السبت 29 يونيو 2024

إيميل زيدان.. عبقرية الوريث وإبداع التأسيس

8-11-2020 | 21:41

منحة عظيمة أن تهبك الأقدار أبًا عظيمًا.. استطاع بجهد مبدع أن يترك بصماته واضحة.. على جدران الخلود.. ولكن تلك المنحة تحمل فى طياتها "محنة" عظيمة.. لأنك إما أن تبنى وتضيف لما تركه "الأب المبدع".. وإما أن تهدم وتهدر ذلك الإرث العظيم.. وهكذا وجد إميل زيدان نفسه أمام ذلك الاختيار الأصعب.. فامتطى صهوة الإرادة والتحدى.. وانطلق مع شقيقه شكرى ليبنى ذلك الصرح العظيم "دار الهلال".. فالأب المؤسس جرجى زيدان يمثل حالة فريدة من حالات "العصامية المبدعة".. حيث خرج مع أسرته مطرودًا من قريته.. ليعمل مع الأسرة فى "مطعم صغير" امتلكوه فى بيروت.. ثم عمل فى العديد من الأعمال البسيطة مثل حرفة "الإسكافي" الذى يصلح الأحذية المتهالكة.. ولكن طموحه الجامح دفعه لدراسة الطب بالجامعة الأمريكية فى بيروت.. وبعد عام واحد تم فصله لأنه شارك فى مظاهرة تطالب بعودة أستاذه، الذى تم فصله من الجامعة.. وعن طريق بعض المعارف الشوام فى مصر.. جاء إلى المحروسة بعد أن "استلف" ستة جنيهات من أحد أقاربه.. جاء على ظهر مركب لنقل "المواشى والحيوانات".. ليكمل دراسة الطب فى قصر العيني.. ولكنه فشل فى الالتحاق بكلية الطب.. فانطلق بهذا الطموح الجامح إلى الترجمة والصحافة.. حتى أنشأ مجلة الهلال فى عام  1892لتصبح قلعة الثقافة والتنوير فى الوطن العربي.. ورحل الأب المؤسس جرجى زيدان بشكل مفاجئ فى عام 1914  ووجد إميل زيدان أنه وشقيقه بين المنحة والمحنة فإما أن يحافظا على إرث الوالد العظيم.. وإما أن يضيع منهما هذا الإرث المحترم.. وظلا لمدة عشر سنوات كاملة يعملان على تطوير الهلال وإضافة أبواب جديدة، إلا أن خرجا على العالم بفكرة جديدة وعبقرية أيضًا وهى إصدار مجلة المصور فى الرابع والعشرين من أكتوبر 1924، وكان إميل زيدان الأكثر ديناميكية.. والأكثر حرصًا على التطوير والتجديد، ولذلك فقد ترك بصماته واضحة جلية على عالم الصحافة العربية.. ويمكن أن نرصد بعضًا من تلك البصمات فيما يلي: -

أولًا: انطلق إميل زيدان إلى الآفاق الرحبة لعالم الصحافة.. بعد أن نجح فى تحويل "مجلة الهلال" إلى "مؤسسة دار الهلال".. فهو الذى أنشأ كل إصدارات المؤسسة.. بداية من المصور ثم مجلة الفكاهة.. ومجلة كل شيء.. ومجلة الدنيا المصورة.. ومجلة الأبطال الرياضية.. ومجلة الكواكب الفنية.. ومجلة أمواج الفرنسية، ومجلتى سمير وميكى للأطفال.. ومجلة الاثنين.. وكتاب الهلال وروايات الهلال.. ومن خلال كل هذه الإنجازات.. كان يسير على درب الأب المؤسس.. ولكن من خلال بصمات شديدة الخصوصية.. تعتمد على التجديد والتجويد.. فالتزم منهج الأب بإصدار مجلات متخصصة.. ولم تراوده نفسه لإصدار "جريدة".. حيث كان الهدف الأسمى هو "الثقافة".. بكل روافدها.. يتم الإضافة والبناء على الأساس العملاق، الذى تركه الأب ممثلًا فى مجلة الهلال العريقة..

ثانيًا: فى عام ظهور المصور عام  1924 صدرت فى مصر أكثر من ستين جريدة ومجلة متنوعة.. اختفت جميعًا ولم يبق منها إلا "المصور"، وذلك لأن إميل زيدان انحاز إلى فكرة "الصورة".. وهى فكرة جديدة تمثل نقلة عملاقة فى عالم الصحافة العربية، فكل الإصدارات الصحفية فى الوطن العربية كانت تعتمد فقط على الكلمة.. وتأتى الصورة كنوع هامش من "الحلية".. ولكن مجلة المصور.. جعلت من الصورة "البطل الرئيسي"، الذى يجذب عين القارئ.. وبعد المصور أصبح خبراء الصحافة فى الوطن العربى يقولون "إن الصورة تساوى ألف كلمة".

ثالثًا:  منذ مولد المصور عمل إميل زيدان وشقيقه شكرى على الأخذ بأحدث تقنيات الطباعة فى العالم.. ولذلك أخذوا بأسلوب الطباعة "الروتفرافور".. وهو أسلوب بدأ فى ألمانيا.. ثم انتقل بعد ذلك إلى كل أوربا.. وكانت المصور أول مجلة عربية تستخدم ذلك الأسلوب المتطور.. وكتبت عنه قائلة: "هو بإجماع الخبيرين أرقى أنواع الطباعة فى الوقت الحاضر.. والبرهان على ذلك أن معظم الجرائد المصورة فى أوربا وأمريكا.. قد أقلعت عن طريقة الطبع الاعتيادية.. لكى تستفيد من الرونق والبهاء اللذين هما من صفات الطريقة الجديدة.. والمصور أول من أدخلت هذا النوع من الطباعة إلى الأقطار الشرقية.. وتكبدت فى سبيل ذلك مشقات كثيرة شأن كل راغب فى التجديد.. وتتميز طريقة الروتفرافور أن الصور تظهر بها كأنها فوتوغرافيا.. فإذا قارن القارئ بين صورتين إحداهما بالروتفرافور والأخرى بالكليشيهات المعروفة.. وجد فى الأولى حياة ونصاعة لا يجدهما فى الثانية".

رابعًا: حرص إميل زيدان على التواصل مع الصحافة الغربية.. ليجعل المصور فى قلب الحدث بشكل دائم.. ولذلك كان يأخذ صورة من مصدرين.. الأول المجلات الأجنبية وما تنشره عن الزلازل والبراكين وصور الحروب والمعارك.. أما المصدر الثانى فكان الصور المحلية.. وكان يحرص على أن تنفرد المصور بالصور التى تنشرها.

خامسًا: كانت تعليمات إميل زيدان لكل العاملين بمجلة المصور ضرورة الحرص على مواكبة الأحداث وكأنهم يعملون فى جريدة يومية.. ولذلك واكبت المصور منذ صدورها كل الأحداث السياسية والاكتشافات الأثرية المهمة.. وذلك من خلال صور نادرة عن تلك الوقائع.. مثل حادث مقتل السير لى ستاك .. ونشر صور المتهمين مثل عبدالحميد عنايت - عبدالفتاح عنايت - شفيق منصور وغيرهم..

أما الاكتشافات الأثرية فكان أهمها الكشف عن قبر توت عنخ أمون.. وانفردت المصور بنشر صور التحف الفنية، التى وجدت بالمقبرة وتحولت المصور منذ صدورها ولسنوات طويلة جدًا إلى سجل مصور لتاريخ مصر.

سادسًا: صدرت المصور بعد عام واحد من صدور دستور  1923 ذلك الدستور الذى أثار حفيظة الملك فؤاد.. وجعله يظهر "أنيابه الديكتاتورية".. ولذلك وضع إميل زيدان أثناء توليه رئاسة تحرير المصور مع شقيقه شكرى.. التى امتدت لعشر سنوات كاملة "1924 - 1934".. وضع مجموعة من المبادئ ليجنب المجلة الوليدة غضب الملك والحاشية.. ومن هذه المبادئ عدم التدخل فى السياسة.. ثم مراعاة التنوع فى الموضوعات والصور.. والأهم أن تكون الأسبق فى نشر الصور لتكون "اسم على مسمي".. ثم تحويل صفحاتها إلى مرآة تنعكس عليها حوادث العالم وأحواله.. ورفع إميل زيدان شعارًا لمحتوى المجلة من الموضوعات والصور يقول نحن لا ننشر إلا "أجود الجيد وأهم المهم".

سابعًا: حرص إميل زيدان طوال فترة رئاسته للمصور فى العشر سنوات الأولى من عمرها.. على إرضاء القارئ من خلال تقديم الأبواب والموضوعات، التى تحظى بإقباله وتقديره.. مثل باب "لطائف وفكاهات" يقدمها القراء.. وموضوعات أدبية مثل حكمة الغرب - قصائد شعرية - قصص مترجمة - موضوعات علمية - عالم السيدات - مذكرات طبيب فى الأرياف.. ويتضح من ذلك تلك المسحة الأدبية التى كانت تتسم بها المصور.. وهذا شيء طبيعى فقد ولدت من "رحم الهلال".. وتلك المسحة هى التى أثرت فى أديب كبير مثل توفيق الحكيم.. فجعلته يكتب روايته الرائعة "يوميات نائب فى الأرياف".. على غرار ما كانت تنشره المصور "يوميات طبيب فى الأرياف".

وقد ظل إميل زيدان محافظًا على عدم انغماس المصور فى السياسة.. ولكن تغير ذلك تمامًا على يد الكاتب الكبير فكرى أباظة.. والذى دفع بالمصور إلى قلب السياسة.. بعد أن تولى رئاسة تحريرها فى عام  .1934

ثامنًا: سار إميل زيدان على درب والده جرجى زيدان فى مساندة المرأة ومنحها حقوقها .. حيث كان زيدان الأب أسبق من قاسم أمين كل ما كتبه فى كتابيه "تحرير المرأة - المرأة الجديدة".. ولذلك لم يكن غريبًا أن تنشر المصور فى عددها الصادر يوم 22/5/1925 صورة كبيرة على غلافها للسيدة منيرة ثابت لتعزيز طلبها فى حق المرأة فى الانتخابات "ذلك الحق الذى لم تحصل عليه المرأة المصرية إلا مع دستور 1956  بعد ثورة يوليو 1952 بقيادة الزعيم جمال عبدالناصر".. وكتبت المصور على ذلك الغلاف: "يسر المصور أن تشجع فى الأمة على الدوام العناصر الحية.. التى ترمى إلى التجديد والإصلاح والعمل".

وكان انحياز المصور للمرأة ملموسًا وقد ظهر ذلك فى المعركة التى على صفحاتها بين توفيق الحكيم وعدد من الرموز النسائية "هدى شعراوى - حرم علوبة باشا - أمينة السعيد".. وذلك عندما دعا الحكيم فى مقال نشرته المصور فى 12/2/1943 إلى تعدد الزوجات بعد مقتل عدد كبير من الرجال فى الحرب العالمية الثانية.. ورفضت زعيمات الحركة النسائية هذا الكلام.. وهاجمن الحكيم بشراسة.. وأطلقن عليه لقب "عدو المرأة".. ونشرت المصور كل كلامهن.

تاسعًا: أسس إميل زيدان لفكرة أن تكون المصور "هايد بارك".. أى منفتحة على كل الآراء والرؤى.. ولذلك لا نغالى إذا قلنا إن المصور منذ نشأتها وحتى الآن قد حررت الكلمة من قيودها.. وانفتحت على جميع التوجهات والاتجاهات.. وأتاحت التعبير لكل أصحاب الرؤى "اليسارية - العلمية - العلمانية - الدينية - الاقتصادية.. إلخ".. ولم تكتف فقط بنشر الآراء فى قالب "المقال".. ولكنها سعت طوال الوقت إلى إجراء حوارات مطولة مع رموز تلك التيارات.. وبشكل عام فقد أسس إميل زيدان لفكرة أن تجمع المصور بين سمات المجلة الثقافية على اعتبار أنها ابنة الهلال.. وبين الجريدة السياسية اليومية..

عاشرًا: عاش إميل زيدان على تلك المبادئ، التى تعلمها من والده جرجى زيدان.. وكان يحلو له أن يكتب بعضا من المبادئ والقيم، التى تعلمها من والده.. ومن تلك القيم ما كتبه يوما بعنوان "علمتنى الحياة" حيث قال لم أنس يومًا قصة رواها لى والدى وأنا حدث صغير .. فرسخت فى ذهنى من ذلك الحين.. وأعانتنى فى أحرج الأوقات.. حيث قال.. ركب جندى بريطانى حمارًا فى طريقه إلى ثكنته بالعباسية.. وكانت الحمير من وسائل الانتقال المألوفة.. وكان صاحب الحمار وهو يعدو خلفه يوجه إليه ألوانا من السباب.. ثقة منه أن الجندى الإنجليزى لا يفقه شيئًا من هذه الألفاظ.. ولكن أحد المارة استوقف الجندي.. وقال له أتدرى ما يقوله صاحب الحمار.. إنه يسبك ويصفك بكذا وكذا فما كان من الجندى إلا أن سأله: وهل هذه الألفاظ تمنعنى من الوصول إلى الثكنة، فقال الرجل لا طبعًا.. فقال الجندى "إذن دعه يقول ما يشاء فإنما يهمنى أن أصل إلى حيث أريد".

ويعلق إميل زيدان على هذه القصة قائلًا "لقد تعلمت من هذه القصة أنه ينبغى للإنسان أن يعرف هدفه.. فإذا عرف وحدده مشى إليه فى ثقة واطمئنان.. دون الالتفات إلى ما يعترض طريقه من المنغصات والمثبطات.. فليس النجاح بعيد المنال بالقدر الذى يراه شباب اليوم.. وإنما سبيله الأكيد تحديد الهدف.. وتسخير الوسائل الفعالة لبلوغ ذلك الهدف.

حادى عشر: تمتع إميل زيدان بسماحة نفس يحسد عليها.. فعندما تم صدور تنظيم الصحافة عام1960  لم يغضب ولم يحزن .. ولكن علق قائلًا: "لقد كنا بسبيل تمليك المؤسسة للعاملين بها" .. سواء أكان ذلك حقيقيًا أم لا.. إلا أن هذه الكلمات تعبر عن نفس سوية وراضية.. وقد ظل إميل زيدان يمارس عمله الصحفى بعد صدور تنظيم الصحافة لمدة عامين.. إلى أن اعتزل العمل الصحفى عام 1962 وظل لعشرين عامًا بعيدًا عن معشوقته الصحافة إلى أن رحل فى العشرين من مايو .1982