الخميس 2 مايو 2024

مِصْر الْعَرِيقَةُ بقضَائِهَا الشَّامِخَ

أخرى15-11-2020 | 16:47

مصر دولة لم تخلق كصدفة في التاريخ، بل إنها بلد ارتبط بصناعة أحداث التاريخ، وصياغة فصول مهمة كتبت في كتابه الخالد، وبخاصة المهمة والمؤثرة منها، ليس فقط من منطلق موقع عبقري حباها الله به، ولكن أيضاً لأن موقعها الجيوبلوتيكى المتميز جعلها ذات تأثير لا يستطيع أحد إنكار دوره المؤثر سواء في محيطها العربي أو الإفريقي، أو حتى بالنسبة لباقي بلدان العالم، فمصر التي تجلى عليها الحق سبحانه وتعالى بطور سيناء، واستقبلت على أرضها المسيح وأمه الطاهرة البتول، وهى أيضاً التي قال فيها النبي المصطفي محمد (صلى الله عليه وسلم) أن جُندها هم خير أجناد الأرض، وهي أيضاً البلد الذي ذُكر في قرآن يُتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، جميعها إرهاصات ودلالات على قدر عظمة وتميز وخصوصية هذا البلد الطيب، ويؤكد أيضاً أنها لم تكن صدفه في كتاب التاريخ بل خلقت لتصنع التاريخ، حينما عرفت الكتابة والفنون والعلوم والثقافة وحسابات الفلك والنجوم، وأسرار كثيرة ما زال العلم الحديث بما وصل إليه من تطور عاجز عن  سبر أغوار تلك العلوم والأسرار التي صنعها المصري القديم منذ آلاف السنين.

ولعل جميع ما سبق هي علامات تدلل على مدى عظمة هذا البلد، الأمر الذي مكنها من التعافي من آثار نكبة الربيع العربي 2011 – 2013، ولكن كان من أهم العناصر والمسببات التي ساهمت في تجاوز مصر لتلك المحنة هي قوة مؤسساتها العريقة، ولن أتحدث هنا عن المؤسسة العسكرية الباسلة وجنودها المغاوير، ولا عن الشرطة المدنية وشهدائها الأبرار وتضحياتهم التي كانت سبباً في استقرار وحفظ أمن هذا الوطن والمواطن، ولكنى اليوم في مقام الحديث عن دور هيئة هي المسئولة عن حفظ إقرار وسيادة العدل بين العباد، والتأكيد على مبادئ الحق والمساواة والعدالة بين أبناء الإقليم المصري، ومدى إسهاماتها في كافة الاستحقاقات التي أكدت وبحق أن قضاء مصر هو حصن حصين للمشروعية القانونية والإجرائية ولحفظ الحقوق والحريات، الأمر الي كان له بالغ الآثر في حفظ استقرار هذا البلد بعد ما عاناه من آثار مدمرة نتيجة تغول فصيل الإخوان الإرهابي ( شياطين هذا الزمان)، والذين حاولوا مراراً وتكراراً إسقاط هيبة هذه المؤسسة العريقة، إلا أنها كانت عصية على مخططاتهم، وظلت شامخة هامتها مرفوعة في عنان السماء بجهود شيوخ قضاتها الأجلاء، وشباب قضاتها النجباء، فلا يخفى على كائن من كان المشهد المؤسف لأنصار الجماعة الإرهابية حينما هم تحلقوا حول المحكمة الدستورية العليا (دُرة التاج في النظام القضائي المصري) في مشهد بربري همجي، حينما هي قالت كلمتها في وجه رئيسهم المتخابر محمد مرسي، وقالت إنه لا يحق له إصدار أي إعلان دستوري حينما هو أراد تحصين قراراته من رقابة القضاء، وهو الأمر الذي يؤكد أن الدولة المصرية هي دولة تحترم القانون وتجل رجالة، وتقدس نصوص قوانينه منذ آلاف السنين، وهو واحد من أهم العناصر التي صنعت عظمة هذا البلد وحفظته حتى الآن من السقوط في مخططات الغزاة الذين تعاقبت أطماعهم في خيراتها على مر العصور، فذهب الغزاة وأطماعهم وبقيت مصر خالدة، فلا خوف على بلد متحضر يحترم الدستور والقوانين المكملة له، ولما لا وهى الدولة المتحضرة وبحق، والتي سبقت العالم كله منذ أكثر من 2300 عام قبل الميلاد حينما هي وضعت نظاماً للتقاضي على درجتين، بينما كان العالم يرسخ تحت ظلم القوة الغاشمة ولا يعترف إلا بقوة السلاح، ومن هنا كان تميز الدولة المصرية العظيمة، فقد كان نظام التقاضي على درجتين أمراً معروفاً عند الفراعنة، حيث كانت أحكام محاكم الأقاليم أي (محاكم الدرجة الأولى) تستأنف أمام محكمة الاستئناف في العاصمة، كما عرفت مصر الفرعونية أيضاً محكمة القضاء الإداري، وقضاء التحكيم وأخيراً المحكمة الإقطاعية وكانت تتكون من قضاة يختارون من أعيان الأقاليم، وتختص بالفصل بين المسائل المدنية والتجارية، وكان يتبع كل محكمة نوعان من الإدارات، مثل إدارة المحفوظات ومهمتها حفظ وقيد القوانين والأحكام والوثائق التي تعرض على المحكمة، كما عرفت نظام (المكتب الأمامي) المعمول به بالمحاكم الآن، وكان يمثل في إدارة  ثانية بالمحاكم وظيفتها تلقي عرائض الدعاوي من المتقاضين، وكان رئيس المحكمة بنفسه يتولى الإشراف على هاتين الإدارتين.

كما أنها أيضاً عرفت نظام الاختصاص المكاني والجغرافي للمحاكم، فكان الوجه القبلي يوجد به ستة (6) محاكم أو بيوت كبيرة تصدر فيها الأحكام، وكان كل واحد من كبار عشرة الوجه القبلي يعتبر أيضاً مستشاراً في وزن الأقوال السرية الخاصة بالبيت الكبير؛ أي عضواً في أحد المحاكم الست، وكان رئيس هؤلاء العظماء وحده هو الذي له حق الجلوس فيها جميعاً بوصفه مستشاراً في وزن الأقوال السرية الخاصة بالبيوت الستة الكبيرة.

أما محكمة الدرجة الثانية فقد كان مقرها عاصمة البلاد، وكانت تتكون من عدد من كاتمي الأسرار الذين يحكمون باسم الملك، وقد أعيد تشكيل هذه المحكمة في عهد الأسرة الخامسة والتي حكمت مصر من عام 2494 إلى عام 2345 قبل الميلاد، حيث كان يطلق عليها محكمة الستة لأنها كانت مكونة من ستة دوائر وذلك وفقاً لما ذهب إليه معظم الشراح والمؤرخين.

وكلماتي هنا وفي هذا المقام ليس تحيزاً ولا مداهنة لقضاة مصر الأجلاء فهم أغنى عن الشكر، فهم رجال يؤدون مهمتهم بتجرد حباً في هذا الوطن وإيماناً برسالة القضاء، بل إن كلماتي اليوم هي في مقام التذكير بجهود مؤسسات ورجال كانوا سبباً في حفظ استقرار هذا البلد العظيم في واحدة من أخطر مخططات الإسقاط التي تعرضت لها منطقتنا العربية ككل، ولعل تلك الكلمات أيضاً تكون مرجعاً بسيطاً وتذكرة للبعض منا بأننا أبناء بلد هو الأعرق في التاريخ في مجال احترام الحقوق والمحافظة عليها وتسهيل طرق الوصول إليها عملاً وليس قولاً، بلد مهما مرضت لا تموت، ومهما تقدم بها العمر لا تشيخ، ومهما مر عليها من خطوب الدهر وأزماته لا تسقط، إنها مصر منحة الله إلى البشرية، ومنارة العلوم والفنون والثقافة والقانون والحقوق والحريات.

    Dr.Randa
    Dr.Radwa