الأربعاء 15 مايو 2024

حكاياتى مع المصور

8-11-2020 | 21:46

حكاياتى مع المصور

كثيراً ما يسألنى شباب الصحفيين والصحفيات: لماذا لم أكتب نصاً روائياً عن تجربتى الصحفية.

ما كتبه فتحى غانم من أعمال روائية عن تجربته الصحفية يمنع أى محاولة أخرى.

أظلم فتحى غانم عندما أصفه بالريادة. رواياته تشكل فتحاً فى النص الروائى المكتوب عن الصحافة.

ذهبت إلى طه حسين ولا أنسى رجة الفؤاد ولا رجفة الوجدان عندما وجدت نفسى فى فيللا راميتان فى انتظار مقابلة العميد.

يومها كانت لدىَّ روايتان: الحِداد، وأخبار عزبة المنيسى. لكنى عندما ذكرت اسمى له لم يبدُ أنه عرفه أو تذكره.

اكتشفت أن آخر الأدباء الذين قرأ لهم من الشباب – فى ذلك الوقت – كان ثروت أباظة.

لاحظت على طه حسين أنه لا ينطق سوى الفصحى، مشكولة، ببطئ، كأنه يتذوقها قبل النطق بها.

نُشر الحوار على غلاف المصور تحت عنوان: "لقاء مع العميد"

الدكتور طه حسين قال لى: اللغة العربية تمر الآن بأزمة حادة

1981 شهد رحيل صلاح عبد الصبور والإفراج عن هيكل من سجن السادات.

عاصرت فى مكتب عبد الصبور دعوة العشاء التى مات – أن لم يكن قد قتل - فيها وأعرف المقدمات التى أدت للمشهد المأساوى.

كنت فى بيت صديقتى الفنانة النادرة الجميلة المرحومة معالى زايد وقت إعلان حصول نجيب محفوظ على نوبل.

التزم نجيب محفوظ يوم حصوله على نوبل ببرنامج المرسوم، ولم يغير فيه أى شئ.

جاء نجيب محفوظ لندوة فى المصور، وأعطانا أربع قصص قصيرة لم تنشر من قبل، ومختارات قصصية فى كتاب، وكانت مكافأته ألف جنيه.

تأخرنا فى إرسال المبلغ لنجيب محفوظ، فاتصل بى اتصالاً نادراً يسألنى عن الفلوس.

هذه ليست حكاياتى مع المصور، بل هى محطات أربع ربما كانت الأكثر حضوراً فى الذاكرة بالنسبة لعلاقتى بالمصور التى بدأت سنة 1972، وتوقفت سنة 2000 لأعاود الكتابة بعد سنوات فى "المصور": واستمرت الكتابة حتى هذه اللحظة. لدرجة أن مجلة المصور توشك أن تشكل فصولاً مهمة من حكاية العمر. خصوصاً تجربة العمل الصحفى وكانت من التجارب التى تصل لمستوى العلامات الفارقة فى قصة الحياة نفسها.

كثيراً ما يسألنى شباب الصحفيين والصحفيات: لماذا لم أكتب نصاً روائياً عن هذه التجربة؟ والسؤال فيه قدر كبير من المشروعية، وقبل أن أرد أن لدىَّ مشروعات لأعمال روائية لم أقترب منها، يدور فى ذهنى معنى لا أقوله لمن يبحثون عن العناوين البراقة بصرف النظر عن تعبيرها عن الحقيقة أو فائدتها للقارئ. ليس مهماً هذا كله. لكن المهم هو النجاح والسبق الصحفى من وجهة نظر الأجيال الطالعة من الصحفيين.

أعتقد أن السبب الجوهرى يكمن فيما قام به فتحى غانم وما كتبه من أعمال روائية عن تجربته الصحفية. أعرف أن الفترة الزمنية مختلفة، وأن الصحافة نفسها تغيرت وتبدلت، لكن يظل ما كتبه فتحى غانم فى رواياته: الجبل، الرجل الذى فقد ظله، زينب والعرش، وغيرها من الأعمال، تظل هذه الأعمال أكثر من رائدة.

أظلم فتحى غانم عندما أصفه بالريادة فقط. فهى تشكل فتحاً حقيقياً فى النص الروائى المكتوب عن العمل الصحفى. رغم أن غيره كثرٌ من الروائيين الذين عملوا بالصحافة وكتبوا عنها. لكن فتحى غانم علامة فارقة، لدرجة أنه قد يشكل حاجزاً ومانعاً أمام من يحاول الاقتراب من هذه التجربة، ربما أقدم عليها بسبب نعمة عدم القراءة. وأنا لا أتصور أن عدم القراءة نعمة. لكنها نعمة عدم المعرفة بما أنجزه هذا الرائد العظيم فى الكتابة عن تجربة العمل الصحفى من خلال النص الروائى.

1973

فى يناير من هذا العام كنت مجنداً فى القوات المسلحة، وكنت أخرج بتصاريح ذاهباً إلى "دار الهلال" أمارس عملى لأعود فى صباح اليوم التالى. وفى تلك الأيام كان من المتوقع أن يعقد مجمع اللغة العربية اجتماعه السنوى. ذهبت إلى طه حسين ولا أنسى رجة الفؤاد ولا رجفة الوجدان عندما وجدت نفسى فى فيللا راميتان فى انتظار مقابلة العميد.

كنت قد اتصلت به تليفونياً، ورد علىَّ سكرتيره، ونقل رغبتى إليه، وحدد لى موعداً. وقتها كنت أسكن فى شارع الهرم، محطة حسن محمد. وكان الانتقال إلى فيللا طه حسين التى كانت قريبة من موقع أكاديمية الفنون مسألة سهلة. أول ما رأيته منه كان قدميه. لأنه كان جالساً على مقعد متحرك يدفعه سكرتيره.

يومها كنت قد نشرت روايتين أوليتين لى هما: الحِداد، وأخبار عزبة المنيسى. وكانت روايتى الثالثة: أيام الجفاف، تنشر مسلسلة فى مجلة الكاتب المصرى، التى كان يرأسها أحمد عباس صالح. لكنى عندما ذكرت اسمى له لم يبدُ أنه عرفه أو تذكره. وخلال الحوار والدردشات اكتشفت أن آخر الأدباء الذين قرأ لهم من الشباب – فى ذلك الوقت – كان ثروت أباظة.

طلبت منى زميلتى فى "المصور" مديحة كامل – وهى صحفية غير الفنانة التى تحمل نفس الاسم – أن ترى طه حسين. واتصلت بسكرتيره الذى رحب وزرناه زيارة ثانية ليس بهدف إجراء حوار معه، ولكن للقياه، لا يجب أن ننسى أن هذا جرى سنة 1973، لم يكن المحرر يحمل كاميرا، ولم يكن قد تشرف بعد بالموبايل الذى يمكن البعض من التقاط صور لكل ما يمر به، وحتى بعد الموبايل فأنا لست من الذين يتعاملون معه كوسيلة للتصوير، وأقصى ما أقوم به هو استقبال المكالمات وطلب من أطلبهم.

لاحظت عليه عند إجراء الحديث أنه لا ينطق سوى الفصحى، ينطقها مشكولة، وأنه ينطق الكلمات ببطئ شديد، كأنه يتذوقها قبل النطق بها. وبدا لى أنه يسمع نفسه يتكلم قبل أن أسمعه أنا. وأن علاقته باللغة العربية علاقة صوتية. فالرجل لا يقرأ، يُقرأ له. وإن كانت الدنيا والأقدار قد حرمته البصر، فقد منحته البصيرة. ذهبت إليه سائلاً عن حال اللغة العربية ونحن على مشارف الاجتماع السنوى لمجمع اللغة العربية. لكن الرجل لم يقنع بالإجابة. بل تحول إلى صاحب سؤال. وسأل من الأسئلة أكثر مما ذهبت به عن تراجع حال اللغة العربية فى حياتنا وإهمالنا لها وعدم اعتبارنا أنها أحد ثوابت الشخصية الوطنية والقومية المصرية.

نُشر الحوار فى مجلة المصور تحت عنوان:

لقاء مع العميد

الدكتور طه حسين قال لى:

اللغة العربية تمر الآن بأزمة حادة

وقد احتل العنوان مكانه على غلاف العدد لأهمية ما قيل فيه، وقبل هذا وبعده لأهمية المتحدث الذى شكَّل صفحة كاملة فى تاريخ الأدب العربى الحديث. احتلت أهم سنوات ثقافية فى القرن العشرين.

1981

حدثان وقعا خلال هذا العام كان لهما التأثير الكبير على مسيرة الثقافة والصحافة المصرية. وقد انعكس على صفحات المصور. الأول: كان رحيل صلاح عبد الصبور "3/5/1931 – 14/8/1981"، والثانى: الإفراج عن الأستاذ محمد حسنين هيكل من سجن السادات وهو الإفراج المدوى الذى يمكن القول أنه وصف وقتها بأنه حجر الأساس الأول للحكم الجديد الذى كان يتولاه الرئيس الأسبق حسنى مبارك.

كثيرٌ من الكتابة جرت عن الحادثين، لكنى سأتناول ما يمكن أن ينعكس على صفحات المصور. كان مكرم محمد أحمد، رئيس تحرير المصور قد علم بالوفاة المفاجأة لصلاح عبد الصبور. وكنت محرراً ثقافياً. وكان الخبر المتداول لا يشفى الغليل. كان مكتوباً على النحو الآتى:

- وفاة الشاعر الغنائى صلاح عبد الصبور.

فى البداية تصورت أن هناك تشابه أسماء. وأن فى مصر من يكتب الأغانى يحمل نفس اسم صلاح عبد الصبور بعد أن تأكدت أنه صلاح عبد الصبور. وكنت قبل يومين قد عاصرت فى مكتبه دعوة العشاء التى مات – أن لم يكن قد قتل فيها – وأعرف كل المقدمات التى أدت للمشهد المأساوى.

ذهبت إلى بيت صلاح عبد الصبور فى المهندسين، وقضيت بعض الوقت هناك. وكنت فى اليوم التالى وكان يوم سبت، لأن المأساة كلها وقعت مساء الخميس. ذهبت إلى مسجد عمر مكرم وكان شقيق صلاح عبد الصبور الذى كنت أراه لأول مرة، وربما لآخر مرة أيضاً يأخذ العزاء، وكانت ملامح وجهه كأنها نسخة من ملامح وجه صلاح عبد الصبور لا يضاف إليها إلا الشارب – شارب شقيقه - الذى كان حريصاً على تربيته.

أما الأستاذ محمد حسنين هيكل، فقد شهدت أواخر هذه السنة الإفراج عنه من السجن الذى وضعه فيه أنور السادات، لم يكن هيكل بمفرده الذى ألقى القبض عليه. بل كانت نخبة المجتمع المصرى كله وقتها. سميت: حملة سبتمبر الشهيرة. وكانت فى سبتمبر 1980، ويومها نسبوا إلى الرئيس السادات أن إلقاء القبض على هيكل رغم ما كان بينهما من صداقة سابقة، ومساعدات من هيكل له حتى ينتصر على خصومه من الناصريين. قال السادات: أنه كان يهدف لاطلاع هيكل من الذاكرة الوطنية والقومية. والذى جرى أن هيكل لم يقتلع، وظل أكثر حضوراً فى ذاكرة الوطن وذاكرة الأمة وذاكرة العالم. حتى بعد رحيله عن الدنيا.

الأستاذ هيكل تم اعتقاله ليلة يوم الخميس 3 سبتمبر 1981، وتم الإفراج عنه يوم الأربعاء 25 نوفمبر 1981. قال الأستاذ هيكل لخالد عبد الهادى عندما كان يعد كتابه: علامات على طريق طويل، المنشور مؤخراً من مركز الأهرام للترجمة والنشر. وفى فصل "الخوف يعصفُ والخائفون ورَق".

استعاد الأستاذ ذكريات ما جرى معه ليلة يوم الخميس 3 سبتمبر 1981 قائلا:

- كنت فى شقتى بمدينة الإسكندرية (حى ستانلي) بعد زيارة للعاصمة الفرنسية، ومعى اثنان من أبنائى - أحمد وحسن (وقتها كان الأول قد بلغ العشرين والثانى لم يتم الخامسة عشر) - سمع أحمد فى حدود الثانية بعد منتصف الليل (لا أعرف من يقلد الآخر فاللصوص وعتاة المجرمين لا يتحركون إلا فى ظلام الليل!)، ناشدهم العودة فى الصباح، ولكن كان الرد الحازم "افتح وإلا"!.

صحوت من النوم، ودعوتهما إلى الدخول - اثنان من مباحث أمن الدولة - وقد أنبأنى بأننى مطلوب، استحضرت مقولة لى فى عصر ناصر "الشمولي" عن "زوار الفجر"، فكيف يحدث هذا فى عصر السادات "الديمقراطي"!.

عند الخروج من باب الشقة - هى فى الدور السابع من العمارة - كان أمامى أربع جنود مسلحين بمدافع رشاشة ومعهم ضابط مزود بجهاز لاسلكى، المفاجأة (وما أكثر المفاجآت فى تلك الليلة) كانت بوجود ضابط فى المصعد مسلح ببندقية آلية من نوع أم 60 الأمريكية الصنع، وأثناء نزولنا كان فى كل دور من أدوار العمارة خمسة جنود فى كل دور، وكانت قمة المفاجأة عند وصولنا للطابق الأرضى بأن قوة من ثلاثين جنديا تحتل مدخل العمارة، وضابط يتمم عبر جهازه "العملية 9 تمت"!.

استأذنته بسؤال: ما الذى لاح - لحظتها - على بالك، بعيدا عما ألقيته فى وجه الضابط الذى كان يرافقك "كأنكم فى مشهد من فيلم "زذ Z" (1)، ولم يبدو أن تلميحك له قد ترك أثرا عليه!.

لمعت عيناه، وأخذ نفسا عميقا من سيجاره، وعاد إلى سرده المشوق:

- قول منسوب لمكرم عبيد باشا "العنيف ضعيف، حتى لو غطى ضعفه بالتخويف"!. فالمشهد كان يدعو للحزن لا للذعر، فعندما يزيد حجم العنف عن الغرض منه لتحقيقه، فهو يشى بركاكة التوازنات بين الوسائل والغايات ليكشف شعور القوة بانكسارها!.

استأذنته بنقطة نظام: كما أعلم بأن مكتبك قد احتفظ بكل الصحف والإصدارات المصرية خلال الشهور الثلاث (فجر يوم الخميس 3 سبتمبر - ظهر يوم الأربعاء 25 نوفمبر 1981) من الحجز التعسفي، وأنت بدورك طالعتها عقب خروجك من المعتقل، هل كان هناك رأى "شجاع" مدافع عنك وأنت خلف القضبان؟.

ابتسم قائلا: بل جرى النقيض، غارات من التأليب ضدى متواصلة - رغم وجودى داخل زنزانة - خاصة وأن الكبت احتوى كل ألوان الطيف السياسى فى مصر، فلم تخرج كلمة واحدة مدافعة عن الحرية!.

يواصل هيكل حكايته للمعاناة خلف القضبان:

- بعد ساعة من قدومى لسجن طره، الزنزانة رقم 14، سمعت صليل الباب الحديدى ومفتاحا يدور فيه. ثم انفتح الباب عن شاويش (عبد التواب) يتبعه اثنان من الجنود، أحدهما يحمل صفيحة عسل أسود يغطيها الصدأ، وآخر يحمل صفيحة أخرى ممتلئة بأرغفة الخبز، وتحجبهما سحابة من الذباب. واعتذرت له شاكراً. ومع أنه قد بان شعورى بالجوع، فقد كان شكل ما هو ظاهر من الطعام يغنى عن فتح أى رغبة.

وانقضت ساعات ثم فتح باب الزنزانة بعد الظهر، وولج أحد الضباط يستدعينى للخروج معه. وعند غرفة مدير السجن وجدت فى انتظارى ضابطا برتبة لواء ومعه ثلاثة من العمداء. وظهر أن الموضوع مرتبط بمذكرة تفتيش شقتى ومكتبى وبيتى الصغير فى الريف.

وبعد أن تم التفتيش فى بيتى ومكتبى فى الجيزة ومصادرة بعض ما وجدوه من أوراق. قصدنا بيتى الريفي، وقد كان تحت احتلال عسكرى كبير حينما وصلنا إليه. وقد عاودنى الشعور طاغيا بالجوع، واستأذنت ضابط الحملة ما إذا كان فى إمكانى أن أطلب طبقا من البيض المقلي، وجاءنى الطبق غارقا فى السمن.

وهكذا أرغمت إلى أن أستأذن مرة أخرى ما إذا كان ممكنا استبدال البيض المقلى ببيض مسلوق لأن كثرة السمن فى البيض المقلى يحتمل أن تثير كل مشاكل المرارة والكلى التى أكابدها. وجاءنى الأذن بالقبول، بحمل البيض المسلوق (خمس بيضات تناولها خلال الأيام الخمسة الأولى فى السجن) وبعض أرغفة الخبز التى جاءنى بها خفير البيت هو وزوجته (عبد السلام وزينب)!.

واستمر هذا الوضع، فعند الساعة العاشرة من صباح كل يوم، كان الشاويش يفتح طاقة الزنزانة ويلقى لكل واحد برغيف خبز والقليل من العسل الأسود، ويحضر ثانية عند الساعة الثالثة بعد الظهر فيلقى برغيفى خبز وقطعة جبنة بيضاء لكل سجين، لكنها كانت فى جردل، والشاويش عبد التواب يفتح الباب الحديدى بيده - الباب ويده تفتقدان لأسس النظافة - ثم يدب يده فى الجردل لإعطاء قطعة الجبنة مع سرب من الذباب مرافق الشاويش وما يحمله (وهو ما رفضه الأستاذ هيكل طيلة ليالى السجن، مما أفقده 11 كلغم من وزنه!).

ولكن بعد اغتيال الرئيس السادات، سمح لنا أن نشترى من كانتين (مقصف) السجن ما قيمته جنيه واحد فقط، وكان من ضمن المسجونين الدكتور كمال الإبراشى (طبيب الأسنان وكان الأستاذ هيكل من المترددين على عيادته) نصحه بشراء الطماطم (كونها تحتوى على مجموعة من الفيتامينات والحديد)!.

كان البعض يقوم بشراء معلبات لحمة ودجاج (لانشون وبولوبيف)، وأنا لم أتناولها فى حياتي، لكن للحصول على البروتين كنت أتناول وجبة الفطور، التى أصبحت فول مدمس، وكانت وجبة هائلة، وكنت أتناولها برغبة، ولكنى قبلها أقوم بفرزه من السوس، لست وحدى ولكن كل رؤساء وزراء مصر السابقين ورجالها الأقوياء تجدهم صباحا بعد وضع نظاراتهم يقومون بفرز الفول من السوس، خصوصا بعد أن اتفقنا مع الشاويش عبد التواب أن يقوم بتغطية أرغفة الخبز من أسراب الذباب، وقد كان خبزهم مقبولا!.

وفى إحدى المناسبات قدموا لنا لحمة مسلوقة (لم يعد تقريبا يتناولها الأستاذ هيكل بعد خروجه من السجن!) فقد قدمها لى أيضا الشاويش من جردل بيده، وزميل الزنزانة الشيوعى المتمرس صابر بسيونى عرض علىّ أن يقوم بتقشير اللحمة (إزالة جوانبها الأربعة، لكن الأستاذ هيكل كان نافرا منها على الإطلاق!).

* * *

انتهت حكاية هيكل لخالد عبد الهادى، والآن أستأنف كتابتى:

بعد الإفراج عن الأستاذ هيكل، نزل فى فندق الميريديان، قيل لنا يومها أن بيته ومكتبه يخضع لعملية تجديد شاملة. لذلك استأجر جناحاً فى فندق الميرديان، وكان من أشهر فنادق القاهرة فى ذلك الوقت، وأنا أقصد ميريديان المواجه المقابل لجاردن سيتى الذى يحتل جزءاً من قلب النيل تراه من قصر العينى، وتراه أيضاً من جاردن سيتى.

كنا نعرف أن أرض الفندق كانت تعدها أم كلثوم لبناء دار للأيتام فيها. وأن سيدة مصر الأولى لم يعجبها ذلك، وانتهى المشروع قبل أن يبدأ ليقوم مكانه هذا الفندق، وليصبح مشروع أو حلم أم كلثوم كأنه لم يكن. ولن أستطرد كثيراً فى هذا الموضوع لأنه خارج عن سياق ما أنا بصدد الكتابة عنه الآن.

ذهبنا إلى الأستاذ هيكل فى الفندق لنهنئه بالخروج ونتفق معه على حوار للمصور. وكنا قد أسسنا فى المصور باباً ثابتاً أصبح أحد أركان المصور عنوانه: حوار الأسبوع، نستضيف رموز العصر فى حوار يشارك فيه كل محررى المجلة، بل إن بعض محررى المجلات الأخرى التى كانت تصدر عن الدار كانوا يستأذنون ويحضرون الحوار باعتباره تجربة صحفية مهمة فى تاريخ الصحافة المصرية.

كان عنده فى الميريديان وقت ذهابنا إليه الدكتور لويس عوض. وكان هيكل قد أعار لويس عوض سيجاراً من أغلى أنواع السيجار فى العالم الذى يدخنه واشتهر به، هو سيجار كوهيبا. وعندما دخلنا عليه فى الصالون الواسع الذى يرى النيل منه، كان الدخان منعقداً فى سماء الصالون، وكانت الرائحة تشعرك أنك فى كوبا بهافانا. حيث يصنع هذا السيجار النادر.

نُشر حوار هيكل فى مجلة المصور بتاريخ 4/12/1981، وكان عنوانه الرئيسى: المسألة الأساسية الآن هى: من نحن؟ وماذا نريد؟ وأين مصلحة مصر؟ وأعتقد أن أسئلة 1981 ما زالت صالحة للطرح ومحاولة الإجابة عليها حتى الآن.

1988

فى 12 أكتوبر وكان يوم خميس، حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل، حدث زلزال غير متوقع، ولم يخطر ولا حتى فى خيال أحد قبل حدوثه بحصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل، كأول عربى يحصل عليها، وأخشى أن أقول كآخر عربى يحصل عليها على الأقل فى جيلنا، لأن من يعيشون على أمل نوبل من المثقفين المصريين والعرب يمكن أن يغضبوا مما سأقوله.

كنت فى بيت صديقتى الفنانة النادرة الجميلة المرحومة معالى زايد وقت إعلان الخبر المدوى. وقد مرت أسرتى بصعوبات بالغة حتى اهتدوا لمكانى. واتصلوا بى على تليفونها الأرضى، وتركتها متجهاً لبيت نجيب محفوظ الذى لم أتمكن من دخوله، بسبب زحام الصحافة المصرية والعربية والعالمية، وعلى الرغم من أن الفضائيات قد عرفت بعد، فإن الزحام لم يمكننى من الدخول.

عرفت أن نجيب محفوظ فى كازينو قصر النيل، فهذا اليوم هو اليوم الذى يذهب فيه إلى شلة الحرافيش، فى منزل صديقه الكاتب الساخر: محمد عفيفى. ويومها وبمجرد إعلان الجائزة، اتصل به محمد باشا، مدير تحرير الأهرام ليبلغه بالخبر. ثم أرسلوا له سيارة ليذهب إلى الأهرام حتى تلتقط له صورة أمام مبنى الأهرام، وهى الصورة التى نشرت فى اليوم التالى.

فى كازينو قصر النيل رأيته مع شلة الحرافيش. أهمهم كان الفنان أحمد مظهر. والروائى عادل كامل. ولم أتمكن من تبادل أى كلام معه، لأن الزحام الذى كان فى بيته انتقل إلى الكازينو. ويومها لاحظت على نجيب محفوظ التزامه ببرنامجه اليومى، مع أن زلزال نوبل كان يمكن أن يدفعه لتغيير كل شئ.

أصر عندما جاءت الساعة الثامنة على الذهاب إلى سهرة الحرافيش. وتركنا ومشى، ضارباً المثل لأجيال جاءت بعده فى الالتزام بالبرنامج الأساسى مهما كانت المتغيرات. وهل هناك أكثر من نوبل كمتغير تأتى لروائى حتى يغير برنامجه اليومى؟ لكن نجيب محفوظ تركنا مع أصدقائه فى الوقت المحدد منصرفاً إلى سهرته الأسبوعية التى حافظ عليها فى حياته كلها، رغم أن مكانها تغير بسبب وفاة أصحاب الأماكن التى كان يذهب إليها.

فى صباح اليوم التالى، وكان يوم جمعة، ذهبت إليه فى منزله فى وقت مبكر، لم يكن هناك أحد، وجدته جالساً فى صالون بيته. لحظة دخولى كان يصفق بيديه طالباً من زوجته – يرحمهما الله رحمة واسعة – قهوة الصباح والصحف الصادرة. اتفقت معه على أن يأتى إلينا فى مجلة "المصور" لحوار الأسبوع.

وعندما جاء بتواضعه الذى لا يمكن أن تصفه الكلمات مهما كانت قدرتى على الكتابة، اتفقنا معه على أن يقدم لدار الهلال 4 قصص قصيرة لم تنشر من قبل. نشرتا فى مجلتى المصور والهلال. وبعد الحوار بأيام، ذهبت إليه فى مكتبه بالأهرام، وكان الأهرام قد خصص له مكتباً خاصاً، كان فى الأصل مكتب توفيق الحكيم. كنت مع المرحوم مصطفى نبيل، رئيس تحرير الهلال. واتفقنا معه على أن يعطى دار الهلال مجموعة قصصية أو رواية.

قال أن هذا من رابع المستحيلات. سألناه أن كان هناك عقد مع دار مصر للطباعة يمنعه من هذا؟ قال أن الكلمة عنده أهم من العقد. ومع هذا توصلنا لفكرة أن يختار لنا مختارات من مجموعاته القصصية، تصدر فى كتاب هى ليست مجموعة من مجموعاته، وهى مجرد مختارات.

ذهبنا إليه مرة أخرى فى الأهرام. ومعنا مجموعاته القصصية. واختار من كل مجموعة قصة. وهكذا عدنا ومعه مختاراته القصصية التى نشرت فى سلسلة روايات الهلال تحت مسمى: أهل الهوى. وهو عنوان قصة من القصص، وهو الذى اختاره عنواناً للقصص كلها. وأذكر أنه اختار القصص بسرعة عجيبة. كان ينظر فى فهرس المجموعة ويختار منها قصة. وأنه لم يتردد لحظة واحدة فى الاختيار.

اتفقنا معه على أن يحصل من دار الهلال على ألف جنيه. مقابل نشر المجموعة والقصص الأربع الجديدة التى لم تنشر من قبل. الرجل لم يطلب أموالاً. وكان لديه خجل حقيقى فى الكلام عن المال. وإن كان بسبب تأخر دار الهلال فى توصيل الألف جنيه إليه. قد اتصل بى اتصالاً تليفونياً من أندر الاتصالات التليفونية بينى وبينه. يسألنى عن المبلغ.

لحظة الاتفاق على المبلغ قال موضحاً أنه لا يقبل شيكات. فإجراءاتها معقدة بالنسبة له. وأنه يفضل الأموال السائلة. لا تنسى أننا كنا فى سنة 1988، وأن الألف جنيه لم تكن مبلغاً صغيراً فى ذلك الوقت.

قابلت فى مكتبى الصغير بدار الهلال معظم مثقفى مصر والوطن العربى. كانوا يتعجبون من صغر المكتب. زارنى فيه سميح القاسم وإيميل حبيبى وقبلهما محمود درويش. وأتى إلى الطاهر وطار عندما زار مصر لأول مرة، وقد اتفقنا معه على أن ينشر أحد مجموعاته القصصية فى سلسلة روايات الهلال، وكانت العمل الأدبى الوحيد للطاهر وطار المنشور فى مصر حتى وقتها.