تنشر "الهلال اليوم" النص الخامس من كتاب "أجنحة لمزاج الذّئب الأبيض"، للشاعر الجزائري عبد الرزاق بوكبة، وهو بعنوان "جناح لخطوات الجذع"، ونقرأ فيه:
جناح لخطوات الجذع
تعود..
وقد أخذ منك النهار ضوء عينيك وكلماتك، تتوغل في ظلمة الزّقاق، تتوغل فيك ظلمة المرقد، فتبتسم: هل للظلمة عيون يا الولهي؟!
تتزاحم عليك الفكرة وبناتها، يتزاحم فيك النّوم وأفراسُه، فتبتسم: هل للفكرة عيون يا الولهي؟!
عيون الظلمة
عينان حمراوان مسمّرتان في الزّاوية، أكّد المواء أنهما لفصيلة القطط.
ياه.. هل تذكر قطّك حدّوش يا الولهي؟!
لم أنسَ يوم وجدتُه قبل أن يفتح عينيه في مظاهرات 05 أكتوبر 1988. قلت لوليد: سأربّيه كأنه استقلال جديد.
قال لي وليد: لا بدّ له من تضحية أكبر، وإلا سيموت جوعاً.
ولم أنس فرح جدّتي مريم بت الجازية، وهي على فراش المرض:
"ذكّرتني بجدّك مأمون، ليلةَ سمع أنهم أشعلوا الثورة في الأوراس، دخل علي بقطّ لم يفتح عينيه. قال: سأربّيه كأنه الاستقلال يا مريم، وسمّاه حدوش، هل تظنّ أن العباد فقط حاربوا في الثورة؟! حتى حدوش حارب أيضاً يا الولهي.
أفْقدَ جندياً عينَه، وهو يضرب جدّك بمؤخرة البندقية، حتى اكتشفنا فيما بعد أنه لم يمت. رفعناه من برْكة الدّماء، ووضعناه على فراش البكاء، فصاح فينا، جدك كان يرى الموتَ ولادةً أخرى، لذلك صاح فينا: خلّوني من البكاء وهاتوا لي حدوشي.
ماءَ حدوش عند رجليه، نطّ على صدره ولحس دمَه، ومن ليلتها أصبح هو جدَّك في العيون، اختلط دمه بدمه، وسأل عنه وقد عاد من الموت.
بعد شهر عاد الجنديُّ في زيِّ مدنيِّ، وطلب أن يرى جدك في فناء الدار: "قد سرّحوني من الخدمة بعد أن أعماني قطك، وأنا أريد أن أصوّره، قبل أن أعود الى بلدي".
ماءَ حدوش عند الباب، أخرج الجندي مسدّسه من جيبه.
هل تظنّ أنّ العباد فقط ماتوا في الثورة؟
حتى حدوش مات أيضاً يا الولهي.
في اللّيل..
قال جدّك لأصحابه، قبل أن يرحل من غير بكاء: يا الخاوة...
لا تحرصوا على أن يخرج المحتلّ فقط، احرصوا على ألا يقتل الاستقلال قبل أن يخرج أيضاً.
قلتُ لها: أرجوا أن يعيش لي هذه المرة يا جدّتي. هل أعجبك؟
قالت لي: ما أرجوه أن تعيش له أنت، أما أنا فقد رأيت جدّك مأموناً يناديني في المنام.
أذكر بالظبط:
المكان: الأخضرية
الزمان: 26 جانفي 1995
كان القطار يحلم بالوصول إلى الجزائر العاصمة، وكان حدوش يحلم بأمر أجهله في حجْري. منذ سنته الأولى بات يلازمني في الحَلّة والرّحلة، ما عدا إلى المرحاض، وكنت أقول في نفسي والقطار يُهدهد قولي: قط تعوّد على السّفر، ليس همَّه الفئرانُ فقط، وكي يسافر لا بد أن أعيش له، كما قالت مريم بنت الجازية. لكن من يضمن لي أن أعيش؟ الحياة والموت يأكلان في صحن واحد هذه الأيام، وأنا في صحن العيش، لا أدري نصيبَ من أكون!
تارة أقول أنا للحياة، فأتحدّى الموت بسفر كهذا، وتارة أقول أنا للموت، فأزهدَ في الحياة وأضيّع كلَّ الفرص. من لهذه الخطوات لو متُّ لك يا حدوش؟
فتح عينيه، وتململ حتى غاصت أصابعي في وبره، كأنه أراد أن يقول: لي خطواتك.
صاح وليد وقد توقّف القطار فجأة: الموت الأحمر يا الولهي.
صعد شباب عرفناهم من لحاهم وراياتهم السّوداء:
- من أنتم؟
أخرجت بطاقتي لتجيب عني، وقد فقدتُ الكلمات، أدخلت الهواء بصعوبة إلى جوفي، وقد كدت أختنق، وانشغلت..
بماذا انشغلت يا ربي؟!
هل يفقد الإنسان التفكير عندما يفقد اللغة؟
هل يحبّ الحياة، لأنّ الموت قاسٍ إلى هذا الحد؟!
وهؤلاء لماذا لا يخافون الموت؟!
هل أنا جبان إلى هذا المقام؟!
مُتْ.. أين المشكل في أن تموت؟!
ماءَ حدوش عند رجلَيْ، فعاد إليّ حبّ الحياة: لا تمتْ يا الولهي، هناك مشكل في أن تموت. لا بدّ أن تعيش ليعيش حدوش.
ماءَ حدوش.
ماذا بعد ذلك يا ربي؟!.
لا أذكر شيئاً، لكنني وأنا أرى نفسيَ فى المرآة بالمستشفى، علمت أنهم ذبحوني، فصحت: خلوني من البكاء، وهاتوا لي حدوشي.
لم يمؤْ حدوش عند رجلي
لم ينطَّ على صدري
لم يلحسْ دمي.
ومن يومها وأنا أسأل: أين أنت يا حدوش؟!
عيون الفكرة
تزاحمت عليك الفكرة وبناتها، تزاحم فيك النّوم وأفراسُه. حديث النفس أحلى مقدّمات النوم، وغداً يوم عطلة. قد تذهب إلى البحر، قد تذهب إلى الغابة، وقد لا تخرج من هذا المرقد اللعين.ستنام إذن يا الولهي؟
فجأة: استويتَ واقفاً في القاعة المظلمة، تكثّف ريتم أنفاسك، وقد تذكّرت ساعة دخولك. عينان حمروان مسمّرتان في الزّاوية، أكّد المواء أنهما لفصيلة القطط.
تراه حدوش عاد؟!