السبت 11 مايو 2024

نهر الجنة

كنوزنا20-11-2020 | 16:59

كان عهد ابن طولون هو بمثابة عودة الروح الى مصر من تاني. وكان المملوك الترکمانی ابن طولون على موعد مع مصر وكان الاثنان على موعد مع القدر. لقد هبت مصر واقفة مرة أخرى على قدميها الحظة دخول ابن طولون مصر. وكان الولد عظیم الشان والشينشان، وكان مملوكا لرجل من سادة بغداد، وكان السيد مريضا لا يقوى على المشي... وعندما صدر أمر الخليفة للرجل المريض بالسفر الى القاهرة واليا على مصر استاذن الرجل في أن يرسل مملوكه أحمد بن طولون. ويبدو الأمر كله الآن وكانه من تدبير السماء ! فلم تكد تمر سنوات قليلة على دخول ابن طولون مصر حتى كانت جيوشه تزحف نحو الغرب لتضم ليبيا وأجزاء من تونس الى مملكته الجديدة ولعلها أول مرة وآخر مرة ايضا يتجه فيها جيش مصر نحو الغرب. فقد جرت العادة قبل ذلك على أن تتحرك الجيوش المصرية نحو الشرق، وكانت الشام والجزيرة العربية هما مطمع كل نظام قوي في مصر ولكن ابن طولون لسبب لا يعلمه احد خرق القاعدة واتجه نحو الغرب وعندما حقق ما كان يصبو اليه عاد مرة اخرى فسار على درب اسلافه وخلفائه ايضا فزحف نحو دمشق والشام، وأسس أول امبراطورية مصرية بعد الفتح.

ولقد كانت عاصمته الجديده - القطائع - غاية في الفن الهندسي أنفق على إنشائها كل ما غنمته جيوشه المظفرة في الشرق والغرب، وكانت دورها واسعة وحدائقها أوسع، واستخدموا في بناء دورها وقصورها حجارة الهرم الأكبر ظنا منهم أن القدماء قد قاموا بتشوين. هذه الحجارة على شكل اهرامات تمهيدا لبناء مدينة.

ولما كانت القطائع تقع على قمة ثل بتوسط النيل والصحراء الشرقية فقد اقام لها قناطر شديدة الارتفاع ورفع الماء اليها عن طريق سواق في المكان المعروف الآن بفم الخليج ولقد عاف الناس شرب الماء أول الأمر، وكانوا بعانون كثيرا في الذهاب الى النهر لأخذ حاجتهم من المياه، وأفتی شیخ مشايخ مصر بأن ماء القناطر أسن وشربه حرام واستعماله في الوضوء باطل، وعندما علم أحمد بن طولون بالأمر أرسل عددا من رجاله بعد ملتصف الليل الى منزل شيخ المشايخ وصحبوه معهم، وأدرك الرجل أن في الأمر سرا، وأنه هالك لا محالة، واصطحبوه الى ساحة واسعة تتفرع فيها القناطر الى اتجاهات عدة وفوجىء الشيخ الذي كان يزحف نحو السبعين بأحمد ابن طولون يقف عند حافة القنطرة، ووقف الشيخ العجوز پرتعد من شدة الخوف والبرد، ووقف أحمد ابن طولون صامتا برنو الى المياه الباردة المتدفقة من أعلى الى أسفل منحدرة بشدة نحو بيوت المدينة ثم انحني الحاكم و عب من المياه عب ظمان طال به العطش والشوق ثم دعا شیخ المشايخ الى الشرب فانحنى الرجل وشرب حتى امتلات بطنه. ثم تجشأ في سرور وهتف في فرح بالغ : ياله من مذاق أطيب من مذاق نهر الجنة ؛ شیخ المشايخ الذي أفتى بان ماء القنطرة حرام. هتف أمام الحاكم باله من مذاق أطيب من مذاق نهر الجنة وستكون هذه ايضا هي سمة كل مشايخ مصر الكبار إلا في لحظات نادرة وسيكون هدف المشايخ بعد ذلك إرضاء الحاكم ثم إرضاء الله ؛ وستشهد عاصمة مصر بعد ذلك عددا من المشايخ على شاكلة شيخ عصر ابن طولون، بعضهم بفتی بان البيبسي كولا حلال وبعضهم يحكم بان فاروق الأول من نسل محمد عليه الصلاة والسلام وسيصبح المشايخ بعد حادث ابن طولون جزءا من السلطة، لهم الرواتب والمناصب والهبر الشديد ؛

وعاش ابن طولون يقاتل كل يوم من اجل الحفاظ على مملكته قاتل الروم والعرب وابنه ايضا الذي انتهز فرصة غياب ابيه في بعض الفتوحات واستولى على السلطة ولكن الرجل الهمام ابن طولون عاد فأستولى على مصر مرة اخرى وقتل الولد الذي سدد اليه طعنة في الظهر، وتخلص ابن طولون من جميع الأعداء بضربة واحدة !

ولكن العمر لم يمهل ابن طولون. فسرعان ما غادر الحياة وجاء الى العرش خليفة هزيل شغوف بالنساء والعطور محب للحياة، وكانها ستصير عادة الحكم في مصر بعد ذلك كلما تولى الأمر فيها رجل قوي خلفه على العرش رجل هزيل فمن ابن طولون الى خماوريه، ومن صلاح الدين الى الملك الصالح، ومن علي بك الكبير الى البرديسى ومن محمد على الى سعيد ومن جمال عبد الناصر الى.. عصر الانفتاح والانبطاح والغم الشديد ؟ واذا كان ابن طولون قد اختار الدخول في معركة مع خليفة بغداد الضعيف، فقد اختار خمارويه الدخول معه في مصاهرة وشهدت القاهرة البالي ملاحا اشبه ما تكون بالليالي الملاح التي تشهدها الآن عند زواج بنات السلطة بأبناء الأثرياء والأغنياء والذين في جيوبهم مرض ؛ ولما مرض بالأرق أقام بركة وأجرى فيها الزئبق بدلا من الماء، ونام على بحيرة الزئبق يتأرجح سريره كطفل تهدهده الاماء. ولكن مصر كلها كانت تهدهدها أبدی الثورة، وكان عهد ابن طولون قد استنفد أغراضه، لقد أقامه رجل واحد قوى الشكيمة شديد البأس عظیم الطموح، فلما مات ماتت دولته كذلك. وإن بقيت أمام الناس فترة من الوقت ولكن الذي قام لم يكن دولة ابن طولون، ولكن شبح الدولة وصدي الصوت القوي الذي كان يتردد في جنباتها يوما ما غير بعيد.

وهكذا حلت دولة الأخشيد مكان دولة ابن طولون ودخلها عن طريق البحر، ورست قطع اسطوله المتواضع في النيل امام الفسطاط القديمة والقطائع الجديدة. وعاد وعاظ المساجد يخطبون باسم الأخشيد ويلعنون سنسفيل جدود عهد ابن طولون. ولا أحد يدري بالضبط ماذا أطلق عليه وعاظ المساجد. ولكن الأكيد أنهم وصفوه بالعهد البائد ونسبوا اليه كل نقيصة. ورموه بكل مصيبة ونبشوا قبر ابن طولون ونعتوه بالديكتاتورية والشيوعية، و الصقوا به النكسة التي حلت بمصر، أي نكسة وأي وكسة، لابد أنها من صنع يدي الحاكم الذي مات، اما الذي يتربع على عرش مصر فهو الفريد وهو الوحيد وكلهم ركش !

طابع، ربما لا تنفرد به مصر بين الدول، ولكنها تتفنن فيه وتضعه في إطار، وتضيف اليه أشياء وأشياء في كل حين !وهو مرض استوطن في مصر منذ عهد عمنا رمسیس ورعمسيس واحمسيس لدرجة أن كل حاكم جديد كان يتولى الحكم كان يمحو أسماء من سبقوه من فوق الأهرامات والمعابد ويضع اسمه الكريم محل الاسم المطموس أحوال وأهوال ولله في خلقه شئون !

ولقد جاء عصر الأخشيد ومضى دون أن يترك خلفه أثرا لامعا في التاريخ، اللهم الا بناء عاصمة جديدة لمصر هي العكر، وبناها الناس من حجارة بيوت عاصمة ابن طولون ( القطائع ) ومما اقتطعوه من حجارة الأهرام وأثار الفراعنة في ابي صير وسقارة ويقال إنه كان في أبی صبر أربعة عشر هرما صغيرا هدمت كلها واستخدمت حجارة في بناء عواصم مصر الأربع، الفسطاط والقطائع والعسكر، ثم القاهرة بعد ذلك، وعانت مصر من المجاعة في الدولة الإخشيدية بسبب نقص جريان النيل، واستمر القحط تسع سنوات، وبيع أردب القمح بثلاثين دينارا، وكان ثمنه في عهد ابن طولون دينارا واحدا لكل عشرة أرادب ! ولكن الأحوال عادت فانصلحت والأمور استقامت بعد ذلك في عهد الأمير أبو بكر الأخشیدی وبلغ من رخاء الحال وازدهار الأحوال أن الخراج بلغ في أيامه مليون دینار، وأن الأمير صنع لأولاده فوانيس شمع في ليلة شم النسيم فكان مصروف ذلك مائة وعشرين ألف دينار. وعندما مات الأمير أبو بكر كان الأمير سيف الدولة يواجه الروم وحده في حلب، والخليفة العباسي يعانی الوحدة والعزلة في بغداد، وكان الفرنجة يجوسون خلال ديار المسلمين على مزاجهم، ويدوسون على مقدسات العرب على كيفهم، وكل شيء في ترد وكل شيء في انحطاط. ولكن ذلك لم يمنع شاعرا أرزقيا عظيما هو المتنبي من رثاء الأمير ابو بکر بهذه الأبيات : لو يعلم اللحد ما قد ضم من کرم ومن فخار ومن نسماء لاتسيا با لحد طل إن فيك البحر محتبسا.

والليث مهتصرا والجود مجتمعا ولعل تلك كانت هي بداية العلاقة بين المتنبي ودولة الأخشيد. وعندما تولى الأمر كافور الأخشیدی وكان خادما لدى الأسرة وايضا كان أستاذا الأولادها حتي وقعت في مصر هزة أرضية عظيمة و خافوا الناس من ذلك وهربوا إلى الجبال، وتشاءم الأمير کافور من الأمر واعتزل الناس، حتی أخرجه من عزلته شاعر مصر الرسمي محمد بن عاصم، إذ دخل عليه والقى قصيدة عصماء بين يديه منها هذا البيت : ما زلزلت مصر من خوف پراد بها لكنها رقصت من عدله طربا قصيدة نفاق من شاعر كذاب دفع فيها كافور الف دينار ذهبا، وهذه الجائزة هي السبب الحقيقي الذي جعل المتنبي يشد رحاله الى كافور، فانا كان يدفع ألف دينار ذهبا لشاعر خفيف الوزن مثل ابن عاصم فكم يدفع الشاعر في وزن المتنبي ؟ واذا كان المتنبي هو شاعر أرزقي على المستوى القومي، فالشاعر محمد بن عاصم هو شاعر أرزقي على مستوى إقليمي، وهو نموذج من الكتاب والأدباء والشعراء المصريين ستصادفهم كثيرا في تاريخ مصر، وحتى يومنا هذا ويخطىء من يعقد المقارنة بين كافور الأخشيدي وبين بعض من حكموا مصر، ولقد كان عمنا كافور صاحب فضل وصاحب علم، وكان لابصاحب الا اعلم اهل زمانه، وكان من حاشيته علماء النحو وعلماء الفقه وأعدل القضاة، وكانت موائده العامرة مبذولة للجميع، ودواره مفتوحة للفقراء قبل الأثرياء، وكان المطبخه في كل يوم ألفا رطل من اللحم البقري وسبعمائة رطل من اللحم الضان، ومائة طير أوز، وثلاثمائة طير دجاج، وثلاثمائة فرخ حمام، وعشرون فرخ سمك كبار، وعشرون جملا رضع، وثلاثمائة صحن حلوى، والف قفص تفاح، ومائة قربة من السكر، وكان يحضر على سماطه الخاص والعام،!

ولكن حظ عمنا كافور السييء انه اصطدم بأعظم موهبة انجبتها أمة محمد على طول الزمان، هذا الفتى الموهوب الذي، ملأ الدنيا وشغل الناس، كان بالرغم من موهبته الفذة أرزقيا من أعظم طراز، مدح كافور في البداية ثم لعن أباه بعد ذلك. وقال في تبرير مدحه لكافور إنه كان فاقد الوعي، العبارة نفسها التي نطق بها متنبي أخر في هذا الزمان، مع الفارق الشاسع في حجم الموهبتين ! فبالرغم من مدائح المتنبي لكافور، فان الأجيال لم تحفظ إلا تحقیره له وهجومه عليه بعكس متنبي هذا الزمان - توفيق الحكيم - الذي ذهب كتابه - عودة الوعي - في زبالة التاريخ وأصبح بمثابة النكتة في مجالس اهل مصر! |

وليس أدل على عظمة کافور من أنه عندما مات ماتت معه مصر ودخلت في عصر آخر جديد، ولم ينتشلها من رقدتها إلا بطل تاریخی، ولم ينشل مصر وحدها ولكنه انتشل معها أمة العرب وكرامة العرب، ورفع رايتهم خفاقة على بيت المقدس رجل واحد، ولكنه ولا كل الرجال , اسمه صلاح الدين بن يوسف بن أيوب، ما أشد حاجتنا اليوم إلى رجل آخر كصلاح الدين.

محمود السعدني

    Dr.Radwa
    Egypt Air