الأربعاء 26 يونيو 2024

الحلقة الخامسة.. كتاب خطاب العنف والدم لـ"حسام الحداد"

فن5-11-2020 | 10:31

تنشر "الهلال اليوم" فصلًا من كتاب "خطاب العنف والدم في الفقه الإسلامي"، للكاتب حسام الحداد، الصادر عن دار ابن رشد للنشر والتوزيع، وجاء الفصل بعنوان "خطاب العنف والدم في التراث الإسلامي"، ونقرأ فيه

الامام بن حنبل وتأسيس التطرف:


شاهدنا ما قام به الحنابلة مع شيخ المفسرين وإمامهم "ابن جرير الطبري" وما فعلوه لم يكن من فراغ لكن كان قد أسس له إمامهم أحمد بن حنبل في رسالته المعنونة "رسالة أصول السنة" حيث تشكل هذه الرسالة الإطار العقائدي والأساس الذي بنيت عليه المواقف والممارسات المتطرفة التي تبناها الحنابلة وغيرهم "وتبناها كذلك الحكام في مواجهة المسلمين المخالفين"

فلقد أهدى ابن حنبل الأمة تراثا هو عبارة عن مجموعة من القنابل الموقوتة المزروعة في العقل السلفي والتي تنفجر في أي لحظة في المخالف له، تلك القنابل التي استثمرتها الحكام في كثير من الأوقات وكذلك تم استثمارها من قبل تلك الجماعات المريضة في تفتيت وحدة المسلمين وتفكيك دولهم بالإرهاب.

يقول بن حنبل في مقدمة الرسالة: هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المتمسكين بعروقها المعروفين بها. المقتدى بهم من لدن أصحاب النبي "ص" إلى يومنا هذا وأدركت من أدركت من علماء الحجاز والشام وغيرهم فمن خالف شيئا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب على قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة، زائل عن منهج السنة وسبيل الحق.

تلك أول قنابل ابن حنبل الموقوتة والتي تحجر على العقل الإنساني الاجتهاد في أمور دينه وتثبيته عند لحظة تاريخية لا يستطيع مجاوزتها، ما أدى إلى تكلس هذا العقل السلفي ودورانه في فلك ما أنتجه القدماء أصبح العلم هو اختصار الشروح أو شرح الشروح واعادة انتاج للقديم دون اي تطور حادث للفكر العربي.

يستطرد ابن حنبل في رسالته محددا موقفه من الحكام فيقول "ولا تخرج على السلطان وتسمع وتطيع ولا تنكث بيعته، فمن فعل ذلك فهو مبتدع مخالف مفارق للجماعة" ويستكمل " ولا نشهد على أحد من أهل القبلة أنه في النار لذنب ولا لكبيرة أتاها إلا أن يكون ذلك في حديث كما جاء على ما روي فنصدقه، والكف عن أهل القبلة ولا تكفر أحدا منهم بذنب ولا تخرجه من الإسلام بعمل إلا أن يكون في ذلك حديث كما جاء وكما روي وتصدقه وتقبله وتعلم أنه كما روي نحو ترك الصلاة وشرب الخمر وما أشبه ذلك، أو ابتدع بدعة ينسب إلى صاحبها الكفر والخروج من الإسلام فاتبع الأثر في ذلك ولا تجاوزه، فإن احتج مبتدع أو زنديق بقوله عز وجل "كل شيء هالك الا وجهه" وبنحو هذا من متشابه القرآن، قيل له: كل شيء مما كتب الله عليه الفناء والهلاك هالك، والجنة والنار خلقتا للبقاء لا للفناء ولا للهلاك، وهما من الآخرة لا من الدنيا، والحور العين لا يمتن عند قيام الساعة، ولا عند النفخة، ولا ابدا، لأن الله عز وجل خلقهن للبقاء لا للفناء، ولم يكتب عليهن الموت، فمن قال خلاف هذا فهو مبتدع وقد ضل سواء السبيل." (30)

فلا خروج على الحاكم بأية حال حتى لو ظلم وفسق وهذا ما استندت إليه الدعوة السلفية في بدايات ما أطلق عليه الربيع العربي بتحريم الخروج على الحكام، وحين المصلحة تم التراجع عن هذه الدعاوى والفتاوى التي تمسكوا بها من قبل في سبيل نيل عدد من مقاعد البرلمان وتكوين الأحزاب السياسية "الدعوة السلفية في مصر خير دليل على هذا".

يستكمل ابن حنبل في كتابه زرع تلك القنابل الموقوتة بقوله "ومن زعم ان القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومن زعم أن القرآن كلام الله ووقف ولم يقل ليس بمخلوق فهو أخبث من قول الأول، ومن زعم ان ألفاظنا به وتلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام الله فهو جهمي، ومن لم يكفر هؤلاء القوم كلهم فهو مثلهم، ومن سب أصحاب رسول الله "ص" أو أحد منهم، أو تنقصهم أو طعن عليهم أو عرض بعيبهم أو عاب أحدا منهم فهو مبتدع رافضي خبيث مخالف، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا.

وبهذا لا يحق لأحد أن يجادل في أي صحابي حتى لو ارتكب المعاصي وقتل المسلمين وارتكب المجازر بحق هذا الدين، والتاريخ الإسلامي مليء بمخالفات الصحابة لصحيح القرآن ومخالفتهم للنبي في كثير من المواقع وسورة التوبة خير دليل على تقريظ القرآن لهم، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى يؤسس ابن حنبل في هذا النص لتقديس الصحابة وعلو مكانتهم ووضعهم في موضع الآلهة لا البشر وكأنه تناسى أو نسي أنهم رجال يصيبون ويخطئون ولنا دلائل شتى وأكثر دليل على أنهم ليسوا قديسين محاربتهم بعضهم البعض من أجل السياسية والحكم والتي كانت بداياتها موقعتي الجمل وصفين.

ولم يقف ابن حنبل عند هذا الحد بل حصن آراء الفقهاء والأئمة وجعلهم في مقام القديسين حيث يقول "والدين إنما هو كتاب الله عز وجل وآثار وسنن وروايات صحاح عن الثقات بالأخبار الصحيحة القوية المعروفة بصدق بعضها البعض، حتى ينتهي ذلك إلى الرسول وأصحابه والتابعين وتابعي التابعين ومن بعدهم من الأئمة المعروفين المقتدى بهم المتمسكين بالسنة والمتعلقين بالآثار، لا يعرفون بدعة ولا يطعن فيهم بكذب، ولا يرمون بخلاف، وليسوا بأصحاب قياس ولا رأي لأن القياس في الدين باطل، والرأي كذلك أبطل منه، وأصحاب الرأي والقياس في الدين مبتدعة ضلال، إلا أن يكون في ذلك أثر عمن سلف من الأئمة الثقات"

هكذا حرم ابن حنبل القياس المعمول به في الفقه الإسلامي وكذلك حرم الرأي الذي هو فتوى وكان المجتمع سوف يتجمد عند اللحظة التي كان يعيش فيها فلم يكن هناك تطور في الحياة الاجتماعية مما يحتاج الى إنزال أحكام جديدة للحوادث الجديدة، هذا الذي أصاب العقل الإسلامي في مقتل وحرم التفكير على المجتمع وبالتالي تجمد العقل الإسلامي منذ بن حنبل وحتى بدايات القرن التاسع عشر حينما اصطدم العقل العربي والإسلامي بالحداثة الأوروبية.

ويستكمل ابن حنبل تأسيسه للعقيدة السلفية والحجر على العقل الإسلامي بقوله "ومن زعم أنه لا يريد التقليد ولا يقلد دينه أحد: فهو قول فاسق عند الله ورسوله "ص" إنما يريد بذلك إبطال الأثر وتعطيل العلم والسنة، والتفرد بالرأي والكلام والبدعة والخلاف، وهذه الأقاويل التي وصفت مذهب أهل السنة والجماعة والآثار وأصحاب الروايات وحملة العلم الذين أدركناهم وأخذنا عنهم الحديث وتعلمنا منهم السنن وكانوا أئمة معروفين ثقات أصحاب صدق يقتدى بهم ويؤخذ عنهم ولم يكونوا أصحاب بدعة ولا خلاف ولا تخليط وهو قول أئمتهم وعلمائهم الذين كانوا قبلهم، فتمسكوا بذلك وتعلموه وعملوه" (31)

ويستكمل ابن حنبل هجومه على أصحاب الرأي وتلغيم الطريق أمام العقل الإسلامي بقوله "وأصحاب الرأي وهم مبتدعة ضلال أعداء للسنة والأثر يبطلون الحديث ويردون على رسول الله "ص" ويتخذون أبو حنيفة ومن قال بقوله إماما، ويدينون بدينهم، وأي ضلالة أبين ممن قال بهذا أو ترك قول الرسول وأصحابه، فكفى بهذا غيا مرديا وطغيانا.. فمن قال بشيء من هذه الأقاويل _ أقوال الاتجاهات الأخرى – أو صوبها أو رضيها أو أحبها فقد خالف السنة وخرج من الجماعة، وترك الأثر، وقال بالخلاف، ودخل البدعة وزال عن الطريق"

وهنا ينفي ابن حنبل مذهب فقهي كامل من مذاهب أهل السنة ويخرجه من الإسلام لأنه استخدم الرأي وهو مذهب الامام ابو حنيفة. ولم يقف ابن حنبل عند اخراج أصحاب الرأي وعلى رأسهم الإمام أبو حنيفة من أهل السنة والجماعة بل وصفهم بأنهم أعداء الله مما يبيح دمائهم وأموالهم ونسائهم حيث يقول "وأما أصحاب الرأي فيسمونهم حشوية وكذب أصحاب الرأي أعداء الله، بل هم الحشوية تركوا آثار الرسول وحديثه وقالوا بالرأي وقاسوا الدين بالاستحسان، وحكموا بخلاف الكتاب والسنة وهم أصحاب بدعة جهلة ضلال وطلاب دنيا بالكذب والبهتان"

وقد حمل تراث ابن حنبل جيل كامل من الحنابلة يساندهم قطاع من عوام بغداد انطلق يرهب الناس والمخالفين رافعا راية التكفير والزندقة في مواجهتهم تلك الأسلحة الفتاكة التي قضت على أي بارقة نور في الفكر الإسلامي. وقويت شوكة الحنابلة بعم السلطان "المتوكل العباسي" ومن بعده خلفاء بني العباس الذين عملوا على استثمارهم في تقوية نظام حكمهم وتصفية معارضيهم، وقد كثرت اعتداءات الحنابلة على العامة والنساء في الطرقات والتفريق بينهما في الأسواق ومهاجمة الأسواق لمنع الاختلاط ومقاومة البدع (32)، وهذا ما يفعله السلفيون الآن في الجامعات والمحافل وما يطالبون به في قنواتهم ووسائلهم الإعلامية.

وكما كان الحنابلة قديما لا يوجهون قذائفهم وفتاواهم التكفيرية للحكام، لأن عقيدتهم عقيدة حكومية في المقام الأول وتعمل لصالح الحاكم لا المحكومين، ولأن هذه العقيدة فرضت على الناس من قبل الحكام، يقوم السلفيون اليوم بنفس المسألة فلا يعارضون الحكام ويدورون في فلكهم ويصوبون قذائفهم وفتاواهم في صدور الناس خصوصا المفكرون منهم.


    الاكثر قراءة