الجمعة 17 مايو 2024

"جارة القمر".. عندما تصبح القصائد ذهبًا

فن21-11-2020 | 15:48

هالة من ضوء ساطع وكنجم ثاقب يتلالاْ في سماء الأغنية العربية، صوت يصدح كهدير الماء النقي الذي لا تشوبه شائبة، ظل يغمرنا بالدفء والحنين فنلتف حوله ونعيش في صُحبته أينما حللنا، واليوم السبت 20 نوفمبر نحتفي بذكرى ميلاد سفيرتنا إلى النجوم "السيدة فيروز"، التي تًكمل عامها الـ85، منذ أن انطلق صوتها الشجي من حارة زقاق البلاط ببيروت ليطوف العالم بأسره ويُصبح علامة بارزة في تاريخ الغناء، وونس القاصي والداني، فكانت دائمًا قيثارة الحياة وأيقونة العذوبة التي مازلنا نعيش في غمارها.

مسيرة طويلة غنت فيها "جارة القمر" مئات الأغاني باللهجة العامية، فأمتعت أجيال متعاقبة مازالت ذكرى كل أغنية تشدو بها محفورة في القلب والوجدان، لم تتوقف مسيرتها عند هذا الحد فغير مشاركتها في المسرح والسينما، كانت تجربتها في غناء قصائد كبار الشعراء الذين يحلقون في سماء اللغة العربية الفصيحة منذ أمد بعيد، فجابت بصوتها قصائد شعراء العهد القديم إلى شعراء العصر العباسي حتى شعراء العصر الحديث أمثال أحمد شوقي أمير الشعراء، و"إيليا أبو ماضي"، "جبران خليل جبران" وغيرهم الكثيرين الذين  سنستعرض قصائدهم في السطور اللاحقة.

استطاعت" فيروز" أن تحول كلمات تلك القصائد إلى ذهبًا، فكتبت لها الخلود الدائم بعد أن تغمدها الرنيم الفيروزي بألقه وتوهجه البهي، فغنت العديد من القصائد التي تناسب ذوق المستمعين بكافة أعمارهم وأعراقهم ومستواهم الإجتماعي، فكانت تغني لذوي المستويات الثقافية المتواضعة قبل زُمرة المثقفين، فكانت البساطة التي تغني بها تنطوي على عناية شديدة في إختياراتها، وعلى عمق وشاعرية وإيحاء جعلتها تسبح بعيدًا عن تيار النمطية والتكرار، والإصطدام بحائط المحدودية، ومن أهم الشعراء الذين غنت من إنتاجهم الأدبي ما يلي:

 

أحمد شوقي "يا جارة الوادي"

غنت "فيروز" لأمير الشعراء "أحمد شوقي " قصيدة "يا جارة الوادي"، وذلك بعد عقود طويلة من غناء موسيقار الأجيال "محمد عبدالوهاب" لها في عام 1928، وقد كتب "أحمد شوقي" القصيدة فور إعجابه بمدينة "زحلة" أثناء زيارته للبنان، فأنشد يقول في مديحها "شيعت أحلامي ولمحت.. من طرق الملاح بقلب باك شباكِ".

أعادت "فيروز" غنائها ولكن بتوزيع موسيقى جديد من الأخوين رحباني، وذلك لمراعاه أن صوت فيروز يبلغ 8 مقامات موسيقية، في حين أن صوت عبدالوهاب كان يبلغ عند غناء تلك القصيدة 14 مقامًا، وبدأ كل منهما بالبيت الذي يقول: "يا جارة الوادي طربت.. ما يشبه الأحلام وعادني ذكراكِ".

 

إيليا أبوماضي "وطن النجوم"

غنت" فيروز" للشاعر اللبناني إيليا أبوماضي قصيدة وطن النجوم التي أيقظت كل مهاجر للحنين إلى وطنه، وكانت من ألحان خالد أبو النصر اليافي، ويعد أيضًا "أبو ماضي" واحدًا من أبرز شعراء المهجر ولُقب بشاعر الفكر، وتقول القصيدة في مطلعها " طن النجوم أنا هنا حدق أتذكر من أنا، أنا ذلك الولد الذي دنياه، كانت ها هنا".

وعادت "فيروز" إلى قصائد "أبو ماضي" مرة أخرى فغنت له قصيدة "أيها الشاكي" والتي كانت دعوة صريحة منه إلى التفاؤل فيقول في مطلعها "أيها الشاكي ومابك داء، كيف تغدو إذا غدوت عليلاً، إن شرالجناة في الأرض نفس تتوخى قبل الرحيل رحيلا.. وترى الشوك في الورود، وتعمى أن ترى فوقها الندى إكليلاً".

 

جبران خليل جبران "المواكب"

كانت "فيروز" دائمًا تهتم بالكلمة الساحرة التي تنم عن ذوق رفيع فإختارت من قصائد الشاعر اللبناني الكبير"جبران خليل جبران" قصيدة الموكب التي كتبها عام 1918، وقام "نجيب حنكش" بتلحينها، ويقول مطلع القصيدة: "أعطني الناي وغنّي.. فالغناء سر الوجود، وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود، هل اتخذت الغاب مثلي منزلاً دون القصور، فتتبعت السواقي وتسلقت الصخور؟".

غنت "فيروز" مرة أخرى من قصائد "جبران" قصيدة سكن الليل التي أصدرتها في عام     1996، والتي قام بتلحينها الموسيقار "محمد عبدالوهاب"والتى تعتبر إحدى روائع القصايد التى غنتها "فيروز" وتقول فى مطلعها"سكن الليل وفى ثوب السكون تختبئ الأحلام ،وسعى البدر وللبدر عيون ، عيون، عيون ترصد الأيام ،فتعالى يا إبنة الحقل نزور كرمة العشاق ، علنا نطفئ بذياك العصير حرقة الأشواق،إسمع البلبل ، مابين الحقول ،يسكب الألحان،فى فضاء فيه التلول، نسمة الريحان "

 

 سعيد عقل "سائليني"

الشاعر الكبير "سعيد عقل" من أكثر الشعراء الذين تغنت لهم فيروز، ليس على مستوى القصيدة فقط بل تغنت بكلماته المحكية في العديد من الأغاني التي حققت شهرة كبيرة لها ونجحت نجاحًا مبهرًا مثل أغنية "لمين الهدية"، "يارا"، "فتحهن علي"، وكانت جميعهن من ألحان "الأخوين رحباني".

غنت "فيروز" قصيدة "غنيت مكة" من ألحان "الأخوين رحباني"، والتي تقول في مطلعها "غنيت مكة أهلها الصيد والعيد يملؤ أضلعي عيدا، فرحوا فلألأ تحت سما بيت على بيت الهدى زيدا، وعلى اسم رب العالمين على بنيانهم كالشهب ممدودًا".

أما في قصيدة "لاعب الريشة" تغنت فيروز من ألحان "الأخوين رحباني" وتقول القصيدة في مطلعها "لاعب الريشة وهو وأضفر العمر ورود، وهو لى من ليس يهوى لم يزر هذا الوجود، لك هذا الريح عود والغمامات وتردع تبددك الجرود ويجمعك القمر".

وأيضًا قصيدة "سائليني" ومطلعها يقول "سائليني حين عطرت السلام، كيف غار الورد واعتل الخزام، وأنا لو رحت أسترضي الشذا لانثنى لبنان عطرًا يا شام".

وهناك قصائد عديدة غنتها "فيروز" للشاعر "عقل" منها "قرأت مجدك"، "شام يا ذا السف"، "من روابينا القمر"، "مر بي"، "أمي يا ملاكي".

 

نزار قباني "لا تسألوني ما اسمه حبيبي"

تعاونت "فيروز" مع الشاعر السوري الكبير "نزار قباني" في قصيدتين، وكانتا من ألحان "الأخوين رحباني" وقد كان "قباني" معروفًا بواقعيته وجرأته المعهودة، فقد جمع ما بين الرومانسية والواقعية فتغزل في المرأة ووهبها أجمل ما قيل فيها على الإطلاق وتغنى بقصائده أكبر المطربون مثل "عبدالحليم حافظ" و"نجاه الصغيرة"، وجارة القمر "فيروز" وغيرهم الكثيرين.

وفي قصيدة "لا تسألني ما اسمه حبيبي"، تشدو "فيروز" قائلة، "لا تسألوني ما اسمه حبيبي، أخشى عليكم ضوعة الطيوب، والله لو بحت بأي حرف، تكدس الليلك في الدروب، ترونه في ضحكة السواقي، في رفة الفراش اللعوب، في البحر تنفس المراعي، وفي غناء كل عندليب، في أدمع الشتاء حين يبكي".

في قصيدة "موال دمشقي" تقول "فيروز"، "لقد كتبنا، وأرسلنا المراسيلا وقد بكينا وبللنا المناديلا، قل الذين بأرض الشام قد نزلوا قتيلكم بالهوى مازال مقتولاً، يا شام يا شامة الدنيا ووردتها، يا من بحسنك أوجعت الأزاميلا، وودت لو وزعوني فيك مئذنة، أو علقوني على الأبواب قنديلاً".

 

الأخطل الصغير "يا عاقد الحاجبين"

الشاعر اللبناني "بشارة الخوري" المعروف "بالأخطل الصغير"، ولقب أيضًا بـ"شاعر الحب والهوى"، وقد جاء تسميته بالأخطل نسبة إلى الشاعر الأموى "الأخطل التعلبي"، ويعد من رواد التجديد في الشعر العربي المعاصر، ويمتاز شعره بالغنائية الرقيقة، والكلمات المختارة بعناية فائقة، غنت له "فيروز" من قصائده ثلاث أغنيات، وقد كانت قصيدة "يا عاقد الحاجبين" من أشهر القصائد التي تغنت بها وحققت نجاحًا ملحوظًا، كانت من ألحان الأخوين رحباني، وفي مطلعها الأغنية تقول: "يا عاقد الحاجبين، على الجبين اللجين، إذا كنت تقصد قتلي، قتلتني مرتين، تمر قفز غزال، بين الرصيف وبيني، وما نصبت شباكي، ولا أذنت لعيني، تبدو كأن لا تراني، وملء عينك عيني".

ومن كلمات "الخوري" تشدو مرة أخرى من خلال قصيدة "قد أتاك يعتذر"، فتقول: "قد أتاك يعتذر لا تسله ما الخبر، كلما أطلت له في الحديث يختصر، في عيونه خبر ليس بكذب النظر، قد وهبته عمري ضاع عنده العمر".

وفي تعاون ثالث غنت له أيضًا قصيدة "يا نسيم الدجى" الذي يبدأ مطلعها "أين من مقلتي الكرى يا ظلام، أنصف الليل والخليون نامو، مسحت راحة الكرى أعين الناس، فنامت ونام فيها الغرام".

 

على محمد جواد بدر الدين "عصفور الشجن"

رجل دين شيعي لبناني، عاش في أكناف العلما والفقهاء القاطنين في منطقة النبطية التي تلقى أولى علومها في مدارسه، عُثر عليه مقتولاً ولم يتجاوز الـ35 عامًا وعلى جسده آثار تعذيب وحشية، وهو إمام بلدة "حاروف" الذي اختفى، وهو في طريقه إلى المسجد قبل بضعة أيام من العثور على جثته، ظهرت لديه موهبة الشعر منذ نعومة أظافره، وكان معروفًا بذائقته الشعرية والأدبية، وأثناء زيارته إلى جنوب لبنان تعرف على زوج "فيروز"، "عاصي الرحباني" واشترى بضعة قصائد منه في مقابل ثلاثون ليرة، بشرط ألا يكتب إسمه على قصائده، فغنت له"فيروز" قصيدة "عصفور الشجن"، وتقول في مطلعها: "أنا يا عصفور الشجن مثل عينيك بلا وطن، بي كما بالطفل تسرقه، أول الليل يد الوسن، واغتراب بي وبي فرحُ، كإرتحال البحر بالسفن".

ميخائيل نعيمة "يا نثري"

هو واحدًا من أِشهر الشعراء اللبنانين ويعد واحدًا من أهم المفكرين الذين حملوا لواء النهضة الفكرية والثقافية، فقد ترك خلفه تراثًا أدبياً ما بين الشعر والقصة والمسرحية وكتاباته النقدية التي تشهد له بمكانته السامية في الأوساط الثقافية.

غنت له "فيروز " من ألحان "الأخوين ربحاني" قصيدة يا نثري وتقول فيها: " تناثري تناثري يا بهجة النظر، يا مرقص الشمس ويا أرجوحة القمر، يأرغن الليل، ويا قيثارة السحر، يا رمز فكر حائر، ورسم روح ثائر".

 

زكي ناصيف "أهواك بلا أمل"

يعتبر واحدًا من الجيل الأول من الملحنين اللبنانين الذين، واكبوا نهوض إذاعة لبنان في أربعنيات القرن العشرين، قدم أكثر من 500 أغنية، ولحن وغني بعضها بصوته، تعاون مع كبار المطربين منهم "فيروز"، ففي عام 1994 ألف ألبوم كامل لها أسماه "فيروز تغني زكي ناصيف"، ومن أشهر قصائده التي كتبها لها وقام بتلحينها أيضًا قصيدة "أهواك بلا أمل" وتقول فيها: "أهواك بلاأمل، وعيونك تبسم لي، وورودك تغريني بشهيات القبل، أهواك ولي قلب، بغرامك يلتهب، تدنيه فيقترب، تقصيه فيغترب".

 

شعراء العصر القديم

نلاحظ دائمًا أن "فيروز" تسعى دائمًا إلى دقة الإختيار وجماليته وقوة التعبير أينما تكمن أصالة الصورة الشعرية، وذلك في كنف ورعاية "الأخوين رحباني"، فكونوا معصا ثلاثي يبحث عن ما هو جديد يصقل التجربة ويثريها، فكان الشعر العربي القديم وجهتم التي من خلالها عثروا على كنوزًا خلدتها الموسيقى، لتغني لنا فيروز لعمالقة الشعر الجاهلي والعباسي والأموي وذلك من خلال ألبوم "مش كاين هيك تكون".

غنت فيروز لأشهر الشعراء على الإطلاق، "أبو الطيب المتنبي" الذي يُعد أحد مفاخر الأدب العربي من قصيدة "أرق على أرق"، تلك الأبيات التي تجمع بين الحكمة والغزل في المرأة فيقول: "نبكي على الدنيا وما من معشر جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا، وعندك أهل العشق حتى ذقته فعجبت كيف يموت من لايعشق".

أما من قصائد عنترة العبسى غنت تلك الأبيات التي تقول: "لو كان معي قلبي ما اخترت غيركم، ولا رضيت سواكم في الهوى بدلا، لكنه راغبًا فيما يعذبه، وليس يقبل لا لومًا ولا عذلا".

وكان للشاعر الأموى "جرير" أن تغني له جارة القمر أشهر أبياته "إن العيون التي في طرفها حور، قتللنا ثم لم يحيينا قتلانا، يصر عن ذي اللب حتى لا حراك به، وهن أضعف خلق الله إنسانًا".

وفي هذا الألبوم أيضًا غنت للشاعر الأموي "البحتري" من ألحان "محمد محسن"، فنشدت "ولي قلب فؤاد إذا طال العذاب به، هام إشتياقًا إلى لقيا معذبه، يفديك بالنفس صب لو يكونله، أعز من نفسه شيء فداك به".

تضمن هذا الألبوم شعراء كُثر فجمعت بين الأبيات المتفرقة والتي اجتمعت وتوحدت في إطار واحد حيث التغزل في مفاتن المرأة ومحاسنها فاستطاعت أن تخلق تجربة فريدة من حيث الجرأة على الغناء لعمالقة الشعر العربي القديم، لما يملكونه من براعة شديدة في نظم الشعر، إلا أن "فيروز" جعلت منها لوحات غنائية تستنكر السائد والمعروف والخروج من نمطية التناول، فكانت الألحان شبابية، حيث الموسيقى الراقصة التي تُناسب إيقاع الحقبة الزمنية التي تحُتم التغيير والتجربة، والتي جاءت بتعاون "فيرووز" مع ابنها "زياد الرحباني" الذي حاول التمرد على اللحن الكلاسيكى حتى أنه أعاد توزيع أغانيها القديمة وأسبغها بحيوية العصر الحديث حيث الإيقاعات الحديثة، التي بدورها أثرت التجربة فننتقل من أبيات "قيس ابن الملوح"إلى "أبونواس" إلى "أبو العتاهية" إلى "المتنبي في بساطة واضحة، ونستطيع القول أن "فيروز" خالدة في كل لون تغنيه، فكانت دائمًا قادرة على دحض الفجاجة المتفشية والتغلب على الوقع في فخ التكرار فكانت دائمًا وأبدًا الصوت الذي لا يتكرر غير القابل للإستنساخ.