تنشر بوابة "الهلال اليوم" فصلاً جديدًا من كتاب "هيكل.. المذكرات المخفية"، للكاتب الصحفي محمد الباز، والذي جاء تحت عنوان "قارئ وكاتب.. كل هذا العمر بين الكتب"، ونقرأ فيه:
كنت أشرع يومى وأختمه بالقراءة، فى طريقى إلى منتجع القطامية فى الساعة الخامسة وخمسة وأربعين دقيقة فجرا، أطالع الجرائد المصرية لأطل على المشهد العام والأداء اليومى للبلد.
وفى طريق عودتى أكتفى بالإستماع لمحطة ال بى بى سى.
عندما أصل إلى مكتبى أجد تقارير الصحافة الإسرائيلية، ومراكز الأبحاث الخارجية، والجرائد والمجلات العربية.
فترة ما بعد العصر، أطل على البرقيات مستكملا ما بدأته من الجرائد والمجلات.
قبل النوم أقرأ فى كتاب، وإن كنت أستنكر المطالعة فى السرير، وأظنه معيب لى ولمن أقرا له.
فى حجرة نومى هناك كرسى فوتيه وأباجورة، وعلى ضيائها أقرأ ليكون آخر ما أقوم به، محتفظا طول الوقت بقلم رصاص، ليس لتسجيل ملاحظات على الهامش، بل ربما لتداعى أفكار ليس بينها وبين الكتاب أى رابط، ولكنها بدأت بطرق باب تفكيرى كهاجس فأبدأ فورا بتفريغها.
(2)
أنا قرأت كل ما كان متاحا لى من الكلاسيكيات، قرأت فى الأدب الإسلامى والأدب الأجنبى، قرأت فى الفلسفة الإسرائيلية.
أى صحفى فى الدنيا هو حيوان قارئ، وكل كاتب هو قارئ بالدرجة الأولى، وأنا مدين لكثيرين، هناك معلمون كبار فى تاريخ مصر أعتقد أننا أهملناهم بطريقة غريبة.
وفى تقديرى أن السياسة والحزبية فى مصر أسقطت عناصر النخبة المصرية، كان المفكر يتكلم بأسلوب المنطق والعقل، لكن الحركة الوطنية استدعت أشياء أخرى بالإنقسامات الخطيرة التى حدثت، إنها مأساة لدينا، أن كل من تكلم بالعقل جرفه تيار وطنى، وليس معنى هذا أن كل من تكلموا بالعقل كانوا على خطأ، أو أن تيار الوطنية كان على خطأ، ولكن الكلام عن صراعات فى مجتمع ما زال ناشئا وتحت ضغوط معينة، وأعتقد أن الشعب المصرى كان مظلوما بموقعه الذى أدى إلى تكرار التدخل الأجنبى دائما.
(3)
كل كتاب له علاقة خاصة بكاتبه، فهو قطعة من حياته، فكره وعمله وتجربته، استؤمنت عليها صفحات وسطور وحروف.
وما يبوح به أى كاتب فى مجمل ما يكتبه، هو فى الحقيقة مراحل عمره، ومراحل عمر أى كاتب ليست مجرد تواتر واتصال وتكرار، وإنما هى عالم إنسانى بأكمله، عالم متنوع متناغم مختلف مؤتلف، فكل يوم وكل ساعة وكل لحظة لها طعم ولها لون ولها عبق متميز تركه الحواس وتستشعره، وتذوب فيه أحيانا أو يذوب فيها.
(4)
الكتب عندى نوعان.
نوع يزكيه موضوعه وعمق التناول وجاذبية العرض.
ونوع ثان يمهد له اسم كاتبه لأن الاسم وحده يكون علامة مميزة سابقة فى الايحاء بالقيمة حتى من قبل أن تتأكد هذه القيمة برضا القارئ وحكمه.
وأنا فى مكتبتى بين الكتب، يدور حوار بينى وبين من صاغوا تلك الأسفار من النفائس، أشعر بأن أرواحهم تنصت، بل لعلى لا أكون مبالغا إذا قلت بأن ما بينى وبينهم مناجاة ظانا أنهم يتابعون وقع ما أخط من ملاحظات وتعليقات على أبحاثهم، وما توصلوا إليه من نتائج وأحكام، وبذلك لا تكون أرواحهم حبيسة داخل أغلفة كتبهم، فبينى وبينهم حوار دائم وخيط لا ينقطع.
(5)
مرت فى حياتى ثلاثة كتب حرمتنى تماما من النوم ليلة مطالعتها.
الكتاب الأول كان المانيفستو الشيوعى " إعلان ماركس وإنجلز"، أول مرة قرأته فيها لم أذق طعم النوم طوال الليل، قلت: يا سلام... هذا هو الحل".
بعد شهر واحد عدت لأقول: لا... ليس هذا صحيحا.
المانيفستو كتيب سياسى صدر عام 1848 ويلخص النظريات حول طبيعة المجتمع والسياسة، وذلك فى قول مأثور عنهما " إن تاريخ أى مجتمع حتى الآن، ليس سوى تاريخ صراعات طبقية، كما احتوى فكرة عن كيفية تبديل المجتمع الرأسمالى بمرور الوقت بالإشتراكية بما يسمى الحتمية التاريخية.
الكتاب الثانى كتبه الجنرال " تومى فرانكس" قائد غزو العراق عام 2003، اسمه " جندى أمريكى"، فى ليلة الأربعاء 25 يوليو 2004 لم يعرف النوم طريقه لعينى، حاولت النوم فى العاشرة مساء لكنى صحوت فى الثانية، ولم أتمكن من النوم، ففى جفونى أرق وفى عروقى قلق، والسبب ما ذكره فرانكس عما قام به القادة العرب، فقد كان أكثر من شائن وأكبر من مؤلم.
الكتاب الثالث هو الطاو... الكتاب الصينى المقدس، وهو كتاب قام الدكتور محسن فرجانى بترجمته، وقامت جريدة أخبار الأدب بنشره كاملا، طالعته – خاصة أن الترجمة جميلة ومباشرة من الصينية للعربية، وليس كما يحدث غالبا فتكون عبر لغة ثالثة كالإنجليزية أو الفرنسية كما فعل الدكتور سامى الدروبى فى ترجمته لجميع مؤلفات فيودور دوستويفسكى، فقد ترجمها من الفرنسية إلى العربية وليس من الروسية للعربية – لكن السهد كان رفيقى تلك الليلة.
(6)
فى فبراير 1974 تركت العمل فى الأهرام نتيجة خلاف مع الرئيس السادات، كان الخلاف حول قضية أساسية هى قضية الصلح المنفرد مع إسرائيل، هذا الموقف الجديد تبلور فى يوم حاسم من تايخ مصر، هو يوم 7 نوفمبر 1973 عندما التقى أنور السادات بهنرى كيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية فى هذا الوقت.
فى هذا اليوم ظهر للوجود مشروع النقاط الست، وهى نفس النقاط التى اقترحتها جولدا مائير، وبدأ نوع جديد من العلاقات بين مصر وإسرائيل، وعلى الأصح بين أنور السدات واسرائيل عبر أمريكا.
منذ هذا اليوم أصبح لى موقف محدد مما يجرى، وبدأت كتابة مقالات أكثر حدة ووضوحا، شرحت ما جرى بينى وبين كيسنجر، وتكلمت عن أسلوب التفاوض الإسرائيلى وأنا أقصد أسلوب التفاوض المصرى، وعندما تم اتفاق فك الارتباط الأول اعتبرته بداية لصلح منفرد مع اسرائيل، سوف تكون له آثار سلبية اجتماعية واقتصادية وسياسية وفكرية على مصر، وسيؤثر على مستقبلها فى الفترة القادمة، وسيؤدى إلى عزلها عن العالم العربى، وكتبت ما اعتقد، وخرجت من الأهرام بسبب هذه القضية.
خرجت من الأهرام نتيجة لموقف ودفاعا عن قضية، وأن تكون صاحب موقف وقضية فلا يعقل أن تلزم الصمت وإنما واجبك بعد أن تركت موقعك أن تقول قدر المستطاع ما حدث بالضبط.
من هنا بدأت أكتب فى هذا الموضوع وأتكلم فيه من هنا من القاهرة، وكان هذا قرارا سياسيا أن أبقى فى مصر وأتكلم من مصر، وذلك لأكثر من سبب.
فعندما تتكلم عن سياسة الحكومة المصرية ومواقفها وأنت خارج مصر فى أمان كامل، لا يكون لكلامك نفس المصداقية التى يكتسبها وأنت داخل مصر تحت سلطة الدولة المصرية وخاضع لسلطة القانون المصرى، فما تقوله وأنت فى مصر لابد أن تكون قادرا على اثباته قادرا على الدفاع عنه مستعدا للذهاب إلى السجن بسببه، قابلا حتى أن تموت فى سبيله.
لم يكن أمام الرئيس السادات خيار، فإما أن يعتقلنى أو يكذب ما أقوله.
فى اعتقادى كان صعبا عليه تكذيب ما أقول، وأيضا كان صعبا عليه اعتقالى، لأن الاعتقال فى حد ذاته يؤكد ما أقول ويكشف أشياء إضافية.
السبب الثانى اعتقادى بضرورة أن يصدر صوت من القاهرة يخاطب رأيا عاما عربيا واسعا، يؤكد أن الارتباط المصرى العربى القديم منذ أيام حزب الوفد وتوقيع ميثاق الجامعة العربية إلى أن تجسد فى التجربة الناصرية لا زال قائما وله صوت يصدر من مصر،، وإن كان محروما من الحديث داخل مصر ذاتها، كان ضروريا أن تصدر إشارات إلى أطراف أخرى فى العالم العربى تؤكد أن القوى الوطنية المصرية ما زالت موجودة، وقد تصورت أننى أقدر من يستطيع تأدية هذا الدور.
لقد كنت صديقا لعبد الناصر وقريبا من التجربة، وأمثل أمام الرأى العام العربى جزءا ما من تجربة عبد الناصر التى عاشتها الأمة العربية وارتبطت بها، وشهادتى فى شأنها يمكن أن تكون مصدقة لدى الرأى العام، كذلك فلم يكن فى قدرة أحد أن يتهمنى بموقف مسبق أو ارتباط بموقف حزبى، فقد عشت طول عمرى صحفى اشتغل بالصحافة من موقف ملتزم، ملتزم بما أراه وليس التزاما مسبقا برؤية حزبية معينة.
حتى مع عبد الناصر طرحت أشياء لم يكن يوافق عليها، فعلا تكلمت عن تحييد أمريكا ولم يكن هو مع هذا الرأى ولكن لم يعترض على حقى فى إبداء ما أشاء من آراء لأنى أتكلم من داخل التجربة ومن موقف وطنى حتى وإن اختلفت مع رؤيته.
على هذا الأساس اخترت لنفسى بعد ترك الأهرام دورين متكاملين.
كتبت مجموعة من الكتب باللغة الإنحليزية، نشرت فى العالم وترجمت إلى أكثر من لغة، هذه المجموعة من الكتب أضعها متجاورة أمام مكتبى لتذكرنى دائما بأننى لم أخسر بتركى الأهرام، فقد أنجزت كتابا كل سنة أو كل 16 شهرا تقريبا ظهرت فى السوق الدولية، ولتكون بمثابة حساب للنفس عما حققت خلال هذه السنوات، ومع الكتب مئات المقالات فى الصحف والمجلات، وقد استمررت على هذا المنوال حتى دخلت السجن.
بعد أن خرجت من السجن كان هناك جديد، وقد أعلنت بوضوح أننى لست طرفا فى لعبة السياسة المصرية، ولا طرفا فى لعبة الصحافة المصرية، هذا الموقف يمتد تقريبا إلى عام 1975، وقد اتخذته فى ظل ظروف وسياسات معينة، وأصبح موقفا ثابتا بالنسبة لى، أعلنت أننى طرف مراقب، ولكننى لست طرفا محايدا، فلم أكن أبدا محايدا.
فكرت وقتها وسألت نفسى: لو فكرت فى الكتابة فى مصر... فأين أكتب؟
بصراحة لم اكن على استعداد للكتابة فيما يسمى بالجرائد القومية ولا أظن أن هذه الجرائد مستعدة أن تنشر لى، أما صحف المعارضة فكل جريدة تمثل موقفا معينا قد لا أوافق عليه كله، ثم أن أى مساحة فى صحيفة حزبية من حق أصحاب هذا الحزب.
كان أمامى بديل آخر، كنت على استعداد لاختياره لو كان متاحا، وهو الحصول على ترخيص بإصدار صحيفة من موقع مستقل، لو كان هذا ممكنا لم أتردد خلال ستة أشهر فقط فى أن اصدر صحيفة جديدة فى مصر.
كنت أشعر بالحزن لأن القارئ المصرى لا يعرف ما يجرى حوله فى العالم، أو ما يجرى حتى فى بلده بعد أن يصبح الأمر تاريخا ماضيا.
(7)
وراء كتابى " عبد الناصر والعالم" قصة تعود إلى سنة 1957.
فى بداية تلك السنة اللاحقة مباشرة لحرب السويس كان اسم جمال عبد الناصر يدور فى آفاق الدنيا، ولم يكن رمز الحركة الوطنية المصرية والقومية العربية فحسب، ولكنه كان أيضا رمز حركة التحرير الوطنى التى كانت رياحها وعواصفها تتجمع لتهب على كل القارات المتطلعة لغد جديد: آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
فى ذلك الوقت تلقيت أول عرض عالمى لى بأن أكتب قصة " عبد الناصر والسويس"، ولكننى ترددت لأن الحوادث كانت ساخنة وملتهبة، كما أننى كنت مستغرقا بالكامل فى ملاحقة التحولات السياسية والاجتماعية والدولية التى كانت تهز المنطقة العربية وما حولها هزا لسنوات طويلة.
خلال هذه الفترة لم تتوقف محاولات إقناعى بأن أكتب شيئا آخر – غير المقالات الأسبوعية – يمكن أن تضمه دفتى كتاب، ثم يحمله رف مكتبة يبقى عليها لعمر أطول – قليلا – من عمر جريدة سيارة يقرؤها الناس فى الصباح ثم ينسونها فى المساء.
لم يكن لدى الوقت، وربما لم تكن لدى الأعصاب لأننى أعتبر أن الكتاب مسئولية خاصة، تقتضى توفر استعداد آخر لم أكن واثقا أننى أملكه... وظلت الفكرة تجئ وتروح على هذا النحو سنوات حتى 28 سبتمبر 1970.
بعد رحيل جمال عبد الناصر فى 28 سبتمبر 1970 وجدت نفسى تحت ضغوط شديدة لكى أكتب عنه، وكانت الاقتراحات تقدم نفسها إلى وكأنها دعوة إلى واجب لا يحق لى أن أتحلل منه أو أتأخر عنه.
فى تلك الأيام لم أكن – من نفسية بحتة – على استعداد، وحاولت أن أقنع كثيرين بأنه قد يكون من الأنسب أن أترك هذه المهمة لغيرى على أن أضع تحت تصرفه ما يكون لدى من حقائق ووثائق احتفظت بها فى ذاكرتى أو على الورق فى الفترة ما بين يوم 18 يوليو 1952 إلى 28 سبتمبر 1970 وهى فترة كان لى فيها الحظ والشرف بملازمة جمال عبد الناصر والحياة بالقرب منه ومتابعته على المسرح ووراء كواليسه بغير انقطاع، وكانت إلى جانب ذلك سنوات حوار لم يتوقف معه فى كل مكان وفى كل شئ.
ولكنى أحسست أن ما حاولت أن أقنع به كثيرين لم يكن مقنعا حتى لى، فإن بعضا من الذين راحوا يكتبون عن جمال عبد الناصر كانوا يأخذون ما أضعه تحت تصرفهم من الوقائع ثم يتصرفون فيه كما يحلو لهم، وهذا منطقى لأن بعضهم مقيد باعتبارات معينة، كما أن بعضهم الآخر لديه أفكار مسبقة، وكانت عقدة المسألة أننى حين أعطى ما لدى لغيرى فان ملكيته تنتقل إليه وذلك لا أعترض عليه، ولكن العقدة تستحكم فى أننى أفقد فى نفس الوقت أى حق فى توجيه استعماله توجيها أعتقد باتساقه مع الحقيقة، وذلك ما كنت أعترض عليه أحيانا.
اشترك عدد من الأصدقاء فى إقناعى بأننى لا أستطيع أن أتقدم بشهادة للتاريخ بالوساطة، أى عن طريق أن أحكى لغيرى، ثم ينتقل هو للناس، خصوصا إذا كنت أنا من الأصل كاتبا محترفا لا عمل لى غير أن أقدم للناس ما لدى من وقائع أو أفكار أستخلصها من عملى الصحفى، والصحافة فى صميمها تاريخ تحت الصنع.
كان بين الذين حاولوا إقناعى صديقان:
أولهما دنيس هاملتون رئيس التحرير العام لمجموعة صحف طومسون وبينهما جريدة التيمس اليومية، والصنداى تيمس الأسبوعية، وكان ثانيهما هو ساى سالزبيرجر أحد رؤساء تحرير جريدة نيويورك تيمس.
تحاورت مع الاثنين طويلا فى لندن وفى باريس فى شتاء سنة 1970، وكان رأيهما أنه من الضرورى أن أكتب.
قال لى دنيس هاملتون مرة: ومن غيرك يستطيع أن يكتب قصة حياة جمال عبد الناصر كاملة؟
وقلت: قد أستطيع بغير تواضع وبغير إدعاء أن أقول: أنا، ولكن المسألة ليست بهذه البساطة وإنما هناك نواح عديدة لابد أن أضعها فى اعتبارى.
من ناحية فإن قصة جمال عبد الناصر ما زالت مستمرة باستمرار التيار الذى قاده، ومن ناحية أخرى فإن العالم العربى يعيش فى أزمة خانقة، وقصة حياة جمال عبد الناصر قد تفجر الآن ما لا داعى لتفجيره فى مصر أو العالم العربى.
ومن ناحية ثالثة فإننى ما زلت – عاطفيا – تحت صدمة الرحيل، ولست أريد أن أكتب مرثية فى جمال عبد الناصر، وإنما أنا أحلم بأن أكتب تاريخا، أو على الأقل شهادة يأخذها التاريخ فى تقديره عندما يحكم ويقرر.
وقال دينس هاملتون: لابد أن تكتب... أكتب فى أى شئ يتصل بقصة حياته، أكتب عن الصراع على الشرق الأوسط، أكتب عن أزمة الشرق الأوسط، لابد أن تكتب ولا تستطيع أن تعفى نفسك من هذه المهمة.
وعدت إلى مصر وخاطر الكتابة معى، ولكن ماذا أكتب عن جمال عبد الناصر، وكيف؟
وطرأت لى فكرة الإطار لهذا الكتاب.
إننى لا اريد أن أكتب قصة جمال عبد الناصر كاملة... ليس الآن.
ولا أريد كتابة قصة الصراع على الشرق الأوسط... ليس الأن.
وهكذا وصلت إلى فكرة الإطار العام لهذا الكتاب عن طريق الاستبعاد، وليس عن طريق الإختيار الأول، فكرت أن أكتب عن جمال عبد الناصر وعمالقة عصره، وكان عبد الناصر عملاقا، وكان عصره عصر عمالقة التقى معهم جميعا، بالإتفاق أو بالإختلاف، ونشأت عن لقائه بهم صداقات وصراعات تركت أثرها على العصر كله.
كان ذلك يعفينى من أسباب للحرج شديدة، بينها ضرورات السرية التى ما زال يتحتم أن نراعيها ونحن ما زلنا فى معركة مصير.
ثم إن ذلك يعطينى الفرصة لمس جوانب إنسانية من حياة جمال عبد الناصر وحياة غيره من عمالقة العصر كما رآهم وكما رأيتهم.
وعرضت الفكرة على بعض من أثق فى رأيهم وبينهم دنيس هاملتون وساى سولزبيرجر وكانت حماستهم لها غلابة، واستسلمت.
وفى ستة شهور من مارس 1971 إلى سبتمبر 1971 سلمت الكتاب بالإنجليزية للناشر البريطانى الذى تولى نشره، وإذا الكتاب يلقى ما لم أتوقعه، وإذا هو على الفور يترجم إلى أكثر من عشرين لغة بينها الفرنسية والإيطالية والأسبانية واليابانية والألمانية والسويدية والأردية والهندية والصربية والبرتغالية، ولا أذكر ماذا أيضا.
وكنت حريصا على أن تنشر فصول من الكتاب فى الصحافة العالمية على موعد الذكرى الأولى للرحيل، سبتمبر 1971، وقد كان، برغم متاعب سببتها للناشرين بهذا الطلب الملح.
قدمت للنشر المسبق فى الصحافة لفصول من هذا الكتاب باعتذار رجوت فيه أن يحكم عليه فى اطاره، فهو ليس قصة حياة عبد الناصر ولا قصة بعينها ضمن معاركه، وأن لا يحكم عليه إجمالا من مجرد فصول اختيرت منه للنشر الصحفى لا تزيد نسبتها فيه على الخمس، فإن البعض فى العالم العربى بالذات لم يقبل هذا الإطار.
راح البعض يتساءل: كيف أملك حق الكتابة عن جمال عبد الناصر؟
وبصرف النظر عن أشياء كثيرة واعتبارات لا أجد داعيا لذكرها، فإن الكتابة عن جمال عبد الناصر حق لمن يستطيع، ولم أدع لنفسى يوما حق احتكارها، لقد كتبت عنه كما كتب غيرى فى العالم كله، ولم يقم فى وجه واحد منهم اعتراض.
وراح البعض الآخر يدعى أننى – بما كتبت عن جمال عبد الناصر – جعلت من حياته مغامرة ولم أجعلها فكرة، والغريب أن أصحاب هذا الإدعاء فى معظمهم كانوا من الذين قضوا عمرهم فى عداء عبد الناصر، ولقد كنت أتوقع شيئا من ذلك، بسبب الظروف العربية الراهنة، وبسبب ظروفى الشخصية.
أما عن العالم العربى فقد كان مشغولا بالإقتتال مع النفس، أكثر مما هو مشغول بالقتال ضد العدو فى مرحلة التفاعلات العنيفة التى يعيشها.
وأما ظروفى الشخصية فكنت أعرف أنها دقيقة، ذلك أننى تعرضت لليمين الرجعى فى العالم العربى، كما تعرضت لليسار المغامر فيه، وليس يهمنى أن أحصل على رضا أيهما، ولقد اعتبرت أن هذا الوضع شرف لا أسعى إليه، ووسام ليس بين أحلامى أن أعلقه على صدرى.
لقد كتبت ما كتبت من قلب تيار أعرفه وأحسب نفسى منتميا إليه وهو التيار الناصرى، تيار الجماهير التى كانت مع جمال عبد الناصر فى اختياره التاريخى بالصورة البارعة التى سمعتها ذات مرة فى مطعم لاسير فى باريس من أندريه مالرو مفكر فرنسا العظيم وكان يقارن ما بين عبد الناصر وديجول.
وقال لى مالرو: كلاهما واجه عصره اختيارا دوليا هائلا، وكلاهما رفض هذا الاختيار... كلاهما قيل له: هل أنت مع أمريكا أم مع الإتحاد السوفيتى؟ وكلاهما قال: لست مع أمريكا ولست مع الاتحاد السوفيتى...وإنما أنا مع وطنى وأمتى.
لقد كتبت ما كتبت أيضا وفى ذهنى أن " جمال عبد الناصر ليس أسطورة"، كما قلت فى مقال نشر فى ذكرى مرور الأربعين على رحيله، وكان رأيى – ولم أغيره – أن الذين يتصورون عبد الناصر أسطورة، لا يعرفون ماذا تعنى كلمة أسطورة، أو لا يعرفون ماذا يعنى اسم جمال عبد الناصر؟
إن عبد الناصر ليس أسطورة، وإنما هو إنسان، ولقد كان إنسانا عظيما، وربما كان أعظم ما فيه إنسانيته، وكانت هذه الإنسانية هى طريقة التزامه الفكرى والتزامه الإنسانى، والتزامه القومى، والتزامه الدولى، بل وأهم من ذلك كله التزامه الطبقى بالعمل والذين يعملون، وأن العمل هو المصدر الوحيد لأى قيمة.
لقد كان بودى لو كتبت الكتاب بالعربية، وقدمته بأسلوبى الذى اعتاده القارئ، ولكنى فى الحقيقة كنت أكتب عن عبد الناصر والعالم... للعالم الذى عرف عبد الناصر واهتم بسيرته.
لقد كان هناك اقتراح بأن أتولى ترجمة الكتاب بنفسى، لأن القارئ العربى وقد اعتاد أسلوبى سوف يجد غريبا عليه أن يقرأ لى بأسلوب آخر، ولكن ذلك معناه فى رأيى أننى سوف أكتب الكتاب مرتين، ومن أجل الذين يقرأون فلقد وجدت أن مرة واحدة تكفى.
(8)
بعد رحيل عبد الناصر أعلنت أننى أنوى كتابة تاريخه باعتبارى من أقرب الناس إليه وأكثرهم معرفة بكل أسراره، وكنت مقدرا لنفسى خمس سنوات أبدأ بعدها الكتابة، لكى أقدر على أن أكتب كتابة متجردة دون أن تكون متأثرة بعاطفة أو صداقة.
وكنت أعتقد أن كتابتى لابد أن تكون شهادة للتاريخ، شهادة مبرأة من مشاعرى نحوه، لكن عندما أثيرت الحملة على عبد الناصر أجلت كتابتى لأنى تصورت أنى إذا كنت سأكتب شيئا فلابد أن يكون تقييم موضوعى لتجربته كلها، وعليه فلابد أن أشير فيها إلى الإيجابى والسلبى، لكننى تصورت أن الظروف السائدة مع تصاعد الحملة عليه ستدفع الذين يهاجمونه إلى استغلال كلامى خاصة عن السلبيات، ويقولون: انظروا هذه هى شهادة أقرب الناس إليه.
أدركت أنهم سيهملون الجانب الإيجابى تماما وسيركزون فقط على الجانب السلبى، مستغلين ما أطرحه لخدمة أغراضهم، لهذا قررت أن أنتظر حتى يفرغون جميعا مما لديهم، انتظارا لمناخ يناسب محاولة التقييم الموضوعى التى أريدها، فلم أكن أريد الكتابة فى مجال الدفاع عن عبد الناصر ولا فى مجال نقده.
كنت أعتقد دائما أن الكلام عن تعذيب السياسيين فى عصر عبد الناصر فيه مبالغات كثيرة جدا، وقد طالبت بتحقيق نزيه يرصد الوقائع واقعة واقعة، حتى نعرف ونحكم، لكن الضجة التى أثيرت بعد وفاته، واستغلها كثيرون حتى يقولون ويحكون ويصورون أنفسهم وكأنهم أبطال دون أساس، فلم يكن هذا كلاما صحيحا، كل ما أردته هو تحقيق بواسطة لجنة محايدة، لجنة برلمانية، لجنة تاريخية، يتم من خلالها تحقيق الوقائع وإعلانها على الناس بعد الاستقصاء والبحث العلمى النزيه.
لقد كتبت عن واقعة تعذيب الدكتور عبد المنعم الشرقاوى فى عصر عبد الناصر وهو موجود، بعد أن جاءنى شقيقه عبد الرحمن الشرقاوى وحكى لى ما جرى، وكتبت واستنكرت ما حدث بشدة وقلبت الدنيا، وكتبت سلسلة مقالات بعنوان " زوار الفجر" وهو التعبير الذى نقلوه عنى وأصبح شائعا بعد ذلك.
كانت هناك تجاوزات فى أجهزة سيادية وانتقدت أوضاعها فى حياة عبد الناصر، ليس هذا فقط، بل سمحت بنشر روايات توفيق الحكيم ونجيب محفوظ التى كانت تنتقد هذه الأجهزة، والسلبيات التى ظهرت فى حياة عبد الناصر.
لم أنتظر الموت لكى أتكلم... ولا أدرى أين كان هؤلاء الذين كتبوا بعد وفاة عبد الناصر عندما كان حى بيننا.
(9)
كنت أعرف أن القصة الكاملة لجمال عبد الناصر سوف تكتب فى يوم من الأيام، وكنت أرجو أن تتيح لى الظروف فرصة المشاركة فى كتابتها كاملة.
لقد كنت الأقدر على توثيق ومراجعة حياة عبد الناصر بحكم أننى كنت أحد أقرب الناس إليه، ولن يكون الكتاب عن تاريخ ناصر ولكن سيرة له، وهو مشروعى الثابت والأصيل.
نعم رباعية حرب الثلاثين عاما تناولت جزء من سيرته فى 56 و67 و73، لكن الكتاب الذى خططت لكتابته عنه يتناول سياسته العربية، وسياساته الداخلية، والتكوين النفسى والثقافى له، ورؤيته الإجتماعية وغيرها من الموضوعات المتعلقة به.
كتبت أجزاء مهمة من هذا الكتاب، ولم يتبق إلا بعض الرتوش والإضافات، وبالطبع الكتاب به ملحق وثائقى ليدعم ويساند.
أخذت فى إعداد كتاب عن العالم العربى إثر غياب عبد الناصر ونتائج حرب أكتوبر وبدايات حقبة البترول، وبدأت بالفعل فى العام 1975، وفى الإعداد له قمت برحلة واسعة إلى مغرب العالم العربى ومشرقه باستثناء ليبيا لعدم استفزاز الرئيس السادات، كنت أحاول تجديد معرفتى به، وألتقى وجها لوجه بالتيارات المؤثرة فيه وبالرجال الذين يوجهون مصائره.
وفرغت من إعداد مسودة كاملة لهذا فى منتصف 1976،، وكان مفروضا أن يبدأ طبعه ونشره فى بداية 1977، لكن تطورات الحوادث فى لبنان " مذبحة الكرنتينا ومجزرة الدامور وانتخاب الرئيس إلياس سركيس ودخول قوات الردع العربى بقيادة الجيش السورى وبمشاركة قوات سعودية وإماراتية وسودانية ويمنية ومجزرة تل الزعتر واغتيال كمال جنبلاط" دعتنى إلى إعادة النظر فى بعض فصوله، وقمت بذلك فعلا، وفرغت من إعداد نص معدل ونهائى قرب نهاية 1977، ليكون الكتاب معدا للطبع والنشر فى ربيع 1978.
وأتذكر أننى كنت فى لندن فى شهر أكتوبر 1977، وراجعت للمرة الأخيرة بروفات كل صفحة من صفحات الكتاب،ووضعت توقيعى على تصميم غلافه، وعدت إلى القاهرة مطمئنا إلى أنه لم يبق غير دوران المطابع فى اسكتلندا ويتم كل شئ.
لكن لم أكد أعود إلى القاهرة حتى انفجرت المفاجأة التى اصطلح على تسميتها بوصف المبادرة، وإذا أوضاع العالم العربى كلها تنقلب رأسا على عقب، وفى وسط كل الهموم النازلة فقد وجدتنى أمام هم محدد ومباشر وهو أن أبعث إلى الناشرين فى لندن أرجوهم تأجيل كتاب العالم العربى لأن مفاجآت الحوادث تجاوزت ما كتبت – خصوصا عن الصراع العربى- الإسرائيلى.
بعد فراغى من كتاب خريف الغضب حاولت أن أكتب لمجموعة الناشرين التى تملك حق نشر كتبى فى العالم عن ظهور وتراجع القوة العربية، وبدأت المحاولة فعلا، ثم كنت أنا الذى تراجعت مؤقتا عما اعتزمت، فقد وجدتنى أصف عالما عربيا كل أحواله تدعو للرثاء، ولم أشأ أن يكون ما أكتبه سهما جديدا تتكسر له النصال على النصال.
اتجهت فى العام 1985 إلى وضع كتاب عن قائمة بعشر أسماء من الشخصيات الغامضة التى لعبت أدوار مهمة من وراء الستار فى السياسة العربية، وقد قابلتهم جميعا، ثم كان أن غيرت رأيى فى مشروع الكتاب كله، واعتذرت للناشر اندريه دويتش الذى كان يلح فى طلبه، فقد رأيت أن هناك فى المنطقة قضايا أسبق إلى الإهتمام من عشرة رجال غامضين مارسوا أدوارهم من وراء ستار على مسرح سياسى تجرى أخطر وقائعه وراء الضوء، وبعيدا عن عيون الناس.
فى نهاية العام 1990 كنت قد اتفقت مبدئيا مع دار هاربر كولينز على كتابة ثلاثة كتب، وقد ظهر منها اثنان " حرب الخليج: أوهام القوة والنصر"، والمفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل"، وتأخرت فى كتابة ثالث الكتب وهو يناقش " الإسلام السياسى" وكان عنوانه" السيف والهلال".
قضيت أكثر من عام فى الإعداد لهذا الكتاب، وكانت سنة مفيدة بالنسبة لى، ولم يفتر حماس دار هاربر كولينز، فقد استمروا فى إلحاحهم على بأن يصدروه حتى إبريل 2001.
عرضت على دار هاربر كولينز مطلع العام 2013 عنوانا جديدا يحل محل الكتاب الذى رفضت الاستمرار فيه وهو " السيف والهلال"، أتناول فيه ما استجد من أحداث فى المنطقة العربية مع بداية حقبة جديدة من القرن الواحد والعشرين، والذى عرف بالربيع العربى.
بدأت العمل على ذلك، عقدت سلسلة لقاءات مع مسئولين عرب ومعارضين فى أغلب الدول العربية التى شهدت ما يسمى الربيع العربى" تونس – مصر – سوريا – البحرين – اليمن" وأيضا مع الجهات التى حرضت ودعمت قيام تحركات هنا وهناك، ومع جهات إقليمية ودولية فاعلة.
ورغم تجميع خيوط كثيرة فى يدى، وثائق تدعم، ومعلومات تؤكد، ودراسات ومذكرات تستكمل الصور والمشاهد، إلا أننى آثرت التوقف عند نقطة معينة، تاركا ما كتب لقابل الأيام لو سمحت بذلك المقادير.
(10)
فى فبراير 1976 صدر لى فى بيروت كتاب اسمه " الشرق الأوسط 1967" وهذه هى الطبعة العربية لأن الأصل نشر بالإنجليزية فى جريدة " الصنداى تلجراف"ت فى أكتوبر 1973.
لم ينتبه أحد للكتاب لأنه صدر عندما كانت حرب أكتوبر مشتعلة، وكان كل الأذهان مشدودة لها.
فى هذا الكتاب أوضحت كل الحقائق المتعلقة بنكسة يونيو، وكان رأيى بصراحة أن هزيمة 67 لا يمكن أن ينظر لها فعلا على ضوء المعركة العسكرية الخاسرة التى خضناها، لأنها كانت جزء من حركة الصراع بين القومية العربية والاستعمار، لكن لا شك أن حجم الهزيمة كان مزعجا، لم يكن طبيعيا ولا يرجع بالضرورة لحركة الصراع التى نتحدث عنها، لكن يرجع لمسئولية وأخطاء القيادة ولاعتبارات وتراكمات كثيرة، إذا أردنا تحديدا أكثر فقد كان حجم الهزيمة راجعا لعاملين أساسيين وقت المعركة، ضربة الطيران وقرار الإنسحاب.
(11)
علاقتى بإيران علاقة طويلة، ففى مرحلة الشباب الباكر كنت أشغل وظيفة المراسل المتجول فى الشرق الأوسط لجريدة أخبار اليوم، وكان من بين المهام التى قمت بها تغطية أزمة البترول الإيرانية عام 1950 – 1951، وقضيت فترات طويلة فى إيران، وسافرت إلى كل أنحائها، وقابلت كل قيادات العهد القديم من السياسيين أمثال السيد “ضياء الدين طباطبائى" و"قوام السلطنة" و"الدكتور مصدق" بطبيعة الحال، وأهم رجل من رجال الدين الشيعة فى ذلك الوقت ومؤيد مصدق المتحمس "آية الله كاشانى"، وفى ذلك الوقت أيضا دارت أول أحاديثى مع الشاه، كما تعرفت على شقيقته التوأم الأميرة أشرف، التى كان زوجها الأسبق أحمد شفيق وهو مصرى صديق لى.
كانت خلاصة هذه التجربة كتابى الأول" إيران فوق بركان" الذى صدر بالعربية فى عام 1951، وكان كتابا حسن الحظ مع قرائه، والكتاب الأول بالنسبة لأى كاتب يشبه الحب الأول، ذكرى تبقى معه إلى زمن طويل، لذا فإننى تابعت الأحداث فى إيران باهتمام خاص منذ نشر كتابى " إيران فوق بركان".
وعندما نشبت الثورة فى العراق عام 1958، تم الاستيلاء على كل الوثائق التى وجدت فى رئاسة حلف بغداد، وأرسلت إلى القاهرة فى طائرة خاصة، كان ذلك فى الأيام الأولى للثورة، عندما كان قائدها اللواء عبد الكريم قاسم شديد الإعجاب بالرئيس جمال عبد الناصر، وقبل أن يدب النزاع بينهما، وكانت إيران عضوا أساسيا فى حلف بغداد الذى كنت أهاجمه على صفحات الأهرام.
وعندما أتيح لى الإطلاع على وثائق الحلف السرية، سنحت لى الفرصة لكى أراجع مدى صحة افتراضاتى عما كان يدور فى اجتماعات الحلف، وكانت تجربة ممتعة، كما أننى تمكنت أيضا فيما بعد من أن أقارن بين المذكرات التى كنت أدونها عندما كنت مراسلا فى إيران من جهة، وبين الحقائق التى تكشفت فيما بعد من خلال نشر مجموعات ضخمة من الوثائق الأمريكية، كل ذلك ساعدنى أيضا على أن أتأمل جذور الدراما التى وصلت ذروتها فى الأشهر الأولى من عام 1979.
وفى أعقاب معارك 1967 فى الحرب مع إسرائيل، وجدت نفسى ألعب دورا فى إعادة صياغة السياسة المصرية تجاه إيران، فبعد حرب 1967 شعر الكثيرون منا فى مصر بالحاجة الماسة لتحالف جديد للقوى فى الشرق الأوسط، لا يضع حدا للخلافات بين العرب فحسب، بل لكى يحشد تأييد كل الدول الإسلامية فى المنطقة فى عملية المواجهة مع إسرائيل، وأحسسنا أن نزاعنا مع إيران، الذى يرجع تاريخه إلى أيام حلف بغداد، وأدى إلى قطع العلاقات الدبلوماسية، أصبح يقتضى مراجعة، وتلقيت فى ذلك الوقت رسالة ودية من الشاه مع السيد عباس مسعودى الذى كان إلى جانب عمله الصحفى يشغل منصب نائب رئيس مجلس الشيوخ إلى القاهرة عام 1968، ومرة أخرى عام 1969.
وبعد مناقشات طويلة اتفقنا فيما بيننا على الخطوات اللازمة لعودة العلاقات الدبلوماسية، بما فى ذلك إعداد البيان المشترك، وأحب أن أتصور أننى ساهمت فى إقناع الرئيس عبد الناصر بهذه الخطوة، التى كللت بالنجاح فى نهاية الأمر، وقبل رحيله فى سبتمبر 1970 بفترة وجيزة.
تلقيت دعوات عديدة من الشاه لزيارة طهران، وفى عام 1975 أمكن لهذه الزيارة المتأخرة أن تتم، وأدرت أحاديث طويلة مع الشاه نفسه، ومع رئيس الوزراء وقتها أمير عباس هوفيدا، ومع جامشيد أمزجار الذى خلف أمير عباس فى منصب رئيس الوزراء عامين، ومع الجنرال نعمت الله ناصرى، رئيس جهاز السافاك المخيف، ومع آخرين عديدين، كما تمكنت أيضا من مقابلة معارضى النظام والتحدث معهم، بما فى ذلك عديد من الطلبة الذين ينتمون إلى اليمين واليسار.
وبعد ثلاثة أعوام أعيدت الحلقة التى تربطنى بالدراما الإيرانية مرة أخرى، لكن فى مكان جديد، ومع ممثل جديد.
كنت فى باريس فى ديسمبر عام 1978، وتلقيت دعوة لزياة آية الله الخمينى، فى بيته المتواضع فى المنفى فى "نوفل لو شاتو"، وقمت بهذه الزيارة، وقضيت فى صحبته عدة ساعات، وتحدثت معه على انفراد وبالتفصيل فى عدة موضوعات متنوعة.
سألنى الخمينى بعد أن تحدثنا بعض الوقت، عما إذا كنت أريد أن أصلى العشاء، وعندما عبرت عن رغبتى فى ذلك أخبر حفيده أن يصحبنى إلى السرادق، وبعد الصلاة بدأ الخمينى فى مخاطبة مؤيديه.
وقد كان مقدرا لى أن أقابل الخمينى مرة ثانية بعد عودته المظفرة إلى طهران، ومرة أخرى قضيت ما يقرب من يوم أتناقش معه فى مدينة قم كما تحدثت مع ابنه أحمد، مساعده الأساسى، ومع حفيده حسين وهو من أعضاء حاشيته ذوى الرأى.
وأثناء هذه الزيارة سنحت لى الفرصة لمقابلة كل أعضاء المجلس الثورى، بما فى ذلك الحسن بنى صدر، الذى أصبح فيما بعد أول رئيس للجمهورية الإيرانية، كذلك معظم الشخصيات القيادية الدينية والساسة والعسكريين المتصلين بالنظام الجديد، كما تحدثت طويلا مع الطلبة الذين احتلوا السفارة الأمريكية، وقابلت كذلك مهدى بازرجان رئيس الوزراء الذى استقبلنى فى مكتبه الضخم، الذى رأيت فيه هوفيدا من قبل، وقد رفض بازرجان أن يستخدم منضدة سلفه المستديرة الفخمة، وفضل عليها منضدة عادية وبعض المقاعد، كان قد أمر بوضعها فى أحد أركان الغرفة.
كان رئيس الوزراء كريما معى إلى حد أنه جاء بدفتر مذكراته اليومية الخاصة والذى كان يدون فيه وقائع الأيام الأخيرة للنظام القديم، وقرأ على منها مقتطفات طويلة.
كما أننى مدين بالشكر أيضا وبشكل خاص لإبراهيم يزدى نائب رئيس الوزراء للشئون الثورية فى ذلك الوقت، لإتاحته الفرصة لى للإطلاع على ما تحويه خزانته من عدة وثائق هامة تتصل بنظام الشاه، والتى ألقت كثيرا من الضوء على الأحداث الأخيرة.
وبعد فترة وجيزة من قيام الثورة وجدت نفسى مرة أخرى مستغرقا فى شئون إيران بشكل مباشر، بل وأصبحت أحد الذين وجدوا أنفسهم مشتركين فى المفاوضات من أجل إطلاق سراح الرهائن الأمريكيين.
فى العام 1982 صدر كتابى " مدافع آية الله... قصة إيران والثورة".
فى الطبعة العربية منه عدت إلى العنوان الأصلى الذى عملت تحته طوال فترة إعداده، وقد رأى الناشرون فى بريطانيا وأمريكا أن يعدلوا عنه فى اللحظة الأخيرة إلى عنوان تقليدى آخر هو " عودة آية الله".
كان رأيهم أن العنوان الأول يعطى للقارئ انطباعا عن الكتاب لا يتفق مع حقيقته، فقد يتصوره البعض عرضا صحفيا سريعا لوقائع الثورة الإيرانية، من نوع ما يصدر عادة عن بعض الأحداث الكبرى، وكأنه من حبوب البلع السريع التى تمتلئ بها الصيدليات، فالقارئ الإنجليزى أو الأمريكى كان فى رأيهم لا يعرف اهتمامى بإيران، وكتابى الأول عن الثورة الإيرانية أيام الدكتور مصدق يعود إلى قرابة ثلاثين سنة مضت، ولقد تصورت أن القارئ العربى يعرف الحقيقة، وهكذا رجحت أن أعود فى الطبعة العربية إلى عنوانى الأصلى الذى عشت معه سنتين فى الإعداد للكتاب.
لم أكتب هذا الكتاب من منازلهم أو من مكاتبهم كما يقولون، وإنما بدأت مع آية الله الخمينى من باريس، وتبعته إلى طهران، وعشت معه فى قم، وكنت الضيف الوحيد الذى دعاه الطلبة الإيرانيوين الذين احتجزوا الرهائن فى السفارة الأمريكية إلى زيارتهم فى معقلهم.
وقضيت أياما أقلب فى وثائق وزارة الخارجية الإيرانية والقصر الإمبراطورى" نيافاران" وأقابل كل من أردت مقابلتهم من تبريز إلى أصفهان، ومن قم إلى طهران.
وكان أن اتصل بى وزير الخارجية الأمريكية وقتها " ساويرس فانس" يسألنى إن كنت مستعدا أن أتوسط فى قضية الرهائن، ودعانى إلى مقابلته فى واشنطن لبحث المسألة، ولم تكن ارتباطاتى المسبقة تسمح لى بالذهاب إلى واشنطن يومها، فأرسل لى مساعده لشئون الشرق الأوسط " هارولد سوندرز" يقابلنى فى لندن، ثم يعود إلى مقابلتى بعد ذلك فى قلعة " بلريف" بجوار جنيف، حيث كنت أنزل لبضعة أيام ضيفا على الأمير صدر الدين أغاخان، وقد تسبب توسطى فى قضية الرهائن فى أزمة انتظرتنى فى مصر عندما عدت إليها.
كان الرئيس السادات متضايقا وقال للسفير الأمريكى فى مصر: هل لم تجد واشنطن بين الأربعين مليون مصرى أحدا توسطه فى مشكلة الرهائن غيره؟
ورد السفير الأمريكى قائلا: من سوء الحظ أنه كان الوحيد بين الأربعين مليونا الذى يعرف الخمينى.
الغريب أن موضوع توسطى فى مشكلة الرهائن كان موضوع حملة على فى مصر.
كان دورى فى الكتابة عن إيران أن أشرح للعالم لماذا حدث ما حدث هناك".
لم أمنح الثورة الإيرنية تعاطفا غير مشروط، أنا أعجبت بها كظاهرة إنسانية، أعجبت بالخمينى كشخصية، لكننى وصفته فى مقالاتى بأنه مثل الرصاصة التى انطلقت من القرن السابع واستقرت فى قلب القرن العشرين، رجل مقطوع من حقائق الدنيا وحقائق العصر الحديث، لكنه يمثل شيئا فى تاريخ الشيعة.
كل ما فعلته أننى حاولت أن أشرح ماذا حدث فى إيران، لم يكن يهمنى الدفاع عنها، كنت أرى المشاكل التى مرت بها، وطبيعة التناقضات التى تعيشها، والأخطاء الفظيعة التى وقعت فيها، وارتكبتها، لقد ارتبكت الثورة الإيرانية أخطاء بشعة، لكن هذه هى طبيعة التاريخ.
كل كاتب فى الدنيا لابد أن يأخذ موقفا، لا يوجد كاتب فى الدنيا كلها محايد.
ولذلك فأنا أعترف أن الثورة الإيرانية بهرتنى فى أيامها الأولى، ولذلك اجتهدت فى تفسيرها وشرحها للعالم، ولو عاد القارئ إلى الفصول الثلاثة الأخيرة فى " مدافع آية الله" لوجد أننى توقعت ما حدث، وللأسف فقد صدقت توقعاتى عن خلافات الداخل والخارج، وعن رجال الدين والسياسيين والدور الذى لعبه الجيش والإرهاب والإرهاب المضاد.
(12)
عندما نصل إلى "فلسفة الثورة" الذى صدر فى العام 1954 حاملا اسم عبد الناصر، لم أكن الأقرب إلى الرئيس وقتها.
كنت أقابله فى هذه الفترة وكنا نتكلم، كنا نتكلم كثيرا، وبالنسبة لفلسفة الثورة كانت هناك رغبة فى وضع نوع من المنهج بشكل أو آخر، إن مبادئ الثورة كتبت فيما بعد، كانت هذه النقاط محسوسة فى الجو وفى المناخ العام كمطالب للثورة، لكنها لم تتم صياغتها، وتمت الصياغة بعد الثورة، بعد البيان الذى أعلن عن قيام الثورة.
كنت وقتها أريد أن أعمل شيئا لمجلة "آخر ساعة"، كنت رئيس التحرير، ولذلك تجد أن فلسفة الثورة ظهرت أول ما ظهرت فى مجلة آخر ساعة.
كنا قد بدأنا نتكلم، وكانت علاقتنا قد اقتربت، لكنها لم تكن قد التحمت الالتحام الذى جرى بعد ذلك.
كنا جالسين جمال عبد الناصر وأنا نتكلم، وهو لم يعرض على أن أكتب شيئا، وأنا لم أعرض ولم أطلب، لكن عندما كتبت أنا محصلة الكلام الذى دار بيننا فى ثلاثة أجزاء ونشرت فى آخر ساعة، اكتشف هو أن هذه الحلقات معبرة، هكذا بدأت الحكاية، لم تبدأ بتخطيط وتصميم.
(13)
لم أكتب للطبعة الإنجليزية من كتابى " الطريق إلى رمضان" أية مقدمات، وإنما تركت الكتاب يقدم نفسه بنفسه، وتركته للناس يحكمون عليه.
ولم أكن أنوى أن أكتب للطبعة العربية – وهى ترجمة له عن الإنجليزية – أية مقدمات عملا بنفس المنطق، منطق أن أترك الكتاب يقدم نفسه بنفسه وأترك للناس أن يحكموا عليه.
لكن الضجة التى ثارت حينما نشرت بعض الأجزاء منه مسلسلة فى جريدة " النهار " اللبنانية أو منقولة عنها هى التى دعتنى إلى محاولة كتابة مقدمة.
فعندما بدأت النهار وتبعتها صحف أخرى فى نشر حلقات مسلسلة من بعض فصول هذا الكتاب" الطريق إلى رمضان" كنت فى زيارة إلى إيران، أحاول أن أستكمل كتابى عن العالم العربى بنظرة عليه واقفا عند تخومه القريبة جغرافيا أو حضاريا، وعدت لأجد ضجة لم تكن لى على بال، ووجدت لازما على أن أوضح وجهة نظرى كاملة أمام من ساءهم بعض ما كتبت عن غير قصد، وبغير سبب، فى صلب الكتاب يمكن أن يسيئ.
وكنت أرى أنه من الأولى قبل إبداء رأى فى الكتاب أن ننتظر حتى يكون أمامنا نص كامل له، فهل يمكن الحكم على كتاب من مقتطفات تنتقى منه للنشر الصحفى، وقلت ذلك تأسيسا على أن النقاد فى العالم كله لا يحكمون على كتاب قبل أن يكون أمامهم، يعرض عليهم كل قصته، ومن ثم تكون أمامهم الفرصة لتقييمه على أساس سليم.
وتساءلت: لماذا القفز بهذه السرعة إلى مقولة تزييف التاريخ، ولماذ أقوم أنا بذلك؟ وأى مصلحة لى فيه؟
يقول المنطق أنه عندما يزيف كاتب التاريخ، فهو يفعل ذلك لمصلحة، يزيف التاريخ لحساب حاكم أو لمصلحة سلطة، فالمصالح عند الاثنين، المصالح عند الأحياء الأقوياء، وليست عند الموتى والضعفاء.
وكنت اقول لنفسى أنه يمكن أن يكون هناك خطأ وقعت فيه؟
لكننى سرعان ما كنت أعود وأقول: حتى إذا حدث ذلك فله من حسن النية شفيع، وأنا لم أدع لنفسى صفة المؤرخ، فالذين عاشوا وقائع من التاريخ لا يستطيعون التأريخ لها، لأن رؤيتهم مشوبة بتجربتهم الذاتية، وقصارى ما يستطيعون تقديمه هو شهادة للتاريخ وليست تأريخا، وهناك فارق ضخم بين الاثنين، ومع ذلك فلعلنى أكون أسعد الناس لو أن أحدا قال لى: أنك كتبت كذا وكذا... ولكن الحقيقة كانت كذا وكذا، ولو أننى اقتنعت لسجلت اقتناعى، ولتراجعت عما كتبت شاكرا ومقدرا لشعاع من الحقيقة أنار أمامى ما كان شاحبا أو معتما.
لقد ظلت القاعدة عندى أنه بالنسبة إلى ما أبديت من آراء – بعد ما رويت من وقائع ما عشت – فإن رأيى هو رأيى أتحمل مسئوليته وقد فعلت، ولم أخف أنه كان لى رأى مختلف فى طريقة إدارة الصراع السياسى منذ انتهت حرب أكتوبر العظيمة، ولكنى قلت أن هناك مسافة شاسعة بين الرأى والقرار.
قلت ذلك فى توضيح وجهة نظرى كمنطق عام، ثم دخلت فى بعض التفاصيل أتخذ منها نماذج لا أكثر ولا أقل.
لقد ذكروا أننى كتبت أنه كانت هناك خطط لعمليات هجومية قبل خطة بدر التى نفذت بجسارة واقتدار فى أكتوبر 1973، وهذا صحيح بالقطع، ولست أعرف ماذا فيه يسئ إلى أحد؟
أية إساءة إلى أحد أن أقول أن الفريق عبد المنعم رياض بدأ مع نهاية سنة 1967 يضع التصورات الأولى لعملية هجومية؟
ذهبت إلى أن العبرة ليست بالخطط، وإنما العبرة بالقرار السياسى الذى يضع هذه الخطط موضع التنفيذ ولا يمكن لقوة على الأرض أن تنسب قرار أكتوبر العظيم إلى أحد غير صانعه، وهو أنور السادات، ذلك قرار سوف يظل مجدا مقيما لمصر ومجدا مقيما للعرب، ولقد كنت بنفسى أول من أطلق على أنور السادات " صاحب قرار أكتوبر"، ولا أظن أن أنور السادات يريد مدخلا إلى التاريخ غير كونه فعلا" صاحب قرار أكتوبر" العظيم.
وذكر من لم يقرأوا الكتاب أننى تحيزت للفريق محمد أحمد صادق، ولا أظننى فعلت ذلك، لقد أدى الرجل واجبه والحكم عليه للتاريخ، أخطأ أوأصاب، ومع ذلك فقد كنت أثبت اختلافى مع الفريق صادق فى الكتاب، ثم أنه لم تكن تربطنى صداقة خاصة أو وثيقة بالفريق صادق.
لقد عرفت الرجل عندما كان يقود القوت المسلحة المصرية، وقدرت فيه مزاياه، وأختلف مع العديد من آرائه، ولكنى رفضت أن أقاطعه بعد أن فقد منصبه، ربما لأنى أعتبر أن معرفة الناس من خلال مناصبهم – فقط – عيب – لا يليق.
وذكروا أننى أعطيت للمملكة العربية السعودية دورا فى قرار اخراج الخبراء السوفيت من مصر، ولم يكن ذلك من بين ما كتبت، لقد أشرت إلى بعض الشخصيات السعودية فى معرض رسالة وصلت إلى الرئيس السادات" من تحت المائدة"، كما قال بنفسه فى مؤتمر صحفى، رسالة قيل لى فيها: أرح نفسك، الباب هنا والمفتاح هنا والحل عندنا فى واشنطن.
قلت أن قرار اخراج الخبراء السوفيت كان فى رأس أنور السادات، وكان قد وصل إليه بعد ظروف رآها داعية إليه، وقد شرحت كثيرا من هذه الظروف ضمن فصول هذا الكتاب، وفيما يتعلق بالرسالة التى جاءت " من تحت المائدة" حسب تعبير الرئيس السادات فلقد كان كل ما فعلته هو أننى تساءلت عمن حمل هذه الرسالة؟... وكان ذلك كل شئ.
تطور الهجوم على – ولعلى أقول تدهور – إلى درجة استعمال وصف " الكذاب: فى إشارة صريحة إلى، والغريب أن ذلك كان فى معرض كلام يقول بأنه لم تكن هناك خطط هجومية مصرية، قبل أن يتولى المشير أحمد اسماعيل قيادة القوات المسلحة المصرية.
كان اعتقادى أن نقل هذا الكلام جاء مشوها.
فكيف يمكن أن يقال بأنه لم تكن هناك خطط هجومية مصرية قبل قيادة أحمد اسماعيل، فى حين أن أحمد اسماعيل لم يتول منصبه إلا فى أكتوبر 1972، بينما نحن نتذكر أن الرئيس السادات أعلن سنة 1971 سنة للحسم، وكان متجها إلى معركة قبل نهايتها، لولا أن فاجأته ظروف الحرب فى شبه القارة الهندية بين الهند وباكستان كما أعلن بنفسه للأمة، فهل يعقل أنه كان متجها إلى معركة من دون خطة، أو أن المعقول أكثر هو أنه كانت هناك خطط قبل أحمد إسماعيل.
وأعترف أن وصف " الكداب" لم يغضبنى موجها من مصدره، ولم ألجأ إلى القضاء – كما أراد بعض الأصدقاء – لأنى ببساطة لم أعتبر أننى أهنت، ومهما يكن فلقد أحسست بعرفان حين بعث الرئيس أنور السادات من سالزبورج يطلب التحقيق مع الذين استغلوا ما نسب إليه خلافا لما قال، وكان مطلبه فى التحقيق أنه لا يريد أن ينسب إليه ما لم يقله، وأنه لا يقبل أن يستغل فى تسوية حسابات شخصية.
من جانبى لم تكن لدى حسابات شخصية أريد تسويتها مع أحد، فأنا أعرف نفسى، وأظننى أعرف الآخرين، وإذا قررت أن أتكلم فلن يكون ما أقوم به تصفية لحساب شخصى، وإنما سيكون حساب قيم أخلاقية ووطنية.
كانت لى ملاحظتان على ما دار أمامى.
الأولى أن من بين مشاكلى أننى أكره الخوف لأنى أؤمن بالحب دون أن أسمح لنفسى بالمتاجرة فيه، فقد أحببت جمال عبد الناصر، ولهذا لم أخف منه، وأحببت أنور السادات ولهذا لا أخاف منه، وأتذكر أننى قلت له مرة: إن الذين يخافون لا يحبون، والذين لا يحبون لا يخافون.
والثانية هى أننى كنت فى لندن أثناء الاحتفال بصدور الكتاب، وبين برامج الاحتفال كان هناك مؤتمر صحفى فى مبنى دار" كولينز" للنشر، حضره أكثر من مائة صحفى بريطانى وغير بريطانى من الذين يعملون ويتابعون الأخبار من لندن.
دخلت إلى المؤتمر منتظرا أن يتوجه بعضهم أو أحدهم بسؤال عن الضجة التى ثارت هنا حول بعض الوقائع فى كتابى.
دهشت، وتساءلت: أليس غريبا أن واحدا منهم – حتى واحدا فقط – لم يوجه إلى سؤالا كنت أنتظره.
سؤال يقول: لقد ذكرت كذا وكذا، ولكنهم خالفوك فيما ذكرت، فما هو تعليقك؟
لم أسمع هذا السؤال أو شيئا قريبا منه، ولم أعط جوابا بالتزيد أو بالتطفل، لقد وجدوها زوبعة فى فنجان صغير للقهوة العربية، فلم يشربوا ولا أنا شربت.
(14)
كانت شبكة قنوات الأخبار التليفزيونية الأمريكية سى إن إن أول من نبهنى إلى أن عشرين سنة مضت على الزيارة الشهيرة التى قام بها الرئيس أنور السادات إلى القدس فى شهر نوفمبر 1977، والتى داهمت العالم مثل زلزال تتوالى توابعه.
وفى مناسبة الذكرى العشرين لتلك المفاجأة السياسية نوفمبر 1977 فإن شبكة قنوات الأخبار التليفزيونية الأمريكية اتصلت تدعونى أمام مشاهديها فى العالم عن النتائج والآثار التى توالت وتداعت على العالم العربى والشرق الأوسط من يومها حتى الآن.
واعتذرت لشبكة قنوات التليفزيون الأمريكية وشعورى أنه ليس هناك داع لتقليب مواجع مصرية وعربية أمام جمهور عالمى.
وفى اليوم التالى مباشرة جاءتنى "روزاليوسف" ممثلة فى نائب رئيس تحريرها الأستاذ عادل حمودة وكان طلبه هو نفس الطلب الذى اعتذرت عن تلبيته لشبكة التليفزيون الأمريكية، وأفضيت للزميل بما لم أقله لغيره، لأن عرض الأشجان على الغرباء هوان.
لكن الزميل الصديق لم يقتنع وظنه أو حسن ظنه أن الحديث أمام جمهور مصرى وعربى ليس تقليبا للمواجع، وإنما هو فحص جديد بالدرس لتجربة سياسية غير مسبوقة ولعلها غير ملحوقة فى تاريخنا.
وكان عادل حمودة يحمل معه نسخة من كتاب صدر لى قبل عشرين عاما تقريبا بعنوان" حديث المبادرة" وكان يرجع إلى صفحات منه أثناء لقائنا وحديثنا، والكتاب يحوى مجموعة مقالات بدأت نشرها بعد أربعة شهور من الزلزال ثم ضمها جميعا غلاف ظهرت به فى بيروت أوائل مايو سنة 1978 أى بعد ستة شهور بالضبط.
وهكذا فإن شبكة سى إن إن ذكرتنى بالمبادة، ثم إن مجلة روزاليوسف ذكرتنى بحديث المبادرة.
ويبدو أن آخرين غيرى لم يكونوا فى حاجة لمن يذكرهم سواء بالمبادرة أو حديث المبادرة، فلم ألبث أن وجدت أمامى اقتراحا من دار الشروق بإعادة نشر الكتاب مرة أخرى بعد عشرين سنة، وقد ترددت رغم شعور يراودنى بأن ذلك الكتاب " حديث المبادرة " لم يصل فى حينه بقدر كاف إلى مصر، وكنت أعرف أن بيروت أصدرت أكثر من أربع عشرة طبعه له، لكن الكتاب ظل مصادرا فى مصر لسنوات طويلة رغم تسرب نسخ منه – قليلة كانت أو كثيرة لست متأكدا – من خلال ثغرات يصعب على أية رقابة أن تتفاداها أو تسدها مهما كانت صرامة إجراءاتها.
وكان مبعث ترددى أن كل كتاب – والكتاب السياسى بالذات – كلمة قيلت فى زمانها ومكانها، ثم مضى سيل الحوادث متدفقا وبالطبع متجاوزا، وبالتالى فإن استرجاع كلمة سبق زمانها ومكانها، تلكؤ ليست له فائدة محققة، ثم إن هناك غير التلكؤ مظنة غرض حتى وإن لم يظهر بذاته على السطح، ذلك أن تكرار كلمة سبقت فى الزمان والمكان مسألة لا تقبل غير إحدى حالتين، حالة الخطأ المحقق بعد مضى السنين، وهنا فإن غرض الكلمة يكون التغطية على خطأه بإعادة تفسير ما قال قاصدا أن يشوش أو يلون.
وأما الحالة الثانية فهى الصواب المبين بعد مضى السنين أيضا، وهنا فإن غرض صاحب الكلمة يكون ادعاء الحكمة بإظهار صواب ما قال مبكرا، مقلدا الديك الذى صاح عند الفجر، متوهما أنه لولا صيحته ما لاح نور الصبح ولا طلع النهار.
مع بواعثى ترددى طلبت نسخة من " حديث المبادرة" أعيد قراءته، وفوجئت عندما لم أجده، ومعنى ذلك أن كل ما وصل إلى من النسخ بالتهريب خرج من عندى بالتسريب إلى حوزة آخرين، تفضلوا بطلبه ووجدت حقا ان أستجيب، وأظن أننى كنت تواقا أن يقرأ أحباب وأصدقاء لى فى مصر ما نشرته خارجها، وهكذا فلم يكن أمام مكتبى غير شراء نسختين – هما الأخيرتين – من مكتبة مدبولى، إحداهما أخذتها أعيد قراءة ما كتبت قبل عشرين سنة، وأما النسخة الثانية فقد حجزت للحفظ والتسجيل، وحتى لا يجئ يوم يكتشف فيه كاتب أنه لا يمتلك نصا لما كتب.
حين أمسكت بنسخة الكتاب، وقبل أن اعيد قراءته، فقد رحت أستدعى ظروف نشره وتوفقت وقفة استذكار أمام عنوانه، وقد تأثرت فى صياغته وقتها بالقول المأثور عن " حديث الإفك"، الذى تكررت الإشارة إليه فى روايات السيرة النبوية، والشاهد أن إيقاع العبارتين " حديث المبادرة" و" حديث الإفك" يحوى من التماثل أكثر مما تحتمله المصادفة، وأحسب أن ذلك لم يفت على كثيرين وقتها، وربما لم يفت على الرئيس السادات نفسه.
قبل أن أفتح غلاف الكتاب رحت أقلب أوراق ملف يضم قصاصات صحف – من أيامها – وقد طلبتها استعادة للاجواء مع مناسبتها، وقبل إعادة قراءة نص الكتاب مرة أخرى بعد عشرين سنة.
كان نشر الكتاب فى بيروت يوم 15 مايو 1978.
وفى القاهرة يوم 28 مايو 1978 تطالعنى قصاصة من الأهرام ومن قلب الصفحة الأولى على خمسة أعمدة بعنوان كبير يقول: إحالة 5 صحفيين بينهم هيكل إلى المدعى الإشتراكى، وتحت عنوان فرعى : الداخلية تعلن: الصحفيون الخمسة شهروا بمصر وهددودا سلامة الجبهة الداخلية.
ثم يبدأ الخبر بعد ذلك فيقول: بعث السيد محمد نبوى إسماعيل وزير الداخلية أمس إلى المدعى الإشتراكى قائمة أولى بأسماء خمسة صحفيين مصريين موجودين فى الداخل، وقال وزير الداخلية فى رسالته إلى المدعى الإشتراكى إن الصحفيين الخمسة قد دأبوا على إرسال أخبار ومقالات إلى الخارج تشهر بمصر وتهدد سلامة الجبهة الداخلية، والصحفيون الخمسة هم: محمد حسنين هيكل ومحمد سيد أحمد وأحمد حمروش وصلاح عيسى وأحمد فؤاد نجم.
وقد بعثت وزارة الداخلية إلى المدعى الاشتراكى بالوثائق الخاصة التى سيتناولها التحقيق مع الصحفيين الخمسة وفيها صور المقالات التى كتبوها.
وقد أصدر المدعى الاشتراكى قرارا بمنع الصحفيين الخمسة من السفر إلى الخارج حتى يجرى التحقيق معهم.
ثم مضى سياق الخبر بعد ذلك إلى تفاصيل أوسع وأشمل.
قصاصة أخرى فى الملف تحوى برقية صادرة بتاريخ 29 مايو بتعليق لى على الموضوع بعثت بها وكالة رويترز، وكان عنوانها " هيكل يقول لم أسئ إلى مصر... ومن حقى أن أختلف مع الرئيس السادات".
وبدأ خبر رويترز على النحو التالى:
" صرح محمد حسنين هيكل لوكالة روتيرز بأنه لم يستطع فهم القرار الذى صدر بتحويله إلى المدعى الاشتراكى فى مصر للتحقيق معه بتهمة الإساءة إلى مصر، ونفى هيكل أنه يمكن أن يسئ إلى وطنه، لكنه أضاف قائلا: إننى بالتأكيد أختلف مع الرئيس السادات فى كيفية تحقيق سلام فى الشرق الأوسط، وكنت أظن أن ذلك حق كل مواطن.
قصاصة ثالثة الصفحة الأولى من الأهرام بتاريخ 15 يونيو 1978 وبداية ما فيها يقول: بدأ أمس المستشار أنور حبيب المدعى الاشتراكى التحقيق مع الأستاذ محمد حسنين هيكل فيما نسب إليه من نشر مقالات فى الداخل والخارج تمس سمعة مصر، وحضر التحقيق الذى استمر ساعة ونصف الساعة الأستاذ ممتاز نصار محامى المدعى عليه والسيد حسن الشرقاوى سكرتير عام نقابة الصحفيين ممثلا للنقابة، ويستأنف المدعى العام الاشتراكى التحقيق صباح اليوم.
قصاصة رابعة ببرقية لوكالة الأسوشيتدبرس صادرة من القاهرة يوم بدء تحقيق المدعى الاشتراكى فى 15 يونيو 1978 تقول مقدمتها بالنص:
" جرى استجواب محمد حسنين هيكل مطولا أمس بواسطة المستشار أنور حبيب المدعى الاشتراكى واثنين من مساعديه هما المستشار عبد الرحيم نافع والمستشار أحمد سمير سامى، وذلك بشأن مقالات نشرها هيكل خارج مصر، وبعد الاستجواب الأولى الذى استغرق ساعتين ونصف الساعة قال محمد حسنين هيكل للصحفيين: لقد كان جو التحقيق مهذبا، ولا أستطيع أن أضيف أكثر لأن المدعى الاشتراكى طلب منى ألا أتحدث للصحفيين عن تفاصيل التحقيق، وأضاف هيكل أنه شديد العرفان للصحافة العالمية والعربية، لأنها تتابع قضيته بإهتمام، لكنه يأسف لأنه لا يستطيع أن يساعد فى إلقاء ضوء على موضوعات التحقيق معه".
ثم أضافت الوكالة بعد ذلك قائلة: أن بدء التحقيق مع هيكل كان موضوع تعليقات فى معظم صحف الولايات المتحدة وأوربا، وقد خصصت خمس صحف كبيرة فى العالم وهى نيويورك تيمس وواشنطن بوست الأمريكيين والموند الفرنسية والتيمس الإنجليزية والكورييرا ديلا سيرا الإيطالية افتتاحياتها اليوم لموضوع التحقيق مع هيكل.
ثم استطردت الاسوشيتدبرس إن هيكل يواجه إقصاءه من نقابة الصحفيين ومنعه نهائيا داخل مصر أو خارجها، وربما يواجه عقوبة السجن ما بين خمس سنوات وسبع سنوات.
ويتضخم ملف القصاصات على هذا النحو مع استمرار تحقيق المدعى الاشتراكى معى صيفا بأكمله من يونيو وحتى أكتوبر 1978.
وإلى جانب ذلك وبعده لأيام وشهور عشرات من المقالات – أو هل أقول مئات – ورسوم كارتورية تحتها إشارات وتعليقات مؤادها جميعا أننى أسأت إلى مصر وخرجت على عهدها، بل أكثر من ذلك أننى تركت حمى الوطن ولجأت إلى حمى غيره، مرة كما قيل فى بيروت، ومرة فى لندن، بل وحتى مرة فى ليبيا، بينما أنا لم أطأ أرض ليبيا، رغم أنها جزء من وطنى العربى الكبير، منذ سنة 1970، ثم إننى لم ألتق بالعقيد معمر القذافى رغم أنه واحد من أشهر قادة العالم العربى بعد سنة 1974، أى منذ تركت مكانى فى الأهرام، وكان ذلك من حرص شديد إلى درجة التعسف على أن تكون الخطوط واضحة وتظل الحدود ظاهرة تحت شعاع الشمس آمنة ومحترمة.
وكنت أطالع ما يكتب عنى فى تلك الأيام استقرئ اتجاهاته، دون أن أدقق فى نصوصه قائلا لنفسى ولمن حولى: إن هذه كلها قراءات مؤجلة إلى زمن قادم.
والواقع أننى كنت أشعر أن قراءتى لها بالنصوص يمكن أن تؤثر على مشاعرى الإنسانية، وربما على توازنى الفكرى والنفسى، أتمنى الحفاظ عليه.
وفى الغالب فقد كنت أطل على العناوين وأمر بعينى على السطور وأتطلع إلى أسماء الكتاب وبينهم من كانوا – وبعضهم ما زالوا – فى موضع القرب والود منى.
والحقيقة أننى كنت أتفهم وأعذر، فالضغوط عنيفة، ويد السلطة فى الدولة الشرقية غليظة، ثم إنه ليس يصح لرجل اختار لنفسه أن يطلب من الآخرين اعتماد موقفه، فلكل رجل أولوياته وحتى حساباته، وذلك حقه، هكذا كنت كما قلت أتفهم وأعذر ولا أزال.
ولربما أعترف ودون مكابرة أننى أحسست بالوجع مرة واحدة وكان ذلك حين استيقظت فى الصباح يوما ووجدت عنوانا رئيسيا على الصفحة الأولى من جريدة الأخبار موضوعه عنى، وكان العنوان من كلمة واحدة: " الكذاب".
ولم يكن مبعث ما أحسست به مجرد ما طالعت، لكن الذى حدث أن أصغر أبنائى وهو يومها صبى فى التاسعة من عمره مر على – كما تعود كل صباح – فى طريقه إلى مدرسته عارفا أننى فى ذلك الوقت أكون جالسا لفنجان شاى مع صحف الصباح.
كنت قد طالعت العنوان فى اللحظة التى سمعت صوته قادما إلى حيث أجلس، وخطر ببالى أن أدارى الجريدة حتى لا يرى ما رأيت، وقلقى عليه أنه مكشوف لمؤثرات ما يقرأ بينما أنا محصن ضده، ثم عدلت عن المحاولة تاركا الأمور لطبائعها دون انفعال أو افتعال، وجاء الصبى إلى جوارى وكانت تحيته فى الصباح ندية وحلوة، ثم وقع نظره على مجموع الصحف، وكنت أزحتها قليلا لألتفت له، ولمح بسرعة ما كنت أتمنى أن أخفيه وراح يقرأ، ولم أعترضه بجد أو بمزاح لأثنيه أو لأخفف عنه، وقرأ الصبى ما قرأ ثم تطلع إلى وفى عينيه حيرة لا يعرف كيف يداريها ولا يعرف كيف يعبر عنها، ثم تحولت الحيرة فى ومضة إلى نظرة امتزج فيها الحزن بالغضب، وبادرته بأنى لست متضايقا ولا أريده أن يتضايق.
ثم قلت له: ذات يوم سوف أجلس إليك وسوف أحدثك طويلا عما نحن فيه الآن، ولكننى فى هذه اللحظة أرجوك ألا تشغل بالك بشئ غير درسك.
ووقف الصبى أمامى وغامت عيناه بدمعة أحسست به يغالبها ورجوت من أعماقى أن يغلبها ولا تغليه، وأحسست بالعجز عن أى قول أو فعل، وكان الصبى رائعا، فقد اختصر الموقف بفطرة البراءة فيه وأمسك برأسى يقبلها ومضى صامتا.
تلك اللحظة أذكرها ولا أنساها، وأعترف أنى بعدها – وكما يفعل غيرى حين يلجئون إلى المعلقات فى ذاكرتهم من المأثورات، ظللت لعدة أيام أتأسى بترديد الآية القرآنية" سيعملون غدا من الكذاب الأشر".
لكن الغد وقتها كان ما زال بعيدا فى الغيب، وكان وعده بالعلم محجوبا وراء أجواء رمادية معبأة باحتمالات مجهولة، لا أحد يعرف ماذا تترك بعدها من أثر؟ وماذا تبقى وماذا تذر؟
أزحت ملف القصاصات وفتحت غلاف الكتاب الذى استدعى العواصف كلها ورحت أقرأ وأقرأ وأستعيد وأستعيد وأراجع وأراجع، وحينما قاربت نهاية الكتاب، وجدتنى أقترب من التفكير بجد فى اقتراح إعادة نشره، وكانت أسبابى أبعد ما تكون عن الرغبة فى التغطية على خطأ أو الادعاء بصواب.
كانت الأسباب التى راحت تراودنى إزاء اقتراح إعادة نشر حديث المبادرة مرة أخرى بعد عشرين سنة أسبابا كلها فيما أتصور موضوعية.
لقد جرى نشر المقالات ثم جرى طبع الكتاب بينما أنا مقيم فى مصر لم أفارقها يوما واحدا، وعندما صدر قرار التحقيق معى أمام المدعى الاشتراكى " وبمقتضى قانون العيب" فقد جرى إعلانى فى مكتبى وحين أرادوا مصادرة جوار سفرى فقد أخذوه من يدى مباشرة.
ومثلت أمام تحقيق غريب فى بابه أجراه معى المدعى الاشتراكى أنور حبيب، وطال التحقيق صيفا بأكلمه، وطلبت نسخة من المحاضر ولم يستجب لطلبى أحد، لكن أحد الكرام تطوع وجاء إلى بها ونشرتها بدورها فى كتاب تحت عنوان " وقائع سياسى أمام المدعى الاشتراكى".
ومضت سنوات طويلة من سنة 1977 إلى سنة 1981، ولم يحدث لى شئ إلا حملة إعلامية تؤجج نيرانها بين الحين والآخر خطبة للرئيس السادات يختصنى فيها بالكثير من استهجانه وضيقه بمواقفى، لكن السلاسل والقيود بقيت على رفوفها حتى سبتمبر 1981 حين جرى اعتقالى واعتقال آخرين.
بين التاريخين أربع سنوات كاملة، وخلال تلك الفترة المزدحمة بالحدة والضيق فقد أبدى كثيرون خارج مصر – فى العالم العربى وخارجه – كرما يعرض الملجأ والمأمن بعيدا عن احتمال الخطر، وأشهد إننى لم أجد داعيا للقبول رغم عرفانى بالفضل.
كان اعتقادى باستمرار أن الشعب المصرى قادر على الحماية حتى وإن لم يكن قادرا على التصدى.
وكان تحسبى باستمرار أن اللجوء السياسى خارج الأوطان يخلع جذر الشجرة من أرضها، ثم إنه يرهن الإرادة لحيازة أو لرهن تفرضه الظروف على أى لاجئ فهو فى اللحظة التى ينجو فيها بنفسه من السلطة وفى وطنه يجد نفسه تلقائيا تحت سلطة أخرى يحتاجها بأكثر مما تحتاجه.
وعلى الأرجح فإنه فى الشهر الأول من التجائه إلى دولة أخرى يقابل رئيسها، وفى الشهر الثانى يقابل أحد وزرائها، وفى الشهر الثالث يكون المسئول عنه رئيس مخابراتها، وفى الشهر الرابع يكون عليه أن يؤقلم نفسه على التعامل مع واحد من ضباط المخابرات على أفضل الإحتمالات.
ولم يكن ذلك ما أريد لنفسى، والواقع أننى كنت فى غنى عنه لأنى كنت أشعر بذلك الدرع غير المرئى من حماية الرأى العام فى مصر، حماية بالسلب وإن لم تكن بالإيجاب.
(15)
لم تخطر فكرة كتابى " أحاديث فى العاصفة" لى، وإنما طرت لغيرى، وبعد تفكير لم يطل رحبت بهاـ صاحب الفكرة الأصلى هو دار الشروق، وملخص الفكرة هو جمع ونشر أحاديث صحفية أجرتها معى الصحف العربية والأجنبية ونشرت خارج مصر فى أيام لم يكن مسموحا لى أن أنشر – فضلا عن أن أكتب – داخلها.
تأملت الفكرة ثم رحبت بها، وكانت دوافعى كما يلى:
أولا: نشرهذه الأحاديث يسد فجوة زمان حوصرت فيها آرائى فى شئون الساعة وأحداثها، وصحيح أنها شئون وأحداث سبق توقيتها، ومع ذلك بدا لى أن جمعها ونشرها فى كتاب يحمل السجل كاملا وواضحا، وهذا فى حد ذاته مطلوب.
ثانيا: إنه وإن كان التوقيت الذى صدرت فيه هذه الأحاديث قد سبق زمانا، فإن موضوعات هذه الأحداث لا تزال حالة وربما أيضا لاحقة، فبعض الأحداث قد يذهب عنها وهجها الإخبارى بالتوقيت، لكن بعض قيمتها يظل باقيا لأن الأحداث الهامة تتحول فى كثير من الأحيان من أخبار وقضايا.
وثالثا: وهذه نقطة مهمة تستحق بعض الإفاضة، فإن مجموعة الأحاديث التى أدليت بها لتنشر خارج مصر – وخصوصا فى العالم العربى – كانت هى الذريعة التى وقع الاستناد إليها فى تلك الأيام للترويج لتهمة غريبة وجهت إلى – كتابة وخطابة – تدعى بأننى أسأت إلى سمعة مصر خارجها، وتذرعا بها جرى سحب جوازى سفرى، منعى من مغادرة مصر، وتحويلى إلى المدعى الإشتراكى للتحقيق معى طوال ثلاثة شهور من صيف 1978.
وقتها كان المناخ المحيط بى غريبا وممعنا فى غرابته.
من ناحية هناك من نشطوا للترويج بأننى هاجرت من مصر وأقمت خارجها، ولم يكن هذا بالطبع حقيقى، ولقد بلغت عملية الترويج لهذه المقولة حدا أصابنى بشئ من الحساسية فى بعض اللحظات، ولابد أن أعتذر الآن لكثيرين قابلتهم تلك الأيام فى مصر، فإذا بهم يبدأون تحيتى تهئنة بسلامة العودة، ويفاجأون منى برد تحمل نبراته معنى العتاب، متسائلا: العودة من أين؟
ويبدو الارتباك على السائلين بحسن نية فيستوضحون بتردد: ألم تكن مقيما خارج مصر؟
وربما كان يجب أن أفهم أكثر وأن أعذر، فحملة الترويج كانت قوية ثم أن ملابساتها كانت محيرة، فقد وجد الناس فجأة أننى لا أقول شيئا وإنما يقال عنى الكثير دون اعتراض من جانبى يظهر أمامهم، ولم يخطر ببالهم أن القول من جانبى مصادر، وأن القول عنى مباح أو لعله مستباح.
ومن ناحية أخرى فقد وجد الناس أن رئيس الدولة نفسه فى ذلك الوقت يقود حملة الهجوم على، ولم يتصور أحد منهم أن مواطنا عاديا يستطيع أن يعيش فى بلد – أى بلد – تحت سلطة رئيس دولة يناصبه العداء شخصيا وعلنيا، ولا يترك مناسبة عامة يتكلم فيها دون أن يشير إليه تلميحا أو تصريحا باتهامات وصلت أحيانا إلى الخيانة العظمى، إذن فلابد أن هذا المواطن بعيد، مطمئن هناك فى ابتعاده، ولابد أيضا أن رئيس الدولة معذور فهو لا يستطيع أن يطول بيده واحدا من رعايا دولته، وإذن يناله بالكلام ما دام غير قادر على أن يطوله بالفعل.
ومن الغريب فى تلك الأيام أن بعض الذين كانوا يعرفون حقيقة وجودى طوال الوقت فى مصر لم يجدوا تفسيرا لإصرارى على البقاء فيها رغم جو العداء الموجه إلى من أعلى المستويات بالدولة، إلا تفسيرا واحدا وهو أننى لابد أملك من الأوراق والمستندات ما يعطينى حصانة تردع هذه المستويات العالية عن أن تمد يدها نحوى بأذى، ولم يكن هذا صحيحا، والصحيح فيما أظن أنه كان هناك تحسب من ردود فعل خارج مصر خصوصا فى أوربا وأمريكا، وحيث كانت تنشر كتاباتى الممنوعة فى وطنى، ومع ذلك فإن هذا التحسب انتهى مفعوله عند لحظة معينة وجدت نفسى فيها مع آلاف غيرى ضمن حملة اعتقالات سبتمبر