المخلفات
الصناعية والعضوية التي تخرج من المنازل يوميا، ونسميها نحن "زبالة"، هي
ثروة بالمعنى الحرفي للكلمة، ويكفي أن نعلم أن هناك كثيرا من الدول يقوم اقتصادها
على نسبة غير بسيطة من تدوير المخلفات، من ورق،
وكارتون، وقماش، وزجاج، وزجاجات مياه معدنية، وعلب "كانز"، ومواد صلبة،
وزيوت، إذا أحسنا استغلالها فمن الممكن أن تشكل قيمة مادية كبيرة، لذلك فتحت
"المصور" باب هذا العالم المجهول مع واحد من شيوخ مهنة جمع القمامة.
إسرائيل
عياد، رجل أعمال لكنه لا يرتدي "بدلة" و"كرافت"، وإنما يكتفي
بالجلابية البلدي التي يحتضنها جسده، فمع خيوط الفجر الأولى تجده يخرج إلى عمله بمقالب
الزبالة ليحرك خلايا النحل، من عشرات العاملين الذين يعملون معه فى الشوارع والحواري،
يركبون عربات الكارو، أو النصف نقل، وبها أجوال من البلاستيك، يحلمون أن يرزقهم
الله وأن يجمعوا قمامة بها محتويات قيمة جيدا تملأ أجولتهم، خاصة بعد موجة التقشف
الأخيرة التي أصابت البيوت المصرية بسبب غلاء الأسعار.
في امبابة، وتحديدا في شارع البوهي، كان يجلس شيخ
الزبالين، المعلم إسرائيل عياد، أمام بيته يتابع عمله في جمع القمامة التي تمثل
مصدر رزقه، بعد أن عرف أسرارها وقيمتها، فهو يملك الحلول الأكثر فاعلية للقضاء على
مشكلة تراكم الزبالة في الشوارع، ولا يعترف بالشركات، ويؤمن بالمثل القائل "إدي
العيش لخبازه".
حدثنا
عن تاريخ مهنة الزبالين فى مصر؟
مهنة
الزبالة مهنة متوارثة فى مصر منذ قديم الأزل، ومن يقوم بها فى الغالب عائلات
بالكامل، حيث كان هناك توزيع للمناطق والمحافظات، بحيث تقوم كل منطقة بتجميع
الزبالة من خلال الزبالين فى العربات الكارو، وإلقائها فى أماكن بعيدة عن القاهرة،
ويتم تحصيل رسوم بسيطة من كل شقة نظير جمع الزبالة والتخلص منها، بنظام المرور على
الشقق يوم ويوم، ولم تكن للدولة أي دخل فى هذه المنظومة، وعند إنشاء هيئة نظافة
وتجميل القاهرة، كانت الهيئة مسئولة عن نظافة المناطق وكنس الشوارع وتجميلها بدون
التدخل فى عملية جمع الزبالة والتصدى لمشكلاتها المتعددة.
وكيف
تتم عملية الفرز؟
تجميع
الزبالة من الشقق يخضع لأكثر من عملية، من بينها إعادة فرز الزبالة المجمعة من
البيوت، فقد كان معدل زبالة كل شقة فى القاهرة والجيزة على سبيل المثال حوالى 2
كيلو جرام يوميا، من صفيح، وبلاستيك، وخشب، وورق، وقماش، وغيرها من مكونات الزبالة
المنزلية، بالإضافة إلى المواد العضوية المتحللة التى يتم استخدامها كطعام للخنازير
كوسيلة للتخلص منها وتحويلها إلى لحوم، واستمر هذا الحال مدة طويلة جدا دون مشاكل،
حتى عام 2003، عندما بدأت تحدث متغيرات كثيرة سلبية ليست فى صالح منظومة جمع وإعادة
تدوير الزبالة.
ماهى
أهم هذه المشكلات التى حدثت لمهنة الزبالين مع مطلع عام 2003؟
قامت
وزارة البيئة بالتدخل المباشر فى عملية جمع الزبالة ومحاولة عمل ما يعرف بالمنظومة
واستبدال الزبالين التقليديين بشركات نظافة متخصصة وذات إمكانات كبيرة، كمحاولة
للوصول بعملية جمع القمامة والتخلص منها وإعادة تدويرها إلى مراحل متقدمة تدخل
فيها التكنولوجيا من خلال إنشاء مصانع لعمل إعادة تدوير للمواد الصالحة لإعادة
الاستخدام كالمواد الصلبة، إلا أن هذه المنظومة واجهتها مشكلات كثيرة من أيام
الوزيرة ليلى إسكندر، فحدث العديد من أعمال النصب من خلال تلك الشركات التى كان
بعضها وهميا والبعض الآخر إمكاناته ضعيفة على أرض الواقع، وكانت هذه الشركات تتلقى
أموالا طائلة بدون نتائج للمنظومة على أرض الواقع.
هل
تقصد وجود دخلاء من خارج المهنة أدى إلى تدهورها؟
هذا
هو ما أود قوله، إن المهنة أصبحت مستباحة لأي أحد غير متخصص يقوم باستخراج شهادة
مزاولة مهنة من المحافظة أو وزارة البيئة، وبناء عليه يتم إعطاؤه مربعا به حوالى 10
آلاف شقة لجمع الزبالة منها، فيقوم بتأجير سيارة واحدة، وعدد قليل من العمال، لأنه
يعتمد على تحصيل الرسوم وليس هدفه جمع الزبالة بشكل منتظم، فقد يحصل الشخص على 80 ألف جنيه فى الشهر بدون أن يقوم بالفعل بالجمع
والتخلص من الزبالة، مما أدى إلى تدهور المهنة، وخصوصا فى محافظة الجيزة، فعملية
استخدام غير المؤهلين أدت إلى حدوث تلك المشاكل، بالإضافة إلى عدم وجود رقابة
حقيقية على عمل الشركات، والتأكد من صلاحية معداتها وإمكاناتها، وأنها ليست وهمية،
فعلى سبيل المثال عملية جمع الزبالة والنظافة تم إسنادها لشركة أجنبية ولم تقم تلك
الشركة بالدور المطلوب وتكدست الزبالة بالشوارع، وأصبحت المحافظة مدينة لتلك
الشركة الأجنبية بمبالغ كبيرة جدا بدون أن تقوم تلك الشركات بالدور المطلوب بتنظيف
المدينة، وحدثت صدامات مع هذه الشركة أدت إلى الاحتكام للقضاء، فلابد من وجود
رقابة قوية من الهيئة ومن المحافظة، فمحافظ الجيزة الحالى مهتم بذلك ويقوم بالنزول بنفسه لمراقبة عمل تلك
الشركات، ومدى إمكاناتها الحقيقية على أرض الواقع للقيام بالعمل المطلوب منها، و"مش
كل واحد يطلع سجلا وبطاقة ضريبية ويؤجر بدروما، يقول عندى شركة نظافة، وهو معندوش أي
إمكانيات حقيقية، وكله على الورق فقط"، وهناك بعض الفاسدين فى المحافظة والأحياء
والهيئة يقومون بتسهيل تلك الأمور مقابل رشاوى، لكنهم لا يمثلون الأغلبية، وعددهم
قليل، ولو كانت هناك مراقبة حقيقية على أداء تلك الشركات وتوزيع الشغل حسب إمكانات
كل شركة، ومدى التزامها بجمع الزبالة وأماكن تجميعها، بحيث إن أي شركة تقوم بإلقاء
المخلفات فى غير الأماكن المخصصة لذلك، يوقع عليها عقاب رادع، لاختفت منظومة
الفساد هذه، ولأصبحت الأمور على ما يرام.
كلمنا
عن مشوارك فى هذه المهنة؟
بدأت
العمل فى هذه المهنة من الستينات من خلال جمع الزبالة من الشقق والمحلات بـ" القفة"،
وتعاملت مع الكثير من المحافظين، ومنهم من كان له دور كبير مثل سعد زايد، وعبد
الرحيم شحاته، الذى أعطانى مساحة بالمحمية فى القطامية لتربية الخنازير التى كنت أول
من رباها للتخلص من الزبالة العضوية، وكنت أبيع الخنازير للسفارات والفنادق،
وتنقلت بعد ذلك من مكان إلى آخر، ولي المجموعة الخاصة بى من العمال، فأقوم بإعطاء
العامل عربية ليقوم بجمع القمامة بها وتقسيط ثمنها من خلال جمعه للزبالة من المربع
المحدد له، ولضمان كفاءة شغله، ولي أيضا منطقة جمع للزبالة على مساحة 3 فدادين بأرض
اللواء على المحور كمقلب للزبالة، وكمكان لإعادة الفرز والتدوير.
ماذا
عن إعادة تدوير الخامات الموجودة بالزبالة؟
عملية
إعادة استخدام الخامات الموجودة بالزبالة مهمة للغاية لجميع الأطراف، فهى ذات
مردود اقتصادى للشركات والمصانع، وبالنسبة للمجتمع أيضا تساعده فى التخلص من تلك
الكميات الضخمة منها، فأولا تتم عملية تجميع
للزبالة من خلال الزبالين وتجميعها فى مكان، وبعد ذلك هناك أهم مرحلة وهى عملية
الفرز والتصنيف، وهذا الموضوع يتم من خلال دولاب عمل أو منظومة، بحيث يتم فرز أطنان
من الزبالة وتصنيفها، مثل تجميع الزجاجات البلاستيك الخاصة بالمياه المعدنية، وزجاجات
المياه الغازية كصنف، وتجميع الخامات البلاستيكية، وكذلك الفيبر الذى يتم تجميعه
وتحويله إلى حبيبات من خلال ماكينات ضخمة وبيعه لشركات إنتاج البلاستيك التى تقوم
بإضافة نسبة منه إلى الخامات الجديدة لتقليل التكلفة، وهناك علب "الكانز"
والمعلبات المصنوعة من الألومنيوم، حيث يتم تجميعها على مدار الشهر، ثم دخولها على
مكابس ضخمة تضغط تلك الكميات وتحولها إلى خام الألومنيوم الذى يتم بيعه لشركات
صناعة علب "الكانز" كمادة خام يعاد صهرها وتنقيتها وإضافة مكونات أخرى،
ونفس الشىء فى الزجاج، حيث يتم تجميعه وتوريده لمصانع الزجاج لإعادة صهره وإضافة
كميات زجاج خام ومكونات أخرى، ونفس
الموضوع فى الأقمشة حيث يتم تجميعها، ثم دخولها على ماكينات تحول تلك الأقمشة إلى خام
يشبه القطن الذى يجمع فى "بالات" ويورد إلى مصانع تقوم بإنتاج أقمشة أقل
جودة مثل فوط السيارات والأغطية وغيرها من المنتجات الأقل جودة نسبيا، وأيضا هناك
الورق الذى يتم جمعه من القمامة وتجميعه فى "بالات" من خلال مكابس، وتقوم
مصانع الورق بإعادة تحويله إلى عجين الورق وإضافة مواد كيماوية لعملية تبييضه
وتنقيته مرة أخرى، أما الكارتون فيتم تجميعه أيضا لتوريده لمصانع الكارتون.
هل
هناك متابعة لما يحدث في الخارج لتطوير عملية التدوير في مصر؟
أنا
لا أكتب ولا أقرأ، ولكن أتابع كل التطورات، ودائما أعمل بجد وتوكل علي الله، ولكن
ابني مهندس ولديه مصانع تدوير، والفرق بيني وبينه أنني أعمل بدون ورقة وقلم، وهو
يعمل بالورقة والقلم والدراسات، لذلك أتابع من خلاله ما يحدث بالخارج، فعلى حد
علمي أن عملية إعادة التدوير فى الخارج لها مصانع ضخمة ورءوس أموال كبيرة حيث تدخل
القمامة والمخلفات إلى المصنع لتخرج من الجهة الأخرى منتجات عديدة تدخل فى كل
الصناعات تقريبا، كما أنه حدث تقدم كبير في إعادة التنقية والتخلص من الشوائب
الموجودة فى تلك الخامات المعاد تدويرها، كيميائيا وهندسيا، فاستخدام الخامات
المعاد تدويرها ضرورة مهمة للشركات المنتجة، لأن هذه الخامات رخيصة نسبيا بالنسبة
للخامات الجديدة، وعند عملية الخلط بالنسب المناسبة يؤدى ذلك إلى تقليل السعر
والتكلفة للمنتج، فيكفى أن نعرف أن الصين على سبيل المثال من أكبر الدول المستوردة
للمخلفات الصلبة، أي أن هناك بعض البلدان تقوم بتصدير الزبالة الصلبة لأنها ليس
لديها القدرة على استخدامها محليا، وفى ذلك الشأن أيضا هناك العديد من الدراسات
الهندسية التى قام بها أساتذة وباحثون فى كليات الهندسة ومركز البحوث بمصر لإجراء
تجارب عديدة على استخدام المخلفات الموجودة بالزبالة، وحتى المخلفات العضوية
لتحويلها إلى غازات يتم استخدامها فى إنتاج الكهرباء وخلافه، وعلى سبيل المثال قامت
أخيرا مجموعة من طلاب كلية الهندسة، بالإضافة
إلى دعم باحثين ودكاترة بالمراكز البحثية بمصر، بإقامة مصنع لتحويل جريد النخل إلى
ألواح خشبية عالية الجودة، ونجحوا فى ذلك وتحدثت عنهم وسائل الإعلام المختلفة.
هل
لدى المصريين ثقافة التعامل مع المخلفات؟
تختلف
معالجة المخلفات بين المناطق الحضرية والمناطق الريفية، وبين المناطق السكنية
والمناطق الصناعية، فمعالجة المخلفات غير السكانية في مناطق الحضر عادة تكون من
مسؤولية المحليات التي توزع علينا العمل ونقوم بالتعاقد معها، ولكن المصريين
لايعرفون كيفية التعامل مع الفرز الذي يريد المسئولون فرضه عليهم، وأنا أرى أن الزبالة
يجب أن تكون كما هي، وعملية الفرز تكون من اختصاص العاملين عليها، يعني "ندي
العيش لخبازه".
هل
تعتبر الزبالة ثروة قومية؟
أكيد
ثروة قومية، بل من المفترض أن تكون هي المشروع الأكبر للحكومة، مثلها مثل قناة
السويس.. "مش هاقول أكتر من كده".
هل
المقالب لدينا تدار بطريق صحية أم لا؟
أنا
رجل أُمي، ومنذ كنت طفلا وأنا أعمل في مجال الزبالة، ولا أعرف ما هو الصحي وغير الصحي،
كل ما أعرفه بعد هذه السنوات من العمل، ورغم ما أعطاني الله من نعم وثروات، إلا أنني
لا أشعر بالراحة إلا عندما أذهب إلى المقالب وأجلس وسطها وأتابع العمل بنفسي، وأشم
رائحة الزبالة، أما عن الصحي وغيره فهذا لا يخصني، أنا رجل بتاع زبالة.
هل
هناك مخلفات معينة تستخدم في تربية الخنازير كالمخلفات السائلة؟
أكيد،
فبعد القيام بفرز الزبالة نأخذ المواد العضوية المتمثلة في العيش والخضرة وغيرها
من الأطعمة، ونقوم بإطعام الخنازير منها وتحويل بعضها إلي أعلاف جافة.
هل
توجد نسبة عمالة كبيرة في جمع وتدوير الزبالة؟
بالطبع
توجد عمالة كثيرة في هذا المجال، ولا تقتصر علي الشباب فقط، بل تقوم العائلة بأكملها
بالعمل في الزبالة، فأنا لدي أكثر من مئة عامل بأسرهم يعملون في الفرز، بخلاف
العملاء أيضا، فهناك حوالي 300 شخص بخلاف أسرهم يقومون بتوريد الخامات بعد فرزها.