أبدى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان توددا غير معهود للمستثمرين لإعادة تنشيط اقتصاده بلاده الواقع تحت ضغوط شديدة دفعته مؤخرا لإقالة صهره وزير المالية برات آلبيراق والتي جرى تسويقها على أنها استقالة لأسباب صحية، وكذلك إقالة محافظ البنك المركزي مراد أويصال وتعيين والد زوجته ناجي إقبال (سبق أن شغل منصب وزير للمالية) والإعلان عن حزمة وعود للخروج من أن الأزمة من دون أن يقرّ بها صراحة.
ووجه أردوغان دعوة لجميع المستثمرين للاستثمار في كافة المجالات والقطاعات ببلاده، مضيفا في كلمة ألقاها خلال مشاركته الأربعاء في الاجتماع التشاوري لاتحاد الغرف والبورصات التركية بالعاصمة أنقرة "لم نهمل الاستثمار والاقتصاد حتى في غمرة تركيزنا على النضال الرامي للحفاظ على استقلالنا ومستقبلنا بمواجهة الهجمات التي نتعرض لها".
وتابع "علينا التركيز أكثر على الإنتاج والاستثمار والتوظيف والتصدير في المرحلة الجديدة التي بدأناها"، مشددا على وجوب عدم ترك المستثمرين يُسحقون تحت وطأة الفائدة المرتفعة، مؤكدا أنه من غير الممكن الاستثمار وزيادة التصدير ومضاعفة اليد العاملة في ظل ارتفاع نسب الفائدة.
ويخوض أردوغان منذ سنوات معركة لخفض نسبة الفائدة معتقدا بقوة أنها السبب في علل الاقتصاد التركي، لكن خبراء يؤكدون أن سبب الهزات التي يتعرض لها الاقتصاد هو تدخلات الرئيس في السياسات النقدية بما أنتج حالة قلق دائمة لدى المستثمر المحلي والأجنبي.
وأشاروا إلى أن ذلك أثر بشكل كبير على تدفق الاستثمار الأجنبي خاصة، حيث يخشى المستثمرون ضخّ أموالهم في سوق عالية المخاطر.
وتخلى أردوغان نسبيا اليوم الأربعاء عن لهجة التعالي والمكابرة في مخاطبة المستثمرين على أمل استعادة الثقة المفقودة ولادراكه أنه لا يمكن الخروج من المأزق الاقتصادي دون عودة تدفق الاستثمارات الأجنبية.
وقال "الكثير من رجال الأعمال والصناعيين، شرحوا لي كيف وصلوا إلى حافة الإفلاس بسبب ارتفاع نسب الفائدة. سنواصل طريقنا وفق مفهوم يركز على النمو والتوظيف مع الحفاظ على الانضباط المالي".
وأضاف أن تركيا أنهت مرحلة التحضير وأنها تدخل في فترة الازدهار، مشددا على أهمية مكافحة التضخم وتخفيض نسبته إلى ما دون 10 بالمئة، وهي معركة خاسرة بكل المقاييس وفق تقديرات خبراء الاقتصاد ما لم يتخل الرئيس التركي عن سياساته الطاردة للاستثمار.
وتابع "عبر الإصلاحات التي قمنا بها رفعنا بلادنا 27 مرتبة، لتبلغ المركز 33 من أصل 190 دولة في مؤشر سهولة ممارسة الأعمال"، لافتا إلى أن المعطيات الأولية لشهر سبتمبر تؤكد أن تركيا ستنهي أداء الربع الثالث من العام بنمو قوي.
لكن كل المؤشرات تشير إلى عكس قراءة أردوغان لمشهد اقتصادي متعثر يهتز مع كل تطورات جيوسياسية إقليمية.
وكان للتدخل العسكري في كل من سوريا وليبيا أثر سلبي على أداء الاقتصاد وعلى استقرار المالية العامة، حيث استنزف أردوغان موارد الدولة في تغذية صراعات يسوقها على أساس أنها ضرورية لحماية الأمن القومي التركي.
وفي المحصلة وجدت أنقرة نفسها عالقة في أزمة اقتصادية تفاقمت مع اجتياح جائحة كورونا للبلاد.
وقال أردوغان "سنتجاوز كل هذه الصعوبات العام المقبل إن شاء الله وستصبح مجرد ذكرى" وهي آمال يسوقها على أمل استقطاب الاستثمارات والاستفادة ماليا أيضا من تدخله في ليبيا لصالح حكومة الوفاق في طرابلس والتي قد تجد نفسها مضطرة للاقتطاع من أموال الشعب الليبي لسداد فاتورة الدعم التركي.
وشدد أردوغان على أهمية التشاور مع عالم الأعمال في ما يخص الشؤون الاقتصادية، والاستفادة من نتاج الفكر المشترك لإنعاش اقتصاد البلاد وهي المرة الأولى التي يتحدث فيها الرئيس التركي عن أهمية المشاورات مع المختصين فيما سبق أن قدم نفسه خبيرا في الاقتصاد والتنمية وفي الشؤون المالية.
وتابع "سنرى التميز الإيجابي لبلادنا في مجالات الإنتاج والتصدير وتوظيف اليد العاملة والنمو".
وتأتي تصريحات أردوغان في محاولة لإعادة الاستقرار للعملة الوطنية (الليرة) التي فقدت ما بين 30 و40 بالمئة من قيمتها منذ العام الماضي ولم تتعاف إلا نادرا وسط مخاوف من انحدارات جديدة فلا شيء يضمن حتى الآن استقرار الليرة أو انتعاشها.
وكان واضحا أن لهجة الرئيس التركي أقل حدة ومكابرة من ذي قبل في تغير يبدو أنه بنصيحة من والد زوجته محافظ البنك المركزي ناجي إقبال الذي سبق له أن تولى حقيبة المالية وعرفت تركيا في عهده فترة من النمو الجامح اخذ لاحقا مسارا عكسيا وصولا إلى حالة من الركود.
وهذه هي المرة الثانية أو الثالثة التي يخاطب فيها أردوغان المستثمرين بشكل مباشر لأن هامش المناورة بات ضيقا ولم يعد الوقت يسمح بالمزايدة لحسابات شخصية وحزبية وايديولوجية.
ولا يعني هذا بأي حال من الأحوال تغيرا في تكتيكات الرئيس التركي أو تخل عن طموحاته السلطوية بقدر ما هي انحناءة ظرفية للعاصفة حتى استعادة التوازن المالي إن قدّر لتركيا أن تستعيد توازنها المالي وتعيد إنعاش اقتصادها المتعثر.
والصورة عموما ليست بتلك السوداوية لكنها في مسار نحو وضع قاتم للأسباب سالفة الذكر وبفعل المتغيرات السياسية في العالم، فالعقوبات الأميركية على تركيا بسبب شرائها واختبارها منظومة الصواريخ الروسية اس 400 تبدو مؤجلة إلى ما بعد 20 يناير 2021 تاريخ تسلم الرئيس الديمقراطي جو بايدن للسلطة ومغادرة الرئيس الجمهوري المنتهية ولايته دونالد ترامب للبيت الأبيض.
ومعلوم أن ترامب كان لينا أكثر من اللازم في التعاطي مع التمادي التركي سواء في ما يتعلق بالانتهاكات في شرق المتوسط أو تلك المتعلقة بشراء منظومة صواريخ روسية لا تتماشى مع منظومات الدفاع في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وتمثل خرقا لدولة عضوة (تركيا) لنظام الناتو.
ويتوقع أيضا أن يبدي الرئيس الأمريكي الجديد حزما أشد مع الحليف التركي في هذا الشأن تحديدا وتفعيل العقوبات على الذين يتعاملون مع الصناعات الدفاعية الروسية.
كما تواجه تركيا عقوبات أوروبية "قاسية" ردا على استمرار أنقرة في عمليات التنقيب والاستكشاف في شرق المتوسط في مياه متنازع عليها مع قبرص واليونان.
وستشكل هذه العوامل إذا اجتمعت في قادم الأسابيع ضربة قاصمة للاقتصاد التركي ولخطة الإنعاش التي يتوق أردوغان لتنفيذها في أقرب وقت.