السبت 11 مايو 2024

مشيئة الأقدار

كنوزنا20-11-2020 | 18:44

 ولكن وبالرغم من كل شيء، ظلت الفسطاط درة في تاج الخلافة أيام دمشق. وشهدت القاهرة ولاة في مرتبة عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي السرح ومحمد بن أبي بكر وعقبة بن أبي سفيان شقيق معاوية، وعقبة بن عامر الجهني صاحب رسول الله ورديفه، وعبد العزيز بن مروان، وعمر بن عبدالعزيز. وقرة بن شريك العبسي، وكان آخرهم عبيد الله بن مروان الحمار، وفي ولابنة دالت دولة بني أمية ، وانتصر العباسيون في معركة الزاب، فلاذ آخر ولاة مصر الأمويين بالفرار، وهرب نحو الصعيد، فتعقبه عسکر بنی العباس والقوا القبض عليه في قرية ابوصير من أعمال الجيزة ، وقتلوه شر قتلة، وطرحوا جثته في العراء حتي أكلت منها الذئاب والكلاب. فلما علم ابنه أن أباه هرب ثم قتل، قام الى خزائن المال فهبر منها عشرة آلاف دينار ذهبا، واستولى على كميات كبيرة من التحف والقماش والغرش، وحمل ذلك كله على اثنی عشر بغلا، واصطحب معه جماعة من عبيده، وشدد على وسطه خريطة فيها جواهر نادرة، وخرج من مصر هاربا متوجها الى بلاد النوبة، فلما وصل الى هناك، اقام في أحد القصور المهجورة، ثم أرسل بعض عبيده الي ملك النوبة طالبا الأمان على نفسه من القتل، فلما أصبح العبد بين يدي ملك النوبة ، ساله الملك : هل جاء أميركم مقاتلا أم مستجيرا؟ فاجابه العبد : بل جاء مستجيرا من عدو يريد قتله، فقال الملك : اذن ساذهب معك لمقابلته في هذه الساعة فلما اقبل ملك النوبة على الأمير، أصيب الأمير بالدهشة، فقد كان ملك النوبة رجلا أسود اللون طويل القامة نحيف الجسد يرتدي ملابس عادية فقيرة المنظر ويضع في قدميه نعالا، وتقدم ملك النوبة فقبل يد الأمير. فاشار اليه الأمير بالجلوس على مرتبة عالية كان قد صنعها ليجلس عليها ملك النوبة، ولكنه رفض وجلس على الأرض. وصمت دهرا طويلا قبل أن يقول للأمير : کیف سلب منكم ملككم ؟ وأنتم أقرب الناس الى نبيكم - ثم سكت ملك النوبة ساعة قبل أن يقول : وكيف تنتمون الى نبيكم بقرابة وأنتم تشربون ماحرم علیکم من الخمر وتلبسون ماحرم عليكم من الديباج والحرير وتركبون ماحرم عليكم من مروج الذهب والفضة ؟ مع أني نبيكم لم يفعل شيئا من هذا على الاطلاق. وبينما احنى الأمير رأسه وراح ينظر في الأرض. واصل ملك النوبة حديثه فقال له : لقد بلغنا عنك وعن أبيك وحاشيتكم انكم كنتم تخرجون الى الصيد، وتكلفون أهل القرى ما لا يطيقون، وتفسدون الزرع على الناس، وكل هذا من أجل أرنب تصيدونه قیمته سبعة انصاف. وراح ملك النوبة يعدد مساوئ الأمير وأبيه، ثم قال وهو يختم حديثه : لقد سلب منكم ملككم عندما استحللتم ماحرم الله عليكم، وأنا أخاف على نفسي ان انزلتك عندي فتحل بي النقمة التي حلت بكم، وأمهلك ثلاثة ايام لکی ترحل عن أرضي. وأحذرك اذا اقمت بعدها أخذت ما معك من أموال وعبید وقتلتك. فلما سمع كلامه، هرب من النوبة وعاد الى الفسطاط، فقبضوا عليه وأسلوه الى السفاح في بغداد حيث قتله هناك، ودخلت مصر من بعده عهدا جديدا، وشهدت أمراء من نوع آخر، لم يستفد أحد منهم من حكمة ملك النوبة، فكانوا أكثر فسقا وأشد جبرونا من ولاة بني أمية. ويبدو أن الجماهير في مصر سئمت اللعبة، وأدركها البأس من صلاح الحال، ولذلك ستشهد مصر أول ثورة شعبية في تاريخها كله، ثورة لا يشترك فيها مقاتلون محترفون ولا فرسان أبطال، ولكنها ثورة شعبية يقودها جماعة من الفلاحين والحرفيين، وستجتذب الى صفوفها  كل من أذله الفقر أو طحنه الجوع أو عضه ظلم الولاة وفساد القضاة وجشع العسكر، وسيضطر الوالي العباسي الى الفرار من الفسطاط هربا من الثورة، وسيختبيء مع بعض خاصته في مزارع حلوان، وبدا أن كل شيء في طريقه الى الانهيار ومصر توشك على الإفلات من قبضة الحكم العباسي، ولكن قدر لأول ثورة شعبية مصرية أن تنحسر موجتها وأن تنكسر شوكتها ، والسبب أن الثورة رغم عنقها وقوتها كانت بقيادة. صحيح أن الغضب كان في قمنه، وسخط الناس كان بلا حدود ولكن عدم وجود قيادة جعل الناس تفقد الرؤية الصحيحة وتخطيء الهدف. فقد

حدثت خلال الثورة أخطاء شديدة من جانب الثوار. فقد هاجمت الجماهیر الغاضبة حواصل التجار داخل الفسطاط وخارجها ونهبوا مافيها وأشعلوا فيها النيران، مع أن هؤلاء التجار كانوا رديفا للثورة، وربما كانوا اكثر سخطا على السلطان كما أعتدت بعض أجنحة الثورة على بعض الحارات داخل الفسطاط، واعتدوا بالضرب على الآمنين من السكان. وفي النهاية تم قمع الثورة قمعا شديدا. واضطر الخليفة المأمون إلى قيادة حملة والحضور الى مصر لقمع الثورة فيها، وقد دخلها في شهر محرم واستطاع ان يقضي على الثورة بعد أن أمعن في القتل، وقيل أن الطيور الجارحة كانت تحلق في الفضاء ولاتنقض على الجثث المطروحة في الصحراء، لأنها أكلت حتى شبعت، وعندما هدأت الأحوال في مصر، عاد واليها المختفي في خرابات حلوان، وكان بدعی عیسی بن منصور الراقی، وقيل أن المأمون وبخه بالكلام وقال له هذا كله لسوء تدبيرك وظلمك لأهل القرى، لقد حملت الناس مالا يطيقون وكتمت الأمر على حتى عظم، وعزل المأمون والية عيسى بن منصور ووضعه في السجن وعين الأنشين أميرا على حملة. وعند البة بتعقب الفارين من الذين قادوا الفتنة في بر مصر، فتوجه الي الصعيد، ودخل في معارك رهيبة وأسر جماعات كثيرة وأحضرهم بين يدي المأمون، فأمر المأمون بقتل الرجال وبيع النساء والصبیان، فلما خمدت الفتنة، سرح المأمون في ضواحي مصر، فكان يقيم في كل قرية يوما وليلة ثم يرحل عنها. وكانت القرى تتنافس فيما بينها لتقديم أشهى المأكولات والمشروبات للخليفة وجيشه، ويقول عمنا بن ایاس ( وكانت موائده تضم كل الأصناف من غنم وبقر ودجاج وأفراخ سمك وأوز وسكر وعسل ولوز وفاكهة وحلوى ومسك وماء ورد وشمع وبقولات وغير ذلك ) وقيل أيضا انه خرج من سرحلة التي استمرت نحو أربعة أشهر و أياما منذ خروجه من بغداد وعودته اليه باربعة مليارات من الدنانير الذهب غير الهدايا والتحف، ففرق على عسكره لما رجع الى بغداد لكل واحد منهم ملء كفيه دنانير ذهبا. واذا كانت الثورة قد قمعت بلا هوادة، فالحق أقول أن السبب إلى نشوبها - غير ظلم الولاة وفساد القضاة والعسكر - يرجع الى رجل من افاضل الناس والى سيدة عظيمة من بيت النبوة. أما الرجل فهو الامام الشافعي، أما السيدة فهي السيدة نفيسة بنت حسين بن زید بن على بن الحسين بن الامام علي بن أبي طالب، أما الإمام الشافعي فكان مولده بغزة، وقيل بعسقلان، وقيل أن فاطمة ام الامام الشافعي رأت في منامها وهي حامل به آن نجما خرج من بطنها وله ضوء عظيم فسقط بأرض مصر

ثم طارت منه شظايا فانتشرت في سائر الأغاق، وكان مولده ۱۵۰ هجرية، وهي السنة نفسها التي توفي فيها الإمام ابوحنيفة النعمان بن ثابت رضی الله عنه ، وقد حفظ القرآن الكريم وهو ابن سبع سنين، وقرأ الموطأ علي الإمام مالك بالمدينة، وتفقه على مسلم بن خالد الزنجي مفتي مكة، وأذن له في الافتاء وهو ابن خمسة عشر عاما ، وتوجه الى بغداد وهو في طريقه الى مقر وزار قبر أبي حنيفة، وكان يقول من اراد الفقه فعلية بابي حنيفة و ومن أراد الحديث عليه بالإمام مالك، وفي مصر تفرغ الامام الشافعي للعلم، وصنف نحو مائتي جزء في الفقه والأحاديث، والتف حوله خلق كثيرون، فلما اشتد بهم الكرب، وثقل عليهم ظلم الولاة والقضاة، كانوا يلجأون اليه يطلبون المشوره، فكان يردد دائما على مسامعهم، لايصلح أمور الناس الا عزائمهم، ولا يقبل الظلم الا ميت، أما الحي فهو اذا لم يقاتل، فهو على الأقل قادر على أن يصرخ. وكانت هذه فتوى شرعية من امام الزمان والعصر لجموع المصريين أن ينتفضوا ضد ظالمهم وأن يهبوا ضد جلاديهم. وذات مساء، وكان لديه خلق كثيرون. ساله أحدهم عن الطريق لاصلاح ما أفسده الدهر. فأجاب الامام الشافعي : اذا لم تكن الكلمة سدادة فليكن السيف. وكانت هذه الشارة واضحة صريحة لبدء الثورة ضد الطغاة والظالمين، وما أكثرهم في دولة بني العباس، في نفس الوقت كانت السيدة نفيسة تفتح أبواب بيتها أمام جموع المصريين، وكانت قد لقيت هي وأهلها ظلما كثيرا على يد دولة بني أمية ثم على يد دولة بني العباس. وكان زوجها أميرا على المدينة المنورة ولكن العباسيين خلعوه من ولايتها، فهاجر من الجزيرة العربية واختار مصر منفی له. ومنذ أن حطت السيدة نفيسة رحالها في مصر المحروسة، التف حولها المصريون، وقصدها أصحاب الحاجات ورجال العلم والدين، وكانت نموذجية في سلوكها كريمة في عطائها فريدة في حلمها، فأحبها المصريون وأمنوا بها لدرجة انه عندما فكر زوجها في الرحيل والعودة الى المدينة، توسل اليه المصريون ان يترك السيدة نفيسة في مصر اذا بقي مصرا على العودة الى مسقط الرأس. واضطر الزوج الكريم الى النزول عند رغبة الجماهير والاقامة في مصر الى الأبد، وقبل اندلاع الثورة بقليل كانت السيدة نفيسة تحرض المصريين على المقاومة ضد الظالمين والوقوف في وجه الحمقى من الولاة وحكام الأقاليم. وعندما أبدى لها البعض عجزهم وضعفهم، قالت لهم : لم يكن الحسين الا فردا واحدا أمام دولة غاشمة وملك عضوض، ولكنه لم يهرب ولم يستسلم، وقاتل ضد الظلم حتی قتل، وفهم المصريون ان مقاومة الظالم لاتحتاج الى جيوش، والوقوف ضد الطغيان لا ينتظر كشف حساب الموازين القوى ، ولكن مثل هذه الأمور تحتاج الى وقفة رجال، والى استعداد للتضحية بالحياة، باعتبار انه من الخير للانسان اذا ساءت الحياة ووصلت الى حد الذل أن يموت، ويصبح بطن الأرض خيرا له من ظهرها، وكان الرجل المصري الذي حرك الثورة ونفخ فيها النار هو أحمد البنهاوي، وأصله من بنها العسل، وسميت كذلك لأن مقوقس أرسل ضمن هداياه الى النبي محمد صلى الله عليه وسلم زلعة عسل نحل، فلما تذوقها الرسول الكريم، أبدى استحسان الشديد وقال من أي من العسل، فقيل له من قرية في مصر يقال لها بئها، فقال صلى الله عليه وسلم : بر الله في بنها وفي عسلها، وكان أحمد البنهاوی رجلا عالما باللغة والحديث والتفسير، فصيح اللسان، شجاع القلب، وقد اخذ على عاتقه تعبئة الجماهير في القاهرة ضد الحكم العباسي، ثم سافر الى بنها ، ثم عاد الى القاهرة مارا بعرب برشوم والعمار وقليوب ، واستطاع أن ببذر هناك خلايا الثورة وأن يمدها ببعض المال الذي استطاع أن يجمعه الشراء السيوف والخناجر والحراب. وقيل أن أغلب الأموال التي جمعها كانت من السيدة نفيسة ومن الأمام الشافعى ولو كانت خطة أحمد البنهاوي قد سارت في طريقها المرسوم، لنجحت الثورة في تحقيق أهدافها، ولكن لأن التاريخ ليس على هوى المخططين، ولكنه يسير على هوی التاريخ فقد وقعت حادثة غريبة أودت بحياة أحمد البنهاوي قبل قیام الثورة بأيام. وأصل الحكاية أن بعض قطاع الطرق نهیوا قافلة تجار بالقرب من قليوب، وهرعت الى هناك بعض الفرسان من حرس الوالي التعقب اللصوص، وحدث انهم كبسوا على قليوب وكان بها أحمد البنهاوي في بيت منعزل مع فريق من أصحابه ومعهم سيوف وخناجر وحراب من التي عدوها للثورة ، فظنهم الجنود قطاع الطرق. ونشبت بين الفريقين معركة، انتهت بمقتل أحمد البنهاوي ورفاقه بعد معركة شرسة مات وجرح فيها عدد لا بأس به من الجنود، وربما كانت هذه المعركة غير المقصودة وهي أول معركة من معارك الثورة وفقدت نشبت المعارك بعدها بقليل، لأن الثوار علموا مصير أحمد البنهاوي، ولديهم سلاح والات وعدد، وهكذا نشبت الثورة بعد أن فقدت القيادة المخططة، ولكنها نشبت وانتثسرت وانتصرت في عدة معارك دفعت الوالي الى الهرب من القاهرة واللجوء الى حلوان - وكما نشبت في القاهرة و نشيت أيضا في بئها ثم انتقلت الى ( طندئا ) فتطايرت ووصلت الى الصعيد ولم تكن في الصعيد در قاعل، ولكن الناس كانوا في انتظار أي مناسبة وأي اشارة لكي تقوم الدورة وتشتعل النيران.

واذا كان مصير الثورة قد انتهى الى الفشل ، فقد عبر المصريون عن وانهم في نظام الحكم العباسي. واستطاعوا دفع بعض المظالم، ومنع بعض الاعتداءات، وارساء بعض القواعد ، وكان أهم هذه القواعد هو ارتباط رجل الدين بالزعامة وسيصبح كل زعماء مصر بعد ذلك من رجال الدين، وسنكتشف من خلال قراءة التاريخ أن كل مشايخ مصر الكبار وأصحاب الأضرحة الكبيرة والموالد المزدحمة، هم في الحقيقة زعماء سياسيون قبل أن يكونوا رجال دين، وأنهم كانوا في صف الجماهير ضد الحاكم والوالي وعساكر السلطان، وكلهم وبلا استثناء ومن أول السيدة نفيسة والامام الشافعي والى الحسن الشاذلي والمرسمی ابوالعباس وسیدی أحمد البدوي والشاطبي والقباري وابراهيم الدسوقي، كلهم قاوموا السلطة الغاشيمة والملك العضوض، وبعضهم أشترك في محاربة الغزاة وقيادة المقاومة ضد الغازي الأجنبي. أما المشايخ الذين اكتفوا بالتسبيح والتفسير والتسول من الأثرياء والولاة، فهؤلاء کنسهم التاريخ من ذاكرة المصريين والقي بهم في غياهب النسيان.

المهم هناك واقعة طريفة لابد من سردها في هذا المقام، وهي أنه عندما حضرت الوفاة شيخ مصر الكبير الإمام الشافعي : أوصي أهله ومريديه بان يتولى غسله والي مصر ولا أحد سواه، فلما مات أبلغوا الوالي وصية الشيخ، فسال الوالي أهل بيت الإمام الشافعي هل عليه دين ؟ فقالوا نعم. أربعون الف دينار فقال هذا هو شالة ، وقام بتسديد كافة ديون الشيخ. وقيل إن هذه الديون هي نفسها الأموال التي أمد بها الإمام الشافعي احمد البنهاوي للاعداد للثورة ضد الحكم العباسي.

ما أبعد الفرق بين اليوم والأمس، وما أبعد المسافة بين الإمام الشافعي وبعض أئمة هذا الزمان، هؤلاء الذين وضعوا أنفسهم في خدمة شركات توظيف الأموال، وساعدوها باسم الإسلام، وعاونوها على النصب والاحتبال باسم الدين واخترعوا أكاذيب وأقوال ما أنزل الله بها من سلطان. رحم الله الإمام الشافعي، وغفرالله لحضرات السادة ائمة اخر الزمان.

محمود السعدني

    Dr.Radwa
    Egypt Air