الإثنين 25 نوفمبر 2024

فن

الباحث الأردني إبراهيم غرابيّة لـ"الهلال اليوم": العصر الشبكي يُقوِّض "الهرمية" كرمز وفلسفة ومنهاج

  • 17-11-2020 | 14:53

طباعة

الشبكيّة أتاحت فرصًا واقعية عظيمة رغم أن المستفيد الأكبر منها "الأوليغارشيا"

لا خيار للعرب سوى محاولة استيعاب التكنولوجيا الجديدة حتى لا نغادر التاريخ

الشبكيّة تعمل لصالح الأكثر تنظيما والأكثر نفوذا والأكثر مالا

الكاتب الأردني إبراهيم غرابيّة يبحث في كتابه الجديد مميزات وتحديّات الانتقال إلى العصر الشبكي


ثمة نمط من الحياة الشبكيّة، قادت إليه تقنية المعلومات والاتصالات، أدت إلى تقويض الهرم الذي ظل رمزا وفلسفة ومنهاجا. فالمعلومات صارت تصل عبر الانترنت والأقمار الصناعيّة، ولم يعد ممكنًا إحكام التعتيم عليها كما كان الوضع قبل ذلك، ومن جهة أخرى تتحول الشبكية إلى فلسفة في الحياة والإدارة والسياسة والثقافة بديلة للهرمية التي كانت قائمة. 

"الهلال اليوم" حاورت الباحث الأردني إبراهيم غرابية حول كتابه الصادر حديثًا عن دار "الآن ناشرون" بالأردن: "من الهرمية إلى الشبكية.. وجهة الدول والمجتمعات في عصر اقتصاد المعرفة".  


مزايا الشبكيّة

ثمة قضايا فكرية عدة ينشغل بها الباحث الأردني إبراهيم غرابيّة في كتاباته، فقد صدرت له العديد من الكتب في العلوم الاجتماعة والفكر الديني ومنها "الخطاب الإسلامي والتحولات الحضارية والاجتماعية"، و"من الدعوة إلى السياسة: المسلمون في الأردن تاريخهم وأفكارهم"، و"التطرف" وغير ذلك من الأعمال المهمة. وفي كتابه الصادر حديثًا حول "الشبكيّة" يتحدث الكاتب الأردني عن تلك المزايا التي أتاحها الانتقال إلى العصر الشبكي على المستويات كافة. 

تغلب النظرة الإيجابية والتفاؤلية على الباحث فيما يخص معظم تلك التحولات رغم أن العديد من الإصدارات الغربية لا تتوان عن إبراز القلق والحديث عن سلبيات العصر الشبكي وما سينتج عنه من مشكلات. في هذا الصدد، يقول غرابية في حديثه مع "الهلال اليوم": "إنني أكتب وأفكر كمثقف وليس أكاديمي أو باحث، فالمثقف يحمل رسالة اجتماعية ويستخدم معرفته لأجل التأثير في سلوك الأفراد والجماعات والدول باتجاه رؤية ورسالة يؤمن بها، وفي ذلك يحاول أن يعزز  مواقف وحالات وسياسات". 

ويستطرد: أعتقد أنني كنت نزيهًا في الاستنتاجات والتوقعات كما في التقييم والنظر في التحولات الاقتصادية والاجتماعية المصاحبة لتكنولوجيا الحوسبة والتشبيك. ولم أغفل التحديات والأزمات أو أتجاهلها، العكس فقد أشرت إليها وعرضتها كثيرا، كما في حديثي عن الأزمات والحروب والفجوات الاقتصادية والاجتماعية والأعمال والمهن المنقرضة والمنحسرة والتحديات التي فرضتها الشبكية على الدول والمجتمعات في السياسة والاقتصاد والثقافة والتعليم والصحة.

وعلى أي حال فإن المحصلة النهائية أو مجموع الاستجابات مع التكنولوجيا تؤشر في التاريخ والجغرافيا إلى تقدم الأمم، التكنولوجيا كانت دائما مفيدة في التقدم الاقتصادي والاجتماعي، وكانت مفيدة أيضا للفقراء والطبقات الوسطى، برغم أن المستفيد الأكبر كان "الأوليغارشيا" من الدول والطبقات المتحكمة بالموارد والنفوذ، فقد أتاحت الشبكيّة فرصا عملية وواقعية للمساواة والتأثير والعمل والتعليم والتدريب عن بعد وتخفيض النفقات في الأعمال والمؤسسات، وأتاحت المعرفة لجميع من يقدر على التواصل مع الشبكة . 

ويواصل غرابية حديثه: في التجربة التاريخية مع التكنولوجيا فإنها حررت العبيد ومكّنت الطبقات الوسطى ورسّخت الديمقراطية وطوّرت المؤسسات الخدماتية والتنموية، مع الإقرار بالطبع أنها طورت الحروب والقتل، فالحرب في واقع الحال هي بالضرورة مرتبطة بمجتمعات ودول منظمة ومتقدمة. وأعود مرة أخرى للتذكير بأنني مثقف محكوم بالتفاؤل، ليس التفاؤل ترفا أو هواية ممتعة للمثقف، لكنه رسالة ليساعد نفسه ومن يثق به لأجل تنظيم حياتنا وأنفسنا وأعمالنا باتجاه تحسينها.


الخيارات اللامتناهية

يُشير غرابية في كتابه إلى أن "الناس في تعاملهم الشامل مع الشبكات للتعليم والتواصل يستبدلون بنظامهم الهرمي التاريخي في الحياة نظامًا شبكيًا قائما على المساواة والمشاركة المتحققة فنيا.. ويشارك الفرد اليوم في ظل الشبكية ويتلقى بصفته فردا مستقلا عن انتمائه المهني أو الأسري أو المؤسسي ويتحمل وحده مستقلا مسؤولية أفكاره ومعتقداته.. ورغم أن الكاتب يعتبر ذلك من إيجابيات المجتمع الشبكي إلا أن كل تلك المزايا هي "السيولة" التي تحدث عنها زيجمونت باومان في سلسلة أعماله: "السيولة التي تطرح أمامنا الخيارات اللامتناهية تضيق علينا أكثر، فلا سكينة ولا هدوء روحي بسبب امتزاج كل شيء وغياب الشيء الواضح والمفهوم والثابت".

ويُعلّق غرابية على تلك الفكرة قائلًا: الواقع أن تاريخ الإنسان وتجاربه العملية في التفاعل مع الموارد والبيئة المحيطة تفسرها قاعدتان واضحتان: البقاء وتحسين البقاء، والبحث والتأمل، فالإنسان ينشئ أعماله وموارده وقيمه أيضا كما المؤسسات والجماعات والدول والقرى والمدن على أساس أن يعيش أطول حياة ممكنة وبصحة جيدة متجنبًا الموت والمرض والأخطار التي تهدد حياته. وفي ذلك كان يجد ويخترع ويطور التقنيات والمواد والبيئة المحيطة، وفي بحثه وتأمله كان يراجع واقعه وحياته ويجترح الأفكار والقيم التي تنظم الحياة والموارد  والأعمال، وفي هاتين القاعدتين كانت تنشأ الفرص والأزمات والمشكلات، لم يكن الخير أو الشر اتجاهين واضحين حتميين، لكنهما متداخلان ومتغيران أيضا.

ويضيف: لقد وجد الإنسان أن السلام هو القيمة الأساسية المنظمة لحياته وأعماله، ولأجل السلام فإنه يتفاعل مع الموارد والأعمال على النحو الذي يعتقد أنه يحققه، وهو أيضا لأجل السلام يمضى إلى الخوف والحروب والشك والادخار وتقليل الجهد والإنفاق. وهكذا أيضا فإننا  في تخمين التحولات والمسارات وفي تقدير الآثار وملاحظتها ندرك بوضوح أو يجب أن ندرك أنها ليست حتمية ولا تلقائية، وأنها ليست خيرا أو شرا، وليست واحدة ولكنها متعددة بلا نهايات، ولكننا بقدر ما نملك من معرفة وقيم إيجابية نستطيع فهمها والتأثير فيها. 

كما أن التحولات والتحديات حتى في حال وقوعها والاتفاق على ضررها ليست قدرًا نهائيًا. وبالطبع فإن متوالية الآثار والتغيرات هي على قدر من الضخامة والتعقيد ما يجعل المثقفين عاجزين عن الإحاطة بها، كما أنهم يتفاوتون في ذلك حسب خبراتهم وتجاربهم وقيمهم، لكن يجب أن نتذكر ونذكر دائمًا بأنها تحولات وأفكار ومعارف تكاد تكون منقطعة عن الماضي أو مختلفة عنه اختلافا كبيرا، وهذا يجعل ما لدينا من أدوات معرفية وتحليلية غير كافية للتحليل والتخطيط. 

كما أن المستقبل دائما محاط بالغموض والمفاجآت، حتى الحاضر القريب أو عندما يحلّ المستقبل في الحاضر فإن إدراكه وفهمه يتأخر ويتعدد ويتنوع، إننا نخوض في طريق من المعرفة والتفكير والفهم ليست مطروقة من قبل ولكننا نصنعها بخطواتنا، ويلفها قدر كبير من عدم اليقين.. لكن عدم اليقين نفسه تحول إلى مورد وأداة معرفية ترشد أفكارنا ومواردنا وأسواقنا وأعمالنا حتى التكنولوجيا والسلع والمنتجات اليوم تعكس حالة عدم اليقين والزوار والارتحال والتغير السائدة. 


إعادة تنظيم العالم

وبالحديث عن الاختيار الفردي الحر الذي تفرضه وتتيحه الشبكية.. سألت الكاتب: أليس هو في الآن ذاته تيسيرًا للاختراق الثقافي في ظل غياب وتهميش المؤسسات والأنظمة الهرمية التي كانت تفرض وتؤسس لأخلاقيات عامة ومعايير اجتماعية؟ ليجيب قائلًا: مُرجح أن الفرد هو من سيضمن القيم والثقافة وسيادة القوانين والأعراف، يبدو ذلك الآن موضع شك وتساؤل، فالفرد ليس مؤهلا بعد، كما أنه في مصالحه وذاتيته قد يتجاوز الخير العام أو يلحق به ضررا وبالمصالح العامة أيضا، لكن الفرد ليس بديلا للمجتمعات والسلطات، هو يتحول إلى شريك فاعل ومؤثر، وسوف تظل الدول والمجتمعات قائمة ومنظمة ومتماسكة، ولكن سوف يعاد تنظيم مكونات الأمم "الأسواق والأفراد والمجتمعات والسلطات والمؤسسات الاجتماعية والتنظيمية والسياسية والقانونية"  وعلاقاتها ببعضها وأدوارها.

إن العالم والبشرية بعامة تشهد على الدوام عمليات إعادة تنظيم وتشكيل حسب تطور الموارد والأعمال، فقد كان الدين هو المرجعية التنظيمية لكل شؤون الأمم في الاقتصاد والعلم والطب والزراعة والقضاء والمعرفة، ثم صعدت الدولة والسلطة السياسية وتشاركت المؤسسات الدينية والسياسية  تنظيم الموارد والسلطات والمصالح والصلاحيات، ثم صعدت المجتمعات شريكًا جديدًا ومؤثرا في تنظيم وتوازن المصالح والأعمال، ثم صعدت الأسواق والشركات، واليوم يصعد الفرد شريكًا خامسًا ومؤثرًا ومهمًا أيضا، لكنه ليس منفردًا في التأثير. 

وكان دائما يُقال كلما تغيرت عمليات وقيم تنظيم الأمم أن ذلك يؤدي إلى الشر والفوضى، ففي المرحلة الدينية كان يبدو أن الإنسان عاجز عن الإحاطة والمعرفة وأن الأصل هو أن يتلقّى المعرفة والأخبار من السماء لتنظيم أعماله وقراراته، ثم صعدت مخاوف حول قدرة المجتمعات على ضبط وتنظيم الفاعلين الاجتماعيين وتهيئتهم لأعمالهم ومستقبلهم وضمان القوانين والتشريعات والقيم والأخلاق، وقيل إن الأمم تتعرض للفوضى والانحلال الأخلاقي. 

وكذلك الحال بالنسبة لمشاركة الشركات والقطاع الخاص في إدارة  وتنظيم السياسات والخدمات، ويجب أن يقال إنها مخاوف ليست مخطئة تماما، ولكن المُحصلة النهائية هي القدرة على التماسك والنضح، وإن تبدّلت القيم والأخلاق والثقافات والعلاقات، ولم تظل على حالها، لكن العالم بقي يعمل بكفاءة.

لقد كان الإنسان قبل التنظيم السياسي، ولملايين السنين، ينظم حياته وعلاقاته على أساس فردي، فليس التنظيم الاجتماعي والسياسي لحياة الإنسان وشؤونه يزيد عمره على 15 ألف سنة، وقبل ذلك ولملايين السنين كان فردا، وكان الفرد ضامنًا للحياة والقيم والسلام والبقاء والتكاثر، ولا ندري في الحقيقة إن كان الإنسان اليوم أفضل من قبل، لكن على الأقل لم يكن ثمة حروب وقتل وإضرار بالبيئة والكائنات والطبيعة.


الاستجابة للتكنولوجيا 

يرى غرابية أن الدول والمجتمعات العربية تمضي في الاستجابة للتكنولوجيا الجديدة، وبمطالعة تقرير الأمم المتحدة للحكومات الالكترونية يمكن الملاحظة أن جميع الدول العربية وإن تفاوتت فيما بينها تسعى لإحلال الأنظمة الالكترونية في اعمالها ومؤسساتها، وعندما تفشى وباء كوفيد 19 في العالم لم يكن لدى الأمم جميعها خيار سوى اللجوء إلى التكنولوجيا الجديدة لتسيير اعمالها وحياتها.

ويشير إلى أن هناك فجوة كبيرة بين العرب والعالم المتقدم، وكانت هذه الفجوة قائمة أيضا في مرحلة ما قبل الشبكية أو الصناعة، ولكن لا خيار للعرب سوى العمل على استيعاب التكنولوجيا الجديدة والمشاركة فيها حتى لا نخرج من التاريخ والجغرافيا.

يبدي الكاتب في عمله حماسًا واسعًا لإدخال "الشبكية" في المجالات كافة لكن ثمة تشككات بما ستؤول إليه مصائر الدول القومية جراء التطبيق الواسع للشبكية.. إذ يحذر المؤرخ البريطاني نيل فيرجسون في كتابه "الساحة والبرج" من الثقة  في إدارة الشبكات للعالم معتبرًا إياها وصفة لإغراقه في الفوضى.. وهنا ينوه غرابية إلى أن الأمر ليس قرارا نملكه، ليس هناك خيار لرفض أو تحريم التكنولوجيا الجديدة أو التصدي لها، لكنها مثل منخفض جوي يهبط على العالم، فإما أن نتعامل معه ونخفف آثاره ونتكيف معها ونحولها إلى فرص وفوائد، أو نتجاهله، أو نحمل سيوفنا لنمنعه.

ويضيف: التكنولوجيا الجديدة مثلها مثل القديمة تحل بلا استئذان، هكذا حصل مع السيارات والطائرات والقطارات والأجهزة الكهربائية والأسلحة والأدوات الأخرى الكثيرة التي أنتجتها الصناعة، هل سيكون قرارا صائبا لو امتنعنا عن إدخال السيارات إلى بلادنا وواصلنا عمليات النقل والتجارة على الجمال؟ إن حوادث السيارات والقطارات والخسائر والوفيات الناتجة عنها أمر مؤكد وملاحظ ومتفق عليه، ولكن أحدا من الأمم لم يتجنب ذلك، وفضل العالم التكنولوجيا الصناعية مع خسائرها لأجل فوائدها الأخرى.

هكذا أيضا يجري تقييم التكنولوجيا الجديدة من الحواسيب والاتصالات والروبوتات والطابعات ثلاثية الأبعاد والطائرات والأجهزة المسيرة والبرامج والتطبيقات المختلفة والشاملة في العمل والحياة والمؤسسات؛ فلا يبدو ثمة خيار سوى استخدامها واستيعابها والمشاركة فيها برغم ما في ذلك من خسائر، ولكننا نسعى أو يجب أن نسعى لتقليل الخسائر وتعظيم الفوائد. 


عقد اجتماعي جديد 

يُبيّن غرابية أن الافتراض المفسر للعلاقة بين السلطات والأفراد والمجتمعات والشركات هو أن كل مكون يسعى للحصول على كامل الفرص والمكاسب لصالحه، ولكن التوازن بين المكونات هو ما ينشئ العقد الاجتماعي، فالشبكية تعمل لصالح الأكثر تنظيما والأكثر نفوذا والأكثر مالا، لكن الفرص والنتائج لا تكون عادة لصالح أحد على نحو حاسم، هي توازنات وتسويات بين أطراف لا يستغني أحدها عن الآخر، وسوف تقدم لبعضها تنازلات وحصصا بقدر حاجتها لبعضها البعض.

وهكذا فإن اللعبة هي أن يكون كل طرف قادرا على المشاركة وأن يملك الموارد والأدوات والقدرة على التأثير. وفي تدبّر التاريخ يمكن الملاحظة على سبيل المثال أين ذهبت الامبراطوريات والطبقات التي كانت مهيمنة والمدن والأعمال والحرف والمهن، الإقطاعيون على سبيل المثال.. وكذلك القيم والأخلاق والثقافات والأفكار والعادات والتقاليد، والإبداع والفنون.

وفيما يخص حماية الخصوصية بأشكالها كافة في العصر الشبكي يلفت الكاتب إلى أن ما يحمي الخصوصية وغيرها من المتطلبات والاحتياجات هي القيم الناشئة والعقد الاجتماعي المتشكل حول التوازن بين الفرص والموارد والتحديات والمخاوف، فالأمم في حرصها على الخصوصية وكذا الأفراد تنظم الأعمال والمؤسسات والتشريعات وتحاول التأثير بها بقدر شعورها بأهميتها والحاجة إليها، ومُرجح إن لم يكن مؤكدًا أن الأمم سوف تُنشئ أدوات وقيما وتشريعات لحماية وضمان الخصوصية. 

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة