الإثنين 10 يونيو 2024

أمراض القارة الإفريقية ودور مصر التاريخى فى مستشفى "ثابت ثابت"

فن8-11-2020 | 17:09

حدث عام 1977 عبور فيروس حُمَّى الوادى المتصدع جنوب خط الاستواء لأول مرة فى تاريخ البشرية ليصل إلى مصر من موطنه بشرق إفريقيا فى زامبيا وزيمبابوى على صورة وباء جامح إلى محافظة الشرقية والمحافظات المجاورة وبالتحديد إلى أنشاص وبلبيس، لينتشر ويصيب 122 ألف مواطن، أصيب عدد كبير منهم بالعمى وتوفى منهم 250 شخصا أغلبهم فى محافظة الشرقية، ولم تعلن السلطات المسئولة فى ذلك الوقت عن هذا الوباء الخطير، رغم ظهور حالات على مشارف القاهرة فى إمبابة وأسوان وكفر الشيخ فى منطقة سيدى سالم، ثم انحسر بعده الوباء لظروف مناخية فيروسية فقط.

والفيروس المصرى تم عزله فى CDC بأمريكا لعدم وجود إمكانيات تشخيصية معملية متقدمة فى مصر، وأدرج تحت اسم فيروس "Z" نسبة إلى الزقازيق وهو أشرس فيروس فى فصيلته وأفردت الجمعية الطبية الملكيةللأمراض المتوطنة فى لندن مؤتمرا له عام 1978 تحت عنوان "العبور التاريخى عبر خط الاستواء الإفريقى لحُمَّى الوادى المتصدع المصرى" لخطورة انتقال فيروسات مماثلة له عبر قارات الدنيا.

أمراض القارة الإفريقية تهدد حدودنا

ومازالت فيروسات الحميات النزفية فى إفريقيا توجد على حدودنا مثل فيروسات "لاسا وايبولا وماربورج" وغيرها تهدد حدودنا عبر دول منابع النيل والتى فتكت بآلاف البشر فى هذه الدول منذ عام 1979، ثم انتقلت إلى دول غرب إفريقيا عام 2014، لتقتل الآلاف فى شهور قليلة على هيئة أوبئة جائحة قاتلة ومازالت الكارثة مستمرة إلى الآن وتترقبها جميع دول العالم، ومن المعروف علميا أن البعوضة الناقلة لفيروس "الحمى الصفراء الإفريقية" هى بعوضة "الإيدز المصرية" وتوجد فى مصر بكثرة، هذا وتتوطن القارة الإفريقية أمراض "الإيدز الإفريقى والملاريا"،ففى إفريقيا وحدها 29 مليون مصاب بمرض "الإيدز الإفريقى"، بينما مصابو الملاريا يتجاوزون 120 مليون إنسان إفريقى، ويوجد غير هذه الكوارث الصحية العديد من الأمراض الفيروسية والبكتيرية والطفيلية المتوطنة فى أغلب القارة الإفريقية، والتى ربما تجتاح دول خط الاستواء الإفريقى ومنابع النيل لتهدد حدودنا.

وبذلك تعتبر الأمراض المتوطنة والوبائية أو الوافدة المنقولة إلى الإنسان تشكل خطورة فادحة لصحة شعوب الأرض والتى تؤثر حتما على التنمية البشرية، مما ينعكس على قضايا الفقر والتخلف، فقد كانت الأمراض المتوطنة التى امتدت جذورها عبر التاريخ فى القارة الإفريقية أحد محاور اهتمام مؤتمرات القمة الإفريقية ‏ووضع مصر أمام مسئولياتها التاريخية بالنسبة لصحة وسلامة الإنسان فى الدول الإفريقية.‏

وعلى المستوى العالمى ما زال وباء "H1N1" الذى قتل 15 مليون إنسان فى أوربا خلال أسابيع قليلة إبان الحرب العالمية الأولى ماثلا أمام التاريخ الإنسانى فى مذبحة بشرية خطيرة متجاوزا عدد الذين قتلوا بسبب الحرب نفسها، وكذلك ظلت "البلهارسيا" بنوعيها "المانسونى" التى تصيب الكبد و"الهيماتوبيوم" التى تصيب الجهاز البولىالمرض المتوطن القاتل القومى الأول فى مصر الزراعية طوال قرون عديدة من الزمان والعدو الأول للفلاح المصرى، لتدمر جسده وتهلك صحته وتفتك بالملايين مما قوض البنية البشرية.

وقد سبق اجتياح جنوب مصر فى أول القرن الماضى وباء الملاريا الخبيثة لتسلل البعوضة الشرسة "الأنوفليس جامبيا" من شمال السودان وتسببت فى إصابة ووفاة الآلاف وقد اجتاح مصر عام 1947 وباء "الكوليرا الأسيوية" القاتل، مما اضطرت السلطات إلى غلق محافظات بأكملها ومنع التنقل بينها ثم تمادت اليد الطولى للأمراض المتوطنة ليصبح كبد الإنسان المصرى ضحية مرة أخرى ومستهدفا لفيروس لعين مراوغ قاتل وهو "الفيروس الكبدى سى" الذى كلف مصر ملايين البشر والأموال خلال عقود قليلة.

ولقد كان ظهور حالات الحميات النزفية "حمى الضنك" فى مصر على ساحل البحر الأحمر فى مناطق سفاجا والقصير هو إشارة وبائية لاستهداف مصر للأمراض المعدية لوجود البعوضة الناقلة والمسماة علميا "الإيدز المصرية".

ولذلك تعتبر الأمراض المتوطنة لأى من الأمم بمثابة المرآة الحقيقية للحالة الصحية لأفرادها، ومازالت هذه النوعية من الأمراض كثيراً ما تنطلق فى اجتياح على هيئة "أوبئة"، مما يعبر بوضوح عن شدة التخوف منها وذلك لصعوبة السيطرة عليها حين انتشارها؛ حيث إنها فى معظم الأحوال تنتشر عدواها بسهولة، وذلك من جراء الاختلاط اليومى بين الناس مما يهدد التنمية البشرية فى المجتمعات النامية، ومما هو معروف أن جميع الأمراض المتوطنة أمراض معدية وأغلبها وبائية، وهذه النوعية من الأمراض تجتاح البلدان دون أن تعرف الحدود السياسية بين هذه البلدان، فهى تصيب جميع أفراد المجتمع دون تمييز.

ومما هو واضح الآن أن هذا الفرع من الطب الذى يهتم بالأمراض المتوطنة لم يأخذ نصيبه من الاهتمام فى مصر عبر التاريخ فيما مضى وخاصة فى الجامعات المصرية، فقد كان لزاماً على كلية الطب جامعة القاهرة كمؤسسة طبية علمية عريقة طوال العهود السابقة أن تتدبر فيما هو متاح من إمكانيات للعلاج والوقاية وتطوير الأبحاث الطبية فى هذا المجال؛ حيث إن قسم الأمراض المتوطنة فى أكبر الجامعات المصرية الذى أسس عام 1953 فى قسم 2 بمستشفى المنيل الجامعى وظل قابعا حتى الآن وهو يتحمل دراسة وتحديث علوم أمراض قارات الدنيا المتوطنة التى تهدد البشر عبر أوبئة ربما تجتاح شعوب العالم وهذه الأوبئة لا تعرف الحدود السياسية بين الدول، ورغم ذلك فإن تخصص الأمراض المتوطنة فى كبرى جامعات مصر والشرق الأوسط (جامعة القاهرة) ظل فى العهود السابقة دون اهتمام ومازال يشغل عنبرا ونصف العنبر به عدد لا يتجاوز أربعين سريرا وليس مجهزا لاستقبال أو تشخيص "الحالات فائقة العدوى"، وظل دون تطور فى مجال الأمراض المتوطنة منذ أواخر الأربعينيات فى القرن الماضى رغم جهود علمائه الفائقة والمميزة، حيث كان مرتبطاً وقت ذلك فى بدايته بانتشار الأوبئة التى خلفتها الحرب العالمية الثانية نتيجة للانتقالات المكثفة للجيوش الأجنبية عبر البلاد.

كما أنه لا يوجد على مستوى الجمهورية أى مستشفيات جامعية ترتقى إلى المستوى العلمى والعناية الطبية والتطوير البحثى العلمى الضرورى لهذا التخصص باستخدام التقنيات الحديثة ولا يوجد سوى بعض مستشفيات (الحميات) التقليدية والتى لا يمكن لأى منها أن يفى بأغراض تطوير التشخيص أو العلاج أو أبحاث الوقاية أو تطوير تقنياتها على المستوى الجامعى لمنح الشهادات التخصصية العالية فى هذا المجال الطبى المهم.

إلا أن التقدم الذى حدث الآن فى العلوم المعملية الإكلينيكية قد أثبت بوضوح أن هناك عوامل كثيرة قد طرأت خلال سبعة عقود الماضية مؤداها أن الأمراض المعدية وأسباب انتشارها التى كانت معروفة خلال فترة الأربعينيات ليست الوحيدة المعروفة الآن، وإنما أضيف لها العدد الكثير من نوعيات الأمراض المنقولة عن طريق الإنسان والحيوان والطيور والحشرات والعوائل الوسيطة والمخزنة، بالإضافة إلى الكم الهائل الذى توفر من المعلومات عن التأثيرات الصحية الجانبية للفيروسات والميكروبات والفطريات والطفيليات مع التقدم فى علوم المناعة البيولوجية والباثولوجية وعلوم الدواء والعلاج ووسائل التشخيص، علاوة على الإحصاءات التشخيصية الطبية الحديثة التى أوضحت طرق مسارها وكذلك سبل الوقاية ومنع العدوى.

وتأكيدا لضرورة الاهتمام بالأمراض المتوطنة فى مصر يأتى فى المقام الأول كثرة وجود المناطق السكانية عالية الكثافة فى مصر فى منطقة وادى النيل وهى المصدر الأول لمثل هذه النوعية من الأوبئة، والسبب الثانى هو موقع مصر الجغرافى والسياسى، متمثلاً فى أنها بؤرة لقاءات لتوافدات عديدة ومتنوعة من حيث النوعيات البيئية سواء منها المحيطة بمصر أو النائية؛ حيث إن وضع مصر الجغرافى متوسط بين القارات الثلاث إفريقيا وآسيا وأوربا يجعلها ملتقى الأوبئة عندما تجتاح هذه القارات، علاوة على صلتها بالمنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط والدول الإفريقية، ومصر هى البلد الوحيد فى العالم الذى يحظى بهذا الوضع الديموجرافى والجغرافى المتميز.

وتأكيداً لمبدأ الاهتمام العلمى بهذا الفرع الاستراتيجى من فروع الطب: (الأمراض المتوطنة)، فقد كان لزاماً علىالعلماء أساتذة الأمراض المتوطنة فى كلية الطب جامعة القاهرة كمؤسسة طبية علمية عريقة تدبر فيما هو متاح من إمكانيات لإقامة صرح علمى جامعى عالمى يواكب تكنولوجيا العصر ويكون متميزا فى التشخيص الدقيق والمتقدم وتطوير سبل العلاج والوقاية وتطوير الأبحاث الطبية فى هذا المجال ورصد الأوبئة فى مواطنها قبل استفحالها وتتبع ظهور الحالات، ولأول مرة فى تاريخ مصر توضع خطة علمية لإنشاء مركز مصرى إفريقى عالمى "لرصد ومراقبة الأمراض CDC".

ولذلك فإن مشروع "مستشفى ثابت ثابت" التابع لمستشفيات جامعة القاهرة الذى يقام الآن فى مصر بشارع الهرم صرح شامخ لإرادة علماء مصر لصالح الأجيال هو الأمل الوحيد الذى يحقق إضافة جديدة رائدة غير مسبوقة إلى جامعات مصر والمنطقة العربية وإفريقيا والشرق الأوسط؛ حيث إنه أول معهد فى تاريخ هذه الجامعات يختص بمجال الأمراض المتوطنة والمعدية والحميات والوبائيات، والذى سوف يخاطب التكنولوجيا المتطورة الحديثة، وسيقوم هذا المعهد بتشخيص ومتابعة وتحديث طرق تشخيص وعلاج الأمراض المتوطنة والمعدية والحميات والوبائيات فى مصر والدول المحيطة بها فى إفريقيا والشرق الأوسط والبلاد العربية كما سيقوم برصد الأوبئة القادمة من القارات المختلفة عبر مصر، لما لها من وضع متميز بين القارات، كما قررت جميع مؤتمرات القمة الإفريقية أن تتحمل "مصر إفريقيا" دورها القيادى المتفرد التاريخى من خلال علمائها الأفذاذ مسئولية حماية القارة الإفريقية والإنسان الإفريقى من هذه الأمراض التى لا تهدد شعوبها فقط ولكن تهدد شعوب الدنيا.

وإذا كانت الأمراض المتوطنة والوبائية أو الوافدة المنقولة إلى الإنسان الإفريقى تشكل خطورة فادحة لصحة شعوب القارة والتى تؤثر حتما على التنمية البشرية مما ينعكس على قضايا الفقر والتخلف فى القارة الإفريقية؛ فقد كانت الأمراض المتوطنة التى امتدت جذورها عبر التاريخ فى القارة الإفريقية أحد محاور اهتمام مؤتمرات القمة الإفريقية والذى أخذت منه جميع توصياتها الرئيسية‏.

وقد حظى مشروع "مستشفى ثابت ثابت" التابع لمستشفيات جامعة القاهرة بالهرم باهتمام كبير لقيادات الدولة فىعهد الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى بعد توقف دام أكثر من ثمانين عاما، وقد وضعت جامعة القاهرة هذا المشروع القومى على رأس أولوياتها لتتحمل جامعة القاهرة - الجامعة العريقة - مسئولية حماية شعب مصر من الأمراض المتوطنة التى تفتك بصحة الإنسان وحماية شعوب قارة إفريقيا، وبالتالى حماية شعوب العالم ليتم استكمال أعمال بناء الصرح الشامخ لجامعة القاهرة فى شارع الهرم بعد توقف دام عقودا عديدة من الزمان منذ عام 1937 ليقترب موعد افتتاحه فى غضون شهور قليلة فى عهد الرئيس عبدالفتاح السيسى؛ ليصبح شاهدا على نجاح " قيادة مصر" من خلال علمائها وأبنائها وبجهود السادة وزراء التعليم العالى ورؤساء جامعة القاهرة وعمداء كلية الطب وعلماء وأساتذة قسم الأمراض المتوطنة وخاصة الأستاذ الدكتور جابر نصار والأستاذ الدكتور جمال عصمت، والذى يشهد لهما الجهد المضنى الشاق الدءوب من متابعة وتذليل العقبات المالية والإدارية والهندسية وإعطاء الصلاحيات لسرعة الإنجاز فى الفترة السابقة.

كل ذلك يشهد الاهتمام الكبير بما يحققه هذا الصرح القومى الشامخ من الدور الوطنى والعالمى المهم فى المرحلة المقبلة لمصرنا العزيزة، مصرنا الغالية واحة الأمن والأمان صانعة حضارة الإنسان عبر الزمان، مصر تاج العلاء ودرة الشرق.. وتحيا مصر

    الاكثر قراءة