد، وتعلمت فى هذه الفترة أن الإسكان التعاونى هو الحل الأفضل لتوفير شقق للشباب، ومن يحتاج إليها، فالإسكان له وظيفة مهمة هى توفير مكان آمن للإنسان بسعر مناسب يستطيع أن يدفعه، وهو الاتجاه، الذى لجأت إليه كل دول العالم فى ذلك الوقت، خاصة الدول النامية والمستقلة حديثًا، فنجد ذلك الاتجاه فى الهند وفى عدد من الدول الإفريقية، وبالفعل مصر تبنت هذا الاتجاه الذى وفر آلاف الشقق للشباب والعمال والموظفين، ولكن حينما تدخلت آراء وقوى أخرى مثل المناقصات وغيرها اختفت مشروعات البناء التعاونى، وهو ما حدث فى السبعينيات تمامًا مثلما بعدنا عن الصناعة.

لماذا حدث ذلك أو كيف تفسر ذلك؟

بجانب التحولات السياسيــة والاقتصادية، التى حدثت فى المجتمع، هناك قضية مهمة ساعدت فى ذلك، فنحن شعب منذ قديم الأزل حرفته الأساسية الزراعة والبناء، وكلا النشاطين يعتمد على المجهود الفردى وليس الجماعى، لكن الصناعة تعتمد على العمل الجماعى والدراسة والمخاطرة إلى آخره.. ونحن للحقيقة تاريخيًا نفتقد للعمل فى شكل جماعى لنصل إلى هدف محدد وحتى لو عملنا فى مجموعات لإنجاز شىء سنجد العامل الفردى يظهر.. وأعتقد أن هذا هو سر من أسرار عدم اكتمال المشروعات والحفاظ عليها حتى بعد اكتمالها، لأننا تاريخيًا «مُتعودين» على العمل الفردى والعائلى، ولذلك سنجد أن مشروعات وأفكارًا هامة وتحل كثيرًا من المشاكل فى الإسكان لم تكتمل.

مثل ماذا؟

أعتقد أن أهم تجربة لمصر فى العقود الماضية كانت تجربة حسب الله الكفراوى ليس فقط فى إنشاء المدن الجديدة، وإنما فى الإسكان التعاونى تحديدًا، وهو من أكثر الشخصيات إيمانًا وعملًا بهذه الفكرة، وكان له دور أيضًا فى تنمية الساحل الشمالى، لكن لم يتركوا له المشروع متكاملا وتداخلت أسباب كثيرة ليفقد مشروع تنمية الساحل الشمالى الهدف الأساسى منه، لأنه نُفذ بطريقة فئوية، أى كل جهة أخذت جزءًا ولم يُنفذ بطريقة جماعية وفقد مخططا متكاملا، مما أدى إلى نتائج أخرى مغايرة عن الهدف الأساسى من طرح الفكرة.

سواء كان إسكانًا تعاونيًا أو خاصًا.. لماذا ليس لدينا أسلوب فى العمارة كما كان فى أوقات سابقة؟

كُل تاريخ العمارة والحضارات فى العالم يدور ما بين العقلانية والرومانسية وتحديدًا الصراع ما بين العقلانية والوجدانية، فمثلًا سنجد أن الحضارة، التى تبدأ بالعقلانية سينعكس هذا على المعمار لديها فهى تهتم بالخطوط المستقيمة أى البناء، الذى يؤدى الغرض، وهذا ستجده فى المبانى الضخمة ذات الواجهة بالزجاج مثلًا، وبينما الوجدانية لأنها حالمة فتهتم بالتفاصيل والتراث فيتم الاهتمام بإضافة التماثيل مثلا، وهو ما انعكس فى عصر الباروك الأوربى.. ولكن بعد فترة من الفوارق أن يحدث هدوء ويحدث تماذج بين العقلانية وبين الوجدانية وكل حضارة انسانية يوجد بها فترات العقلانية ثم الوجدانية ثم المزج بينهما، لأن العمارة انعكاس للمفهوم الحاكم فى المجتمع فى هذه الفترة الزمنية.. أى أن العمارة تعكس عقيدة المجتمع أو الأيديولوجية السياسية والاجتماعية له فإذا كان المجتمع لديه أهداف سياسية واجتماعية وثقافية محددة فإن ذلك سينعكس بالضرورة على نمط البناء والتصميم والعمارة.

وهل هذا ينطبق مثلًا على فترة بناء الستينيات وما قبلها ثم فترة السبعينيات وما بعدها؟

بالفعل يُمكن تطبيق هذه النظريات على ما يحدث فى مجال العمارة والبناء، فنرى مثلًا الاهتمام كان فى الستينيات بالبناء للشعب والشباب وكل الفئات، فتم بناء العمارات، لكن قبل ذلك كان الاهتمام فرديًا فتم البناء للفيلل والقصور بكل تفاصيلها، ولا ننسى أن مصر كانت أيضًا تحت الاحتلال وقبلها توافدت جنسيات كثيرة، إذن لعب العصر ونماذجه دورًا مهمًا فى العمارة والبناء.. ومع ذلك أقول إننى لست ضد التنوع المعمارى داخل المجتمع، بل بالعكس أتحفظ تمامًا على فكرة التنميط لكل المشروعات فى نماذج محددة، فلابد من إيجاد التنوع لأنه يلبى حاجة إنسانية أيضًا، لذلك أرى أنه لابد من وجود شركات كبرى ليست على المستوى الفردى والعائلى للبناء فى مصر، لأنها بذلك سوف تسهم فى حل المشكلة سواء بالبناء أو الصيانة بعد ذلك.

وهل التوسع الأفقى أم الرأسى أفضل للمصريين والدولة؟

فى مصر تحديدًا وكما قلت لأننا نميل إلى العمل الفردى والعائلى يصبح الحل للبناء الأفقى، لأن فى مصر لدينا بالفعل مشكلة فى الصيانة أى الاهتمام بما بعد البناء، فكيف إذن أبنى مبانى ضخمة ترتفع ما بين ١٥ إلى ٢٠ دورًا؟، وكيف ستتم صيانتها؟، وأعتقد أن كثيرًا من مشاكلنا هى لأننا لا نعمل جماعيًا، وبالتالى لا يوجد اهتمام بالصيانة بعد البناء، وأعتقد أن الحل للمشكلة المزمنة فى مصر ألا وهى الصيانة إنشاء شركات صيانة مستقلة يسهم فيها المنتفعون بالمبنى وفق تعاقد محدد بالمهام فى مقابل مادى.

وكيف تُفسر انتشار ظاهر «الكمباوند» السكنى أو الأسوار، التى تحمى مجموعة من السكان؟

إنها كما قلت تعكس ما حدث فى المجتمع نفسه من تغيرات وانعكاس للظواهر الاقتصادية والاجتماعية، التى حدثت مثل شيوع التفرقة والانقسام بين فئات المجتمع، فنحن ليس لدينا تدرج بين المستويات الاجتماعية المختلفة، إنما نلاحظ ازدياد الفروق الكبيرة بين الفئات، فمثلًا مثلت فترة أغنياء الحرب، ثم الانفتاح فى شيوع نمط بنائى يتماشى مع هذه الثقافة.. والآن مع ازدياد الانقسام زاد الطلب على ظاهرة «الكمباوند» المغلق على مجموعات محددة، وحتى الشباب الآن أصبح يبحث عن السكن فى كمباوند حتى لو حكوميا والحكومة نفسها توافق على ذلك، ولكن الأخطر أيضًا من ظاهرة الكمباوند هو البناء ليس فقط بدون تخطيط، ولكن عدم توفير وسائل انتهال ومواصلات إلى المبانى والكمباوند الجديدة والاعتماد على الوسيلة الفردية فى الانتقال فكل ذلك منظومة متكاملة تعكس الأفكار والثقافات السائدة فى المجتمع وشيوع الفردية وأنماط عدم التعاون والعمل الجماعى، رغم أن الحل الأفضل لنا هو العمل الجماعى المخطط أو وفق تخطيط جيد حتى لا تنمو العشوائيات لأنها أيضا حل فردى.