1- تعريف
المعرفة مُنْتَج للنشاط
الإنسانى الخلاق الذى يجرى فى سياق اجتماعى حضارى محدد وفى إطار منظومة بيئية
معينة، وبِقَدْر تنوع الكيانات الاجتماعية الحضارية التى يحيا فى إطارها الإنسان
واختلاف الظروف البيئية تتنوع المعرفة الإنسانية، والمعرفة التقليدية هى بذلك
نتاج حضارى وحصيلة تاريخية لتفاعل أبناء المجتمعات المحلية المختلفة عبر آلاف
السنين مع بيئتهم المحيطة ومع مواردهم المحلية من أجل إشباع حاجاتهم الأساسية، وكذلك
التعبيرعن رؤاهم الحضارية وتلبية حاجاتهم الروحية. والمعرفة التقليدية بذلك
تعد تراثاً قد يتجسَّد بشكل مادى أو يكون مكتوباً أو حتى شفاهياً: لكنه مُعاش!
2- مجالات المعرفة
التقليدية
تمتد مجالات
المعرفة التقليدية لتشمل الحاجات الإنسانية المختلفة: من البناء للكساء للغذاء
للتداوى والعلاج للدفاع، إلخ ...
وتمثل المعرفة التقليدية بذلك
تراثاً غنياً فى اكتشاف الاستخدامات المختلفة للموارد المتاحة لكل مجتمع محلى فى
إشباع الحاجات الإنسانية المختلفة سواء كانت هذه الموارد مكونات للتكوينات
الجيولوجية/الأرضية أومكونات الغطاء الطبيعى: النباتى والحيوانى. كما تمثل المعرفة
التقليدية حصيلة الخبرات الطويلة للحضارات المختلفة فى استئناس السلالات النباتية
والحيوانية المختلفة.
3- أهمية المعرفة
التقليدية
3-1 المعرفة التقليدية
متاحة للإنسان العادى فى كل مكان بحكم انتمائه لمجتمعه المحلى وغالباً عبر ارتباطه
بالتكوينات الاجتماعية/الحضارية السائدة ودون تدخُّل مؤسسات الدولة أو آليات
السوق، مما يضمن له حداً أدنى من القدرة على إشباع حاجاته الأساسية وعلى الفعل
والمبادرة انطلاقاً من موقعه فى مجتمعه المحلى، فيما يلى أمثلة:
· البناء بالموارد
المحلية: الكرشيف فى سيوة والطفلة فى شمال سيناء، والطين فى وادى النيل.
· صناعة الأثاث من جريد
النخيل فى العديد من محافظات الصعيد: بدءا من الفيوم وحتى أسوان.
· التداوى بالأعشاب
والنباتات الطبيبة والقائم حتى الآن فى المجتمعات الصحراوية فى شمال وجنوب سيناء والساحل
الشمالى الغربى، وكذلك فى الصعيد.
3-2تَحْمِل المعرفة
التقليدية أحياناً تعبيرية حضارية Culturalexpressiveness
تؤكد الهوية الحضارية: سواء على مستوى المجتمع المحلى أو الدائرة الحضارية ككل،
فالمعرفة التقليدية فى شِقِّها التقنى- أى التراث التقنى Technical heritage- تقوم بتشكيل العالم المادى بحيث
يعبِّر عن الرؤية الكامنة لدى المجتمع/الحضارة، ويعد الحوش السماوى (فِنَاء الدار)
والسائد فى البيوت البدوية، وكذلك فى المنازل التقليدية فى شمال سيناء وفى النوبة
نموذجاً معبراً فى هذا السياق.
3-3 المعرفة التقليدية
تحمل شفرة حضارية Cultural code
مميَّزة أو لغة Software
خاصة تعطى توجهاً خاصاً للفكر والخيال وتُطلق الإبداع فى اتجاهات مغايرة لما هو سائد،
وربما تكون تلك هى القيمة الأعلى والأكثر تجريداً للمعرفة التقليدية، يعنى هذا أن
اهتمامنا بالمعرفة التقليدية فى كل مجتمع محلى يمكن أن يمثل منطلقاً لإبداع حضارى
على المستوى القومى والعالمى.
ومثالاً على ذلك: فعندما يجرى هدم البيوت التقليدية فى
الصعيد والتى يُستخدم فيها جريد النخيل فى السقف، يقوم القفَّاصون بإعادة استخدام
هذا الجريد- والذى يكون قد جف تماماً- فى الأعواد الرأسية (والتى تسمى لديهم
"سنابل") فى صناعة الأقفاص. ألا يوحى لنا ذلك –عندما نقوم باختيار
مورد/مادة ما لتصنيع منتج- بأن نخطط منذ البداية لعدد من الحيوات المتتابعة لهذا
المورد/المادة، وأن نراعى فى تصميم المنتج سهولة استعادة كل مكون له من أجل استخدامه
فى حياة جديدة مما يرفع كفاءة استخدام المواردResource use efficiency وما يحقق بالتالى معيار التنمية المستدامة Sustainable development ؟
4- لقاءاتى مع المعرفة
التقليدية
4-1 سقف جريد النخيل
جريد النخيل – شأنه شأن العديد من
الموارد المحلية- لا يدرَّس عندنا فى كلية الهندسة ولا فى كليات الزراعة!
رأيت جريد النخيل عندما كنت أقوم بدراسة نمط المسكن
العرايشى فى شمال سيناء، وانبهرت جداً باستخدامهم لجريد النخيل فى السقف (شكل (1))
وبالمعرفة التقليدية التى كانوا يستخدمونها فى إعداد الجريد للاستخدام فى السقف
(دفعنى هذا لملاحظة نفس الاستخدام للجريد فى السقف فى قلعة صلاح الدين الأيوبى فى
جزيرة فرعون فى طابا بسيناء، وكذلك فى مسجد على بن أبى طالب فى مدينة الخلاص فى
المملكة العربية السعودية!). اعتبرت أن استخدام جريد النخيل فى السقف تجربة طبيعية
تثبت بشكل عملى وحاسم أن جريد النخيل مادة جيدة تستحق أن نتعامل معها، ونهتم بها
هندسياً، هكذا بدأت رحلة إعمال الفكر والخيال وأيضاً رحلة البحث العلمى مع جريد
النخيل، إننا مدينون فى مصر بكل ما وصلنا إليه فى الاستخدام الصناعى لجريد النخيل:
فى ألواح الكونتر Blockboards
والأرابيسك (فنون المشربية والخرط العربى) وبدائل الأخشاب والأعلاف والسماد
العضوى، إلخ، للمعرفة التقليدية التى تجسَّدت فى استخدام جريد النخيل فى السقف فى
مدينة العريش، ولولا احترامى لهذه المعرفة التقليدية لما وصلت/وصلنا لأى إبداع
يتعلق باستخدام جريد النخيل كمادة صناعية.
|
|
شكل (1): حصيرة من جريد النخيل فى سقف أحد المنازل العرايشية
|
|
4-2 دراستى
الميدانية فى الساحل الشمالى الغربى
فى إحدى دراساتى الميدانية فى
الساحل الشمالى الغربى بمصر كان مرافقى من أبناء المنطقة عمره 17 سنة لا يعرف
القراءة والكتابة، لكنه كان على دراية مذهلة ببيئة المنطقة: كان يعرف أسماء
النباتات الصحراوية، التى لم يعرف بعضها زميلى ومرافقى فى الدراسة: أستاذ مساعد فى
كلية الزراعة، جامعة عين شمس، كان هذا الشاب يعرف استخداماتها المختلفة فى العلاج وكذلك
الحيوانات البرية الموجودة فى المنطقة وأساليب اقتناصها، وكذلك الخصائص الجيولوجية
للمنطقة والعمق التقريبى الذى يوجد عليه الماء، والأساليب المحلية لحفر الآبار وإقامة
السدود لاحتجاز الأمطار والتى يسمونها فى الأدبيات العلمية: أساليب حصاد المياهWater catchment techniques.
كان هذا الشاب الأمى- وفقاً للمصطلح الشائع لدينا- على
دراية واسعة بالكثير من المعارف العلمية والتكنولوجية عن بيئته لا يعرفها أى خريج
جامعة لدينا فى التخصصات المناظرة، لقد جسَّد لى هذا الشاب معنى وأهمية المعرفة
التقليدية كمكون حىّ للذاكرة الحضارية لأبناء المجتمع المحلى، و فى دراسة أخرى فى
نفس المنطقة أحصيت 9 أطباق مختلفة يصنعها البدو من الشعير: الذى يزرع محلياً على
مياه المطر وتطحنه النساء باستخدام الرحى، وعندما كنت أرى أكياس دقيق المعونة
الأمريكية تنقله العربات الكارو للتجمعات البدوية فى الصحراء كنت أشعر بخطورة هذه
الأكياس لأنها كانت تمثل دعوة للراحة وترك العمل: الزراعة البعلية وطحن الدقيق،
والاعتماد على الدقيق الجاهز القادم من الخارج: إنها كانت دعوة للانخلاع عن البيئة
والهوية المحلية وإهمال المعرفة التقليدية.
4-3 محراث زراعة
البطيخ فى شمال سيناء
خلال دراستى الميدانية للعريش
بشمال سيناء انبهرت بالمحراث الذى يستخدمونه فى زراعة البطيخ، والذى يمثل بالنسبة
لى نموذجاً للإبداع الذى تتضمنه المعرفة التقليدية فى العريش.
هذا المحراث يصنعونه من خشب الأثل المحلى (شكل (2)) ويتكون
من قوس (1) يثبت فى الزحاف (2) الذى ينتهى ("بالسكة") الحديدية (3) التى
يقوم بصناعتها حدادو العريش. ويربط المحراث باستخدام عقده "فرد" (4) إلى
"سفيفه" من الليف (ليف النخيل) (5) توضع أمام صَدر الجمل الذى يجر المحراث
من "الشداد" (6). ويتم توجيه الجمل من رأسه يميناً ويساراً والتحكم فى
سرعته باستخدام "الرداد" (7). ويزود المحراث ببوق من الصفيح (8) لإسقاط
البذور ينتهى بماسورة تثبت فى ثقب فى الزحاف، ويزود المحراث "بردام" (9)
يهيل التربة على البذور وبحمامة (10) للإمساك بالمحراث. وتتمثل العبقرية فى تصميم
هذا المحراث فى أنه يتيح للمزارع حراثة الأرض وأن يتحكم فى مسافة توزيع البذور وتغطيتها
بالتربة فى مشوارواحد، لاحظ البلاغة فى صك المصطلحات المستخدمة فى تسمية مكونات
المحراث والاعتماد شبه الكامل على استخدام الموارد المحلية!
شكل (2):
المحراث المستخدم فى الفواخرية
1-
القوس، 2- الزحاف، 3- سكة الحديدية،
4-عقدة فرد، 5- السفيفة، 6- الشداد،
7-
الردَّاد، 8- البوق، 9- الردام، 10- الحمامة
|
|
4-4 الجبيد فى
عمق الصحراء الغربية
عندما كنت أقوم بدراسة ميدانية فى
عمق الصحراء الغربية لاحظت أداه تستخدم فى الرى (شكل (3)) يسمونها
"الجبيد"، و الاسم عربى وهو اشتقاق من فعل يجبد أى يشد، مما يكشف عن
الأصل العربى لهذه الأداة، وهى تتميز بذلك عن الأدوات الأخرى المستخدمة فى الرى:
الشادوف المصرى الأصل والطنبور اليونانى والساقية الرومانية الأصل. يُصنع الجبيد
من جلد الجمل وله فتحتان: الصغيرة ويشدها حبل يسمونه الريَّاق والكبيرة ويشدها حبل
يسمونه الشداد. يُشد الجبيد على بكرتين السفلى والعليا، ويقوم الجمل بجَرِّهِ (شكل
(3)- أ)، وعندما تصل الفتحة الصغرى إلى البكرة السفلى (شكل (3)- ب) ينساب الماء من
الفتحة السفلى، ويستمر انسياب الماء فى الحوض: من الفتحة العليا إلى السفلى (شكل
(3)- ج) وفقاً لمبدأ الأنابيب المستطرقة والتى يبدو أن المخترعين العرب القدامى قد
توصلوا إليه بشكل تجريبى عن طريق التجربة والخطأ: وعندما يصل إلى آذان الجمل صوت
خرير الماء فإنه يرجع إلى الوراء لملأ الجبيد من جديد. ويتميز الجبيد بالمقارنة
بالوسائل الأخرى للرى بإمكانية استخدامه لأى عمق يوجد عليه الماء، وهذا يتناسب مع
ظروف الصحراء والتى يختلف فيها عمق الماء فى البئر من مكان لآخر.
4-5 العلاج الشعبى فى العريش
تقع مدينة العريش على الطريق الساحلى بين الشام ومصر.
وقد جعلها هذا الموقع ملتقى طبيعياً للقوافل التجارية مما ساهم فى تراكم الخبرات والمهارات
الطبية على مر الزمن، ولا يمكن النظر للتطبيب الشعبى إلا فى إطار النموذج الحضارى
الذى أفرزه مقارنة بنموذج الطب الحديث الشائع حالياً، وفى العريش تشتهر عائلات
معينة بالتطبيب الشعبى حيث توزع التخصصات على أفراد العائلة، ويعتمد التطبيب
الشعبى فى العريش على استخدام النباتات الطبية فى علاج العديد من الأمراض مثل
المرمرية والشيح البابونى وخراسان والبعطران وكذلك الحبج والسموه والسكران والطاطورة
والحنظل وبصل العنصل وكذلك زيت اللوز.
4-6 سلخ وليس
قطع جريد النخيل
عندما قمنا بدراسة طريقة صناعة الأقفاص من جريد النخيل،
أبهرتنا السهولة التى يجرى بها سلخ الجريد (شكل (4)) يدوياً باستخدام الساطور،
ولقد أكَّد ذلك الدراسة التشريحية التى قمنا بها والتى أكَّدت أن جريد النخيل –
شأنه شأن العديد من الموارد الزراعية مثل البوص والغاب والخيزران- ينتمى إلى
أحاديات الفلقة Monocotyledons
وليس ثنائيات الفلقة Diacotyledons مثل الأخشاب: ولقد
أوحى ذلك لنا إبداع تقنية جديدة سميناها سلخ Skinning الجريد، فلقد أدركنا أن عملية سلخ
الجريد أكثر أماناً من عملية القطع Cutting
التى تستخدم سكاكين منشارية، للعمل مع الأسر الريفية وفى المنزل الريفى، كما أنها
أيضاً –عملية سلخ الجريد- صديقة للبيئة حيث لا ينتج عنها غبار أو ضوضاء وتوفر جداً
فى استهلاك الطاقة، هذه التقنية الجديدة – التى أوحتها إلينا المعرفة التقليدية
لدى القفّاص- يمكن استخدامها فى إنتاج سدائب Strips جريد النخيل فى المنازل فى القرى،
وكذلك لإنتاج الشرائح Strands
الرقيقة من جريد النخيل لتسليح البوليمرات Polymers كبديل للألياف الزحاجية Gass fibers.
التكوين التشريحى
لجريد النخيل
شكل (4)
|
|
4-7 التمشيط اليدوى للكتان
مثَّلت عملية التمشيط اليدوى للكتان (شكل(5)) والشائعة
فى العديد من قرى مصرمنطلقاً لنا لتطوير تقنيات جديدة استخدمناها فى فصل الفروع
واللوز والأوراق من حطب القطن، وذلك لاستخدام سيقان نبات القطن فى إنتاج بدائل
الأخشاب فى مشروع قمنا بتنفيذه فى إحدى القرى فى المحلة الكبرى.
4-8 التعطين فى تصنيع بدائل الأخشاب من حطب القطن
ألهمتنا الدراسة الميدانية التى قمنا بها عن التعطين Retting أو البلزمة التى تجرى على أخشاب
الكافور فى عزبة البرج والجربى فى دمياط لحمايتها من الإصابة بالتسويس بالناخرات(Wood
borers) والذى يجرى كذلك على الكتان فى قرى طنطا بمحافظة الغربية لفصل
الألياف Bast fibers.
ولقد استخدمنا تلك التقنية بنجاح لفصل القلف Bark من سيقان حطب القطن Cotton stalks ولوقاية هذه السيقان من التسويس
قبل استخدامها بعد ذلك لتصنيع بدائل الأخشاب من سيقان نبات القطن.
5- المعرفة التقليدية:
معرفة حية
لماذا أصف المعرفة التقليدية بأنها حية؟ لأن الذى يحملها
هو النسيج الاجتماعى الحضارى الحىّ للمجتمع المحلى، ولأن ملكيتها متاحة لكل الناس ولأنها
فى متناول الإنسان العادى ودون تدخُّل مؤسسات الدولة وآليات السوق، ولأنها جزء لا
يتجزأ من الثقافة السائدة فى كل مكان.
إلا أن الوضع الراهن للمعرفة التقليدية فى بلداننا
العربية غير مُطَمئِن:
·
إننى أرى أن الطريقة التى نتعلم بها تولَّد لدينا مشاعر
سلبية إزاء تراثنا الحضارى وكل ما يرتبط به من معرفة تقليدية، فالمقررات الدراسية
فى التعليم الرسمى بجميع مستوياته: الجامعات والمعاهد وصولاً للمدارس (تعليم فنى وعام)
هى فى الأغلب نُسَخْ لما هو سائد فى دول الغرب، وليس من المستغرب لذلك لا تعد فيها
إشارة لتراث أمتنا العربية فى مجال العلم والتكنولوجيا والمعرفة التقليدية ، كما لم
تبذل أى محاولة جادة للمواءمة بين مقتضيات التحديث والمعاصرة وبين متطلبات تنمية
الريف الحامل الحقيقى الرئيسى لتراث الأمة فى المعرفة التقليدية، و قد جعل هذا من
التعليم الرسمى قوة طاردة مركزية تدفع الشباب بعيداً عن تراثهم الحضارى وما يتضمنه
من معرفة تقليدية، كذلك حَمَل هذا التعليم رسالة ضمنية للانبهار بكل ما هو غربى وافد
واحتقار كل ما هو محلى موروث، مما جعل المتعلمين عاجزين عن التواصل مع أبناء الريف
ومساعدتهم على المشاركة فى تنمية مجتمعاتهم المحلية. إن هذا العجز ليس قضية شكلية:
إنها قضية مشروعية العلم فى بلادنا: فالعلم – بمعناه الغربى- لن تكون له مشروعية
لدينا إلا من خلال حواره – وتواصله- مع المعرفة التقليدية.
·
الرسالة التى تبعث بها وسائل الإعلام الجماهيرية –خاصة
التليفزيون- هى الانبهار والقبول الكامل بنموذج التحديث الغربى، وهى بالتالى رسالة
نفى للهوية المحلية بكل ما تحمله من خصائص حضارية وإمكانات تنموية ومعرفة تقليدية.
مما يؤدى إلى شيوع نظرة الاحتقار لكل ما هو تقليدى موروث وإثارة مشاعر الخجل والرغبة
فى التبرؤ منه.
·
التغير الكاسح فى أسلوب الحياة فى الريف تقليداً للنموذج
الغربى، فلقد أدى استبدال نمط الاستهلاك المحلى بالغربى إلى إهمال عشرات العناصر
المكونة للحياه النباتية والحيوانية التى كان لها دور أساسى فى إنتاج عناصر أسلوب
الحياة والسلع الاستهلاكية، مما أدى بالتالى إلى إهمال – وموات- المعرفة التقليدية
المرتبطة بها.
هكذا تموت المعرفة التقليدية مِيْتَةْ غير طبيعية دون أن
تُطور وأن توصل بالمعارف العلمية والتكنولوجية الحديثة من أجل النهوض بالمجتمعات
المحلية مما يؤدى إلى المزيد من ضمور النسيج الاجتماعى الحضارى الحىّ لهذه
المجتمعات وإلى تهميش Marginalization
الغالبية العظمى من أبنائها وتحولهم إلى مستهلكين غير منتجين معتمدين فى إشباع
حاجاتهم الأساسية على المدينة وعلى الاستيراد من الخارج مما يؤدى إلى المزيد من
الاغتراب لأبناء مجتمعاتنا المحلية.
6- خاتمة
لا يمثل هذا المقال دعوة لاتخاذ موقف "سلفى"
فيما يتعلق بقضية المعرفة، بل إننى أجزم بأن التعامل "المتحفى" مع
المعرفة التقليدية غير إنسانى بالمرَّة لأنه ينكر حقوق أبناء المجتمعات المحلية
–الملَّاك الحقيقيون للمعرفة التقليدية- فى أن يعيشوا حياه أفضل، ولا هو –هذا
المقال- دعوة للاستغناء عن العلم والتكنولوجيا بمضمونهما العصرى، فهناك فى رأيى فرصة
رائعة للتعايش بين أنساق مختلفة من المعرفة: المعرفة التقليدية التى هى مكون مهم
لذاكرتنا الحضارية والمعرفة العلمية والتكنولوجية الحديثة كما وفدت إلينا من
الغرب، إنها مهمتنا نحن فى إقامة جسور التواصل/التعايش بين هذين النسقين من
المعرفة وبلورة إبداع/اختيار المسار الخاص بنا فى التنمية والتقدم.
لكننى أود الإشارة إلى الأهمية الخاصة التى تكتسبها
المعرفة التقليدية فى ضوء الأزمة البيئية العالمية الراهنة و المؤشرات التى تؤكد على عدم
توافق نموذج التنمية الغربى مع المحيط الحيوى ومع مبادئ التنمية المستدامة وكذلك
النداءات المخلصة من الغرب (الشمال) إلى دول الجنوب بأن يقوموا بقفزة
ضفدعة.
Leapfrogging منطلقين من
تراثهم الحضارى ومتجاوزين التجربة الغربية لإيجاد حلول مبدعة فى التنمية لكلى الشمال والجنوب!
قدَّمتُ فيما سبق نماذج للتعامل الإيجابى مع المعرفة
التقليدية تتمثل فى فهم المبدأ الثاوى –أو الفكرة الأساسية الثاوية- وراء هذه
المعرفة فى محاولة للاستفادة منها فى تطبيق معاصر مع استخدام عناصر مختارة من
العلم والتكنولوجيا، إلا أن المعرفة التقليدية بشكل عام تظل لدينا كنز مختفى عن
القلوب والعقول والأبصار!
مطلوب هنا دور لمؤسسات البحث العلمى والمجتمع المدنى والجهات
المانحة والدولة لوضع إستراتيجية قومية لاكتشاف هذا الكنز-المعرفة التقليدية- بهدف
الاستفادة منه فى التنمية: إنه ميراثنا من الأجيال السابقة الذى علينا أن نقدِّمه
فى صورة أفضل للأجيال المقبلة.