الأربعاء 26 يونيو 2024

سعيد الكفراوي.. اللقاء الأخير

أخرى14-11-2020 | 15:58

منذ شهر تقريبا، نشرت على صفحتي صورة قديمة مر عليها أكثر من عام، لزيارة قمنا بها للعم سعيد الكفراوي الكاتب الكبير والصديق العزيز، بمنزله: الشاعر الكبير عبد المنعم رمضان. والصديق العزيز. رؤوف عبدالحميد وانا.

 

حينها، ظن الكثيرون أنها صورة التقطت حديثا. بعدها، و منذ ما يقرب من أسبوعين، عندما تقابلنا قال لي: وريني الصورة. أعطيته الهاتف، بدا فرحا كطفل وهو يتأمل حفاوة الأصدقاء به. ثم راح يدقق في الصورة ويبتسم. من جهتي، لم تسعدني هذه الفرحة الغامرة التي سيطرت عليه. حركت داخلي مشاعر غامضة، إنه يقرأ التعليقات باهتمام غريب، عرفت حينها. أي مدارات يذهب إليها هذا الشيخ الجميل. ولكني ابتلعت غصتي وصمت. نبهته إلى تعليق الروائي الكبير إبراهيم عبد المجيد. الذي كان يتمنى أن يكون معنا في هذه الزيارة. اقترح علينا عم سعيد زيارته. نقضي يوم معه. إبراهيم عبد المجيد. عبد المنعم رمضان. رؤوف عبدالحميد وأنا.

 

كعادته يقوم رؤوف بأعباء الرحلة بسيارته. ذهب إلى هضبة الأهرام. أحضر إبراهيم أولا. ثم مر على منعم بفيصل، ثم أتوا إلى بالجيزة لننطلق جميعا إلى هضبة المقطم منزل الكفراوي. هناك. فوجئت برؤوف يهبط من السيارة ويحضر من الحقيبة الخلفية سياجا متحركا خاص بعبد المجيد. ليستند إليه بكلتا يديه. كانت مفاجأة محزنة، كنت أراه يستند إلى "عكاز" بيد واحدة بعد مشاكل ركبته. عندما أمسكت بيده ليتساند على صرخ. كتفه ممزقة، ولكن الأربطة مخفية تحت القميص. وصعدنا الدرج بصعوبة. عم سعيد كان في انتظارنا. وحيدا، منطفئا. الرجل ضئيل البنية أصلا، لكن الأمر يزداد تفاقما. وزنه انخفض كثيرا. 17 كيلو كما حدثنا، وزاد عمره عشرين عاما على الأقل في الفترة الأخيرة، كنا في حضرة شبح دمره السرطان.

 

لكن مع مرور الوقت وحديث الذكريات. وتناول قطع الجاتوه والشاي بحليب والقهوة والمياه الغازية. ومحبة رؤوف له وقيامه بكل أعباء تقديم هذه الأشياء كابن له. إنه يحفظ تفاصيل البيت جيدا لكثرة تواصله معه.

 

الكفراوي، أنهكه موت السيدة أحلام، زوجته الفاضلة، رحلت بهذا المرض اللعين أيضا، منذ عامين تقريبا. رحيلها أسلمه إلى الهم والانهيار الصحي. واستحالة استكمال المسيرة دون انتكاسات عميقة، ولحظات طافحة بالألم. كانا متحابين، ومتفاهمين على نحو فريد. قضيا معا رحلة الحياة في تناغم روحي يستحق التأمل. في هذه الجلسة. لاحظت ملامح عم سعيد وهى تنبض بالحياة رويدا رويدا. الوجه يضيء مع ضحكاتنا المشتركة. ويسترد هذه السنوات التي أضافها المرض بقسوة على عاتقه. ذكرياته جميلة دائما. لا يسيء لأحد. الرجل واحد من كبار الحكائين في زمننا. يملك كاريزما سحرية في هذا الصدد، صعب مقاطعته إذا انطلق في الحديث بصوته الخفيض وأدائه العذب. بدأ الجميع التنافس في هذا الجانب الجميل من الحياة. كل يعرف اللحظة التي يبدأ فيها بالتقاط الخيط. أوقاتا قليلة. كانت مشاعره تتصاعد فرحة في ليلة مفعمة بالبهجة. بدأ متوهجا. متألقا. ولكن ثمة ومضات حزن خاطف كانت ترتسم على محياه بين حين وآخر. خاصة مع اقتراب رحيلنا عنه. كانت اللحظات تمر ثقيلة. وهو لا يريدنا أن ننصرف. امكثوا قليلا، كان يقول. في النهاية، وعند ذهابنا. تسنّد إبراهيم عبد المجيد على منعم و رؤوف. وأخذني عم سعيد إلى الشرفة الواسعة التي تطل على أشجار ونباتات عطرة زرعها بنفسه بحديقة العمارة. قال بحزن : لقد اتفقنا على هذا الأنتريه، انا وأحلام ليكون جلسة مريحة بالشرفة ولكن البائع أحضره بعد وفاتها بأربعة أيام. كنت آخر من قام بتوديعه، شعرت بأنه يتمهلني. احتضنته، وقبلت جبهته، لمحت في عينيه المزيج المرعب لشعور الفقد والخوف من الوحدة، كان الانطفاء يرخي ظلاله مرة أخرى على هذا الوجه الطيب. والزمن ينحت آثاره العميقة. كانت اللحظة بأكملها تشي بأنه اللقاء الأخير.


    الاكثر قراءة