فيما كانت شعيرات شاربي تتكاثف متراكبة، ومغطية شفتي العليا كليًا، صار يلذ لي التدقيق في الأعين وقراءة التعليقات الصامتة داخلها. بصرف النظر عن مزاح خفيف من الزوجة، ألمحت فيه أنى أشبه أرباب المعاشات، لم يجرؤ مخلوق آخر على إطلاق كلمة. فأنا منذ فترة بعيدة جعلت منطقتي الحرام أكثر اتساعًا وأحطتها بأسلاك شائكة.
النظر في المرآة أورثني شيئا من القلق، بالإضافة إلى المظهر الجديد غير المعتاد بالنسبة لي. أستطيع القول بثقة إن مرحلة ما قبل الشارب، تختلف كلية عن مرحلة ما بعد الشارب. كلماتي في الوقت الحاضر، تخرج بطيئة، برهبة وسمو، خطواتي ولفتاتي صارت محسوبة.
كنت – بالجملة – سعيدًا إلى أن زارني مندوب الضرائب! قاده الساعي اللعين إلى مكتبي، رفعت رأسي من بين الملفات، فهتف الساعي ليتفادى غضبى: "السيد من مصلحة الضرائب". ضبط الزائر عينيه على طرفي الشارب وبدا كمن يستعرضه ويقيسه. حولت رأسي ناحية النافذة، أبحث عن نسمة، سعلت، فواجهني بالمثل، قلت: "لدينا قرفة جيدة، أم تفضل مشروبا باردا؟"، انفرجت شفتاه عن هواء محبوس، جاءت خلفه كلمات أعدها: "عبد المحسن حسن من الضرائب العامة يبدو أن هناك خلطًا، فأنا كما ترى موظف ليس لي دخل آخر، وقد قدمت إقرار الذمة وأجدده في مواعيده". أفرج عن هواء آخر، تبعته كلمات أخرى :"هل نسيت هذا أيها السيد؟" أشار بطرف سبابته إلى الشارب، لكن إشارته ظلت لغزًا.
حبات عرق مؤلمة تخزني بين القميص واللحم، فككت الربطة والأزرار العليا، عدت أصطاد نسمة من النافذة، نظرت إلى الباب، قابلتني عيون زملائي تتلصص . انسحبوا مرتبكين، فأدركت أنهم بلا شوارب، شفة المندوب مبشورة بعناية، كذلك شفة الساعي.
-سيدي لم أسمع من قبل حكاية الضرائب على الشوارب
-عفوًا، يبدو أنك لا تتابع الوقائع المصرية
-وهل صار القرار معروفا للكافة؟
-قطعًا، وحددنا فترة سماح تخلصوا فيها من الشوارب نهائيًا
-لم ألحظ، لعله تقصير مني
-القانون في مثل حالتك لا يعفيك وعليك أن تدفع
-وكيف اهتديت إلي؟
أخرج ورقة مزدحمة بكلمات صغيرة، قال: "الشكاوى طريقنا الوحيد لكشف المستور "
-أرجوك، هذا فوق طاقتي ، إن أبى وعمى وجدي وجيراني، كانوا كلهم من ذوى الشوارب، كانوا يبدعون في تنسيقها، والتفاخر بكثافتها، جدي أقسم مرة أن صقرًا وقف على شاربه!
- أيام تدور يا صديقي، وما أظنك ستحدثني عن عشر بيضات كانت بمليم، وكيلو من اللحم المشفي بثلاثة قروش
- هل يمكني استشارة أهل الخبرة؟
- من حقك، لديك مهلة لا تزيد عن أسبوع
صفق الباب، ففزعت، ومررت بيدي على الشارب المفزوع، ضايقتني رائحة المكتب، ونذالة الزملاء، خرجت بلا استئذان، تجمدت أمام المرآة، أكلم نفسي.
جاءت زوجتي دهشة، أرادت أن تمازحني، فصرخت:
- دعيني وشأني
اعتصمت بالسرير، فخارت سطوتي، وذهبت أرضيها، حكيت لها ما حدث، قالت:
احلقه واسترح
وضعت يدي في خاصرتي زاعقًا:
لست أنا الذي يتراجع
هبطت الدرج كالصاروخ، بلا غداء، قصدت مكتب محاسب، فرك يده وقال:
يمكنك إزالته الآن، مع دفع غرامة تأخير
وإذا امتنعت؟
تدخل في متاهات
قفزت إلى الشارع، لا أثر لأي اخضرار فوق الشفاه، كلها ناعمة، رميت نفسي فى الزحام، احتك بى أحدهم فدفعته مؤنبً:
أوسع الطريق أيها المبشور الأجوف
حاوطني بعض المتسكعين، فألقيت ثلاثة منهم على الأرض، بينما تكوم الباقون كالأفراخ المذعورة. رأيت رجلا في العقد الرابع يحمل مكبرًا للصوت، اختطفته ووقفت خطيبًا:
-أيها الخونة، يا من نتفتم شفاهكم خوفًا من الضرائب، لن أحلقه، وسأرفع قضية أمام مجلس الدولة، أما أنتم ف....
لم أكمل، لأننى لمحت شاربًا يمرق على الرصيف المقابل، عدوت كالغزال المطارد، أزيح الكتل والجرائد والنظارات. لم يعد يفصلني عنه سوى شبر ، التقى شاربانا في نظرة أولى، ففتح قدميه وجرى داخل لمةٍ من الموظفين ! جريت خلفه مناديُا:
لا تفر أيها الرفيق، اقترب
تبددت صيحاتي في إشارات المرور ، وابتلعت المدينة الهائجة هيكله النحيف .