وهكذا جاء عام 1949 ومصر مختنقة ومختلفة وممزقة وحالها حال
. حكومات الأقلية تحكم البلاد منذ خمس سنوات ، والوفد مطرود ومنبوذ ومحاصر من
السراي ومن الانكليز ومن كل الجهات .
ولكن لحسن حظ مصر ، فقد صور العملاء للملك و الصالح ، أن
الوفد كحزب قد انتهى وأن الجماهير التي كانت تلتف به قد انفضت من حوله ، وصدق
الملك الأكذوبة فدعا الى انتخابات حرة لكي بضع كل انسان في حجمه ، ولكي يمنح الشعب
فرصة القضاء على حزب الوفد ، وجاء حسين سري باشا ليجري الانتخابات ومعه مهره محمد
هاشم . وتالفت وزارة ائتلافية في البداية ، ثم لم تلبث الوزارة أن انفرط عقدها
وحلت محلها وزارة من بعض المستقلين والمستوترین والأرزقية ، وجرت انتخابات لم تشهد
مصر لها مثيلا ، انتخابات حرة بالفعل ، وفي جو من الارهاب النفسي ضد الوفد لم يحدث
له مثيل من قبل . انطلقت الجرائد والمجلات الموالية للسرای تهاجم مصطفى النحاس
زعيم الوفد وتنهش لحمه وتنهش عرضه ، ثم جاءت النتيجة في النهاية لتضع كل انسان في
حجمه بالفعل . لقد اكتسح الوفد الانتخابات بأغلبية ساحقة . وسقط باشوات واصحاب
ملايين واصحاب عمارات واطيان أمام افندية مجهولين ومدرسين في التعليم الثانوي ومشایخ
صغار في الأزهر ، وسقط مرشح الإخوان المسلمين في الجيزة الاخ مصطفی مؤمن ، ولحق به
المرشح الشيوعي الوحيد ، ولم ينجح من حزب مصر الفتاة الا مرشح واحد نجاحه في
الدائرة مضمون بسبب العصبية والعائلة وليس بسبب الأحزاب والمبادىء وجاء الوفد الى
الحكم بعد غيبة طويلة ، وجاء معه الرخاء والاستقرار وجاءت الحرية ايضا وانطلقت
صحافة المعارضة تكشف كل شيء وتهاجم كل شيء ابتداء من جلالة الملك الصالح والى وزير
الداخلية فؤاد سراج الدين باشا .
ولعبت صحف روزاليوسف والجمهور المصرى والاشتراكية والمصري
الى حد ما دورا رهيبا وعظيما في تقويض دعائم النظام الفاسد , وان ترك إحسان عبد
القدوس وحلمي سلام في كشف مايسمى بقضية الأسلحة الفاسدة ، وهي الأسلحة التي
اشتراها الملك وبطانته وسلح بها الجيش المصري في حرب فلسطين ، والتي كانت السبب
الأوحد في هزيمة جيش مصر وطلائعة تقف على أبواب تل أبيب ! وحاول الملك الصالح
عندئذ لجم المعارضة ووقفها عند حدها ، وحرك أحد النواب لتقديم مشروع قانون سمي
بمشروع حظر أنباء القصر ، وهاجت مصر وماجت ووقفت ولم تقعد قط . واستطاع مجلس نواب
مصر العظيم في تلك الفترة دحر المشروع الملكي . وخرجت جريدة المصري يوم التصويت
على المشروع بصور الموافقين وقد لطختهم بالسواد !
وفي هذا اليوم المحموم وقف مصطفى النحاس وكان قد تعدي
الستين بكثير ليعلن على شعب مصر نبا إلغاء معاهدة سنة 1936 مع بريطانيا العظمی -وكانت بريطانيا في ذلك الحين لم تزل عظيمة
وأسطولها يرهب جميع أقطار الأرض ، وجيشها الذي لا يقهر يحتل نصف المعمورة ! ومن
أجل مصر وقعت معاهدة ۱۹۳۶
ومن أجل مصر أعلن إلغاء المعاهدة، وتحولت مصر الي بركان من النار ، هدرت الجماهير
في الشوارع، وانطلقت الجموع نهاجم معسكرات الانجليز في القناة ، ووقف رجال الشرطة
موقفا سيظل خالدا في تاريخ مصر ، وتكونت الجماعات الفدائية واشترك في المعركة كل
الأحزاب وكل الاتجاهات . ودخل المعركة انتهازيون ولصوص وقطاع طريق . ووقف وزير
الداخلية الى جانب الجميع يدعمهم بالاسلاح وبالمال ، وسقط الف قتيل مصري نصفهم من
رجال الشرطة ونصفهم من الطلبة والعمال ومختلف طوائف الشعب .
وبدا أن الأنجليز في محنة ، وأن الملك في مأزق ، كان لابد
من حل .
محمود السعدني