الأربعاء 26 يونيو 2024

الأم في المأثور الشعبي

أخرى8-11-2020 | 09:52

تتجلى صورة "الأم" في مواطن مهمة وشديدة التأثير داخل موروثنا الشعبي، فالأمومة تعني العنصر الأنثوي حيث تحتفظ داخل ذاكرتها الشفاهية بكم هائل من التراث والمأثور، فالتراث يعني الإرث المادي واللامادي الذي توقف عن أداء وظيفته في حياة الناس، وبالتالي أصبح التراث المادي مكانه داخل المتاحف أو الأماكن الأثرية المفتوحة، التي تضم بيوتًا ومعمارًا قديمًا وبه آلات وأدوات عمل زراعية ومنزلية حُفظت لتعبر عن فترة تاريخية واجتماعية قديمة مندثرة.

أما فيما يخص المأثورات، فهي كل ما توارثته الأجيال وانتقل من الآباء إلى الأبناء شفاهيًا مثل العادات والمعتقدات والتقاليد والأعراف والأغاني والحكايات والأمثال الشعبية، تلك المأثورات تمكنت من الصمود عبر الزمن وتميزت بإعادة الإنتاج ولا تزال تؤدي وظيفة سلوكية مهمة في حياة الناس والعقل الجمعي، وذلك بالإضافة إلي الجانب المادي من المأثور والذي يتمثل في فنون التشكيل الشعبي والحرف اليدوية وأيضًا فنون الأداء الحركي الذي يتجسد في الرقصات والألعاب الشعبية.

وتلك المنظومة لا يمكنها أن تنفصل ولكن وجد التصنيف بغرض الدراسة الأكاديمية والحرص على ضبط المصطلحات المتعلقة بالتراث والمأثور داخل الثقافة الشعبية، وتلك المنظومة الاجتماعية التي تمثل طرفًا أصيلًا في التكوين السلوكي والاجتماعي وتُشكل وعيًا عميق الجذور داخل الذاكرة الشعبية توضح مما لا يدع مجالًا للشك إنه لا يوجد إنسان لا يخضع  لسطوة وتأثير التراث والمأثور الشعبي.

فيقول عالم الفولكلور السويسري ريتشارد فايس (Weiss): توجد الحياة الشعبية والثقافة الشعبية دائمًا حيث يخضع الإنسان كحامل للثقافة في تفكيره أو شعوره أو تصرفاته لسلطة المجتمع والتراث، ويقول علاوة على ذلك يوجد في داخل كل إنسان شد وجذب دائمان بين السلوك الشعبي وغير الشعبي، ولذلك لدى كل إنسان موقفان مختلفان أحدهما فردي والآخر شعبي أو جماعي.

 

ومن أهم الكنوز البشرية التي اعتنقت الموروث الشعبي وكانت حاملًا لتلك الثقافة وحافظت عليها هي الأم العنصر الأنثوي الأهم في منظومة التراث، فتعتبر النساء بشكل عام والأمهات بشكل خاص يمتلكن أنواعًا متعددة من أشكال الموروث الشعبي داخل ذاكرتهن وفي صدورهن، فالنساء بالأساس هن من حافظن على الحكايات والأمثال وأيضًا المعتقدات وعادات الطب الشعبي وكل ما يتعلق بدورة الحياة من المهد إلى اللحد.

وللمرأة دور بارز في ميدان الأدب الشعبين خاصةً في أدب المناسبات العائلية فيقول "رشدي صالح" إن ذلك الأدب من صُنع المرأة لا الرجل وأشد الأنواع اختمارًا هو البكائيات فهي تمثل لنا مشاعر مضغوطة اختمرت في نفسية المرأة حقبة طويلة فأصبحت حين تقعد للبكاء تستقطب ميراثًا عريضًا من الضغط والخسف فلا تبكي الميت بقدر ما تبكي نفسها وليس من الغريب أبدًا أن تكون البكائيات هي فن التسرية لدي المرأة كلما خلت إلى نفسها.

وهناك مناسبات للغناء وألوان منه وقف على المرأة وحدها مثل أغاني الختان، الاستحمام والفطام، مداعبة الأطفال، وتنويم الطفل والمفاخرة بابنها، وعند استقباله بعد عودته من الكُتاب لأول مرة.

 وفيما يخص الإبداع، نجد للمرأة فنونها الخاصة مثل الحُلي والأزياء، وفي مجال المعتقدات الشعبية نجد المرأة تتفرد بطقس الزار والشبشبة وحلب النجوم.

وبعد أن استعرضنا ملامح من دور المرأة كحاملة للتراث، ننتقل إلى الجانب الأكثر أهمية والذي يتمثل في مظاهر الأمومة داخل الثقافة الشعبة، على اعتبار أن المرأة هي العنصر الرئيسي والمبدع لهذه الموروثات التي تتعلق بالطفل منذ ولادته إلى أن يستقل بذاته.

 

تتجلى مظاهر الأمومة في الحياة الشعبية منذ أن تلد الأم وتضع طفلها ذكرًا كان أم أنثى فتبدأ مظاهر العادات الشعبية في التجلي أثناء احتفال السبوع؛ حيث إن هذا الطقس الاحتفالي مليء بالموروثات الشعبية والتي تضرب بجذورها إلى عمق الأساطير المتوارثة من حضارات العالم القديم، فمع هذا الاحتفال تبدأ منظومة العادات والمعتقدات وأيضًا الأغاني الشعبية في التضافر معًا مكونة هذا الاحتفال الخاص بالنساء والأطفال ومن أشهر الأغاني الخاصة بالسبوع حالاقاتك برجالاتك، حلقة دهب في وداناتك.

وأغنية يارب ياربنا تكبر وتبئا قدنا، وأثناء رش الملح بغرض إبعاد العين الشريرة والحاسدة ترش الأم الملح وتقول يا ملح دارنا كتر عيالنا، وتدق الهون أيضًا لنفس الغرض وهو إبعاد أي أرواح شريرة يمكنها أن تؤذي الطفل ونري عناصر ثقافية كثيرة داخل هذا الاحتفال ويختتم  السبوع باسمع كلام أمك ماتسمعش كلام أبوك إلى أن تخطي الأم سبع خطوات فوق الطفل الأولى بسم الله والثانية بسم الله إلى السابعة رقيتك رقوة محمد بن عبد الله وينتهي الاحتفال ولا تنتهي مظاهر الأمومة خلال السنوات الأولى من عمر الطفل.

احتضان الأم للطفل

هي فترة محورية بها العديد من المظاهر الثقافية المتوارثة والكثير منا سمعها وتربى عليها بل وقالها أيضًا سواء كان رجلا أو امرأة فحتى وإن كانت هذه العادة المتمثلة في الغناء أو الحكي تخص النساء فهذا لا يعني جهل الرجال بها بل على العكس يعرفها الرجال ولكن بروز دور المرأة ودورها الجوهري يجعل من الرجل في هذه المنظومة الخاصة بالأم والطفل عنصر فرعي متلقي للحكايات والأغاني ولكنه ليس راويًا جيدًا لهذا النوع من الإبداع.

فالأم أثناء فترة الرضاعة تغني وهي تهنن طفلها ولدينا الكثير من أغاني المهد للطفل وهذه الأغاني تُغنى غالبًا قبل النوم لتهدئة وتدليل الأطفال ومنها: خُد البزة واسكت خُد البزة ونام عشان لما تسكُت أبوك يعرف ينام، وكم منا سمع وغنى هذه الكلمات ولا يعلم إنها من تراث الجدات الذي تواتر وتناقلته الذاكرة الشعبية الشفاهية وقاوم الزمن والتغييرات وظل راسخًا في صدور الأمهات ,فتغني الأم تلك الكلمات وهي تُرضع صغيره.ا

وفي أوقات التهنين وتهدئة الطفل للنوم تغني الأم لطفلها بصوتها الهادئ

ياحبية من زمان وأنتِ في أبراج الحمام

 ننه هوهُ  ننه نام

نام يا حبيبي نام وأدبحلك جوزين حمام

تاتا خطي العتبة تاتا حبة حبة

وذلك مع التهنين وهزهزت الطفل حتى يخلد إلى النوم، وتسخدم الأمهات كثيرًا الشخشيخة لتهدئة الطفل أثناء البكاء وهذا يجعلنا نذكر التشابه الكبير بين هذه العادة وصلاصل حتحور الأم الكونية في الحضارة المصرية القديمة، وتلك الصلاصل أو شخشية حتحور كانت تمثل طقسًا هامًا في تهدئة غضب الآلهة وإبعاد الأرواح الشريرة والمزعجة.

 

وعندما يكبر الطفل ويصل إلى الفُطام نجد أن الأم هي من تحكي وتروي وتُبدع في فن الحدوتة فمن منا لم ينشأ على حكايات أمه والجدات؟! فهن بكل تأكيد كنزًا بشريًا حامل للتراث، فقبل البدء في إظهار دور الأم في الحواديت لنتساءل ما هي الحدوتة؟

يُعرفها طومسون أنها قصة طويلة نسبيًا تحتوي على موتيفات أو أحداث متتابعة تدور أحداثها في عالم غير واقعي ليس له زمان أو مكان أو طبيعة محدودة كما إنها تمتلئ بالعجائب.

وهناك تعريف آخر: الحدوتة نص سردي قصير تتناقله الجماعة الشعبية له بناء شكلي محدد معظم رواته من النساء ومعظم جمهوره من الأطفال للخوارق فيه الدور الأكبر وموضوعه عبارة عن بقايا ديانات وأساطير قديمة، ويرتبط بأداء وظائف أساسية ,كالتعليم والمحاكاة والتسلية.

ومن هنا تبدأ الأم في زرع منظومة القيم وتبدأ التنشئة الأولى للطفل من خلال الحواديت التي تتمثل في الشاطر حسن وست الحُسن وفرط الرُمان وغيرها من الحواديت والحكايات الموجودة في تراثنا الشعبي وكل أطفال العالم ينشئون على الحواديت وتعتبر الأم والجدة الراوي لهذا النوع من الحكي ليس في ثقافة معينة بل في كل العالم بل والأكثر غرابة أن كثيرا من الحواديت تتشابه إلى حد كبير مع نظيرتها في ثقافات الشعوب الأخرى مثل بياض الثلجSnow White القصة الألمانية وشبيهتها ست الحُسن والجمال وقصة سندريلا الألمانية وشبيهتها بدر الصباح، وأيضًا رادوبيس الفرعونية.

وعندما تبدأ الأم في الحكي لطفلها أثناء الخلود إلي النوم لا بد أن تروي الافتتاحية التقليدية للحدوتة التي تعتبر أيضًا من أهم الخصائص الحدوتة فتقول:

" كان يا مكان يا سادة يا كرام ما يحلى الكلام إلا بذكر النبي عليه الصلاة والسلام"

" كان يا مكان في سالف العصر والأوان كان في ...."

وتبدأ الأم أن تحكي الحدوتة لأبنائها بأسلوب مشوق وجذاب وتعطي من خلال الحدوتة قيمة أخلاقية تتمثل في معاني الخير والأمانة واحترام الكبير والعطف على الصغير وبالنسبة للفتيات يتعلمن من الحواديت عدم الانسياق وراء الغرباء ومساعدة الأم في المنزل وأيضًا مساعدة كل محتاج حتى تصبح جميلة مثل ست الحُسن، ويجب أن يسمع الولد كلام والديه ويكون شجاعًا حتى يكون مثل الشاطر حسن، وغيرها من الحكايات التى يحاكيها ويتعلمها الأطفال فتكون الحدوتة حجر الأساس الأول في تنشئة الأطفال على معاني وقيم الحق والخير والجمال وهذا ما يحتاجه الطفل في السنوات الأولى من حياته.

ثم تختتم الأم الحدوتة في عدة سياقات "توتة توتة خلصت الحدوتة.. حلوة ولا ملتوتة؟ أو "عاشوا في تبات ونبات وخلفوا صبيان وبنات".

الأم والطب الشعبي

يندرج الطب الشعبي داخل منظومة علم الفولكلور كفرع من المعتقدات الشعبية وأيضًا مرتبط ارتباط وثيق بالمعارف الشعبية، وتتميز الجدات والأمهات في الثقافة الشعبية باعتمادهن على الكثير من المعارف الشعبية الخاصة بالطب الشعبي والمعالجة بالأعشاب والروقي والتعاويذ وغيرها من الوصفات.. تلجأ الأمهات كثيرًا إلى ما يُعرف بالطرق التقليدية في علاج الأطفال من المغص عن طريق غلي اليانسون والأعشاب لتهدئة معدة الطفل.

وعند السُعال غلي ورق الجوافة، وعندما يُصاب الطفل بجرح تسد الدم بالبن، وعندما تشعر الأم أن طفلها محسود تقوم بقراءة الرقي عليه وتقول "بسم الله أرقيك من كل شئ يأذيك الله يشفيك".

وأحيانًا تقوم بإطلاق البخور، وفي بعض الحالات المرضية المستعصية على الأم في المنزل تلجأ إلى طرق شعبية أخرى كالذهاب إلى شيوخ الأضرحة أو زيارة الأولياء والقديسين والتوسل لهم من أجل طلب الشفاء وهذه العادة المرتبطة بزيارة الأولياء طلبًا في الشفاء لها عمق حضاري في الحضارة المصرية القديمة؛ حيث كان المصريون قديمًا يذهبون إلى المعابد التي خُصصت للطبيب إمحوتب ويلتمسون من روحه العلاج وعُثر على نصوص دونها المصريون بأنفسهم يشكرون روح الطبيب إمحوتب على مساعدة المريض والشفاء من الأمراض.

فهذه العادة متوارثة من المصري القديم ولم تنشأ من فراغ ولكن لها جذر حضاري عميق في الذاكرة الثقافية لدي الثقافة الشعبية المصرية.

وتتجلى مظاهر الأمومة في الأمثال الشعبية ونصائح الأم لابنها بعد أن يبلغ مرحلة المراهقة وتحتضن ابنتها وتعطيها هذا المخزون من الموروثات المتمثل في الحكايات وغيرها من عناصر الثقافة الشعبية، وتنصحها عند اقتراب الزواج وهناك عادات لا حصر لها في هذا الاحتفال بداية من تجهيز العروسة وتنظيف جسدها وتزينه بالحنة وغيرها من الأعشاب ويتخلل كل هذا الأغنية الشعبية وما تحمله من معاني تُجسد شكل العلاقة الزوجية وربما بها بعد المحذورات ولكن العقل الجمعي أتفق على تلك الكلمات وما زالت تحتفظ وتؤدي وظيفتها لمن يحفظه، فكل هذا الموروث الضخم يتجسد في الأم وما تحمله من موروث مرتبط بأبنائها منذ الولادة وحتى ترى أحفادها وتُصبح جدة تروي الحكايات لأحفادها ولا يسعها إلا أن تقول أعز الولد ولد الولد.