تستند الجماعات التكفيرية إلى مقولات وكتب السلف الفقهية ومجموع الفتاوى
الشاذة، لاستخدامها في تبرير إرهابهم وحملهم السلاح لقتل المسلمين قبل غيرهم،
ولأنهم أعداء الحضارة التي بنيت على العلوم والفنون والأداب فهم يكفرون العلماء
بنفس الدرجة التي يكفرون بها الأدباء والفنانيين، ولأننا نؤمن بالعلم ونحاول بناء
حضارة عظيمة كما فعل أجدادنا وسلفنا الصالح من العلماء نتناول في هذا المقال واحد
من أهم كتب "ابن سينا" وموقعه في الحضارة
العربية والحضارة الغربية، ومدي تأثيره في الحضارتين.
أما مؤلف الكتاب فهو أبو على الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن
سينا، عالم وطبيب من بخارى، اشتهر بالطب والفلسفة واشتغل بهما، ولد في قرية أفشنة
بالقرب من بخارى 370 هـ –
427 هـ، 980م – 1037م.
ورغم أن حياة ابن سينا مليئة بالأحداث الهامة والنظريات العلمية
والتقلبات السياسية، إلا أننا سوف نركز هنا على واحد من أهم مؤلفاته "القانون في الطب" والذي له أهمية
خاصة لدى الأوروبيين قديما وحديثا، بالرغم من أنه لم ينل هذه الأهمية في الشرق أو
من جانب الباحثين العرب، سوى في الاقتباس منه، بضع فقرات من هنا او هناك، أو حتى
النقل عن الآخرين، أو عمل الشروحات والملاحظات، ولم يفكر أي باحث عربي على امتداد
سنوات طويلة في تناول الكتاب بالتحقيق العلمي إلى أن جاء الدكتور ماهر عبد القادر أستاذ تاريخ العلوم بجامعة الإاسكندرية وقام بتحقيق الكتاب في 2008، وهي مسألة تدعو إلى الدهشة، خاصة وأن كتاب "القانون في الطب" هو أكبر سفر طبي في
القرون الوسطى، زود الأطباء في الشرق والغرب على السواء، بزاد معرفي وعلاجي وجراحي
وتشريحي لم يتوفر لعالم أو طبيب من قبل، ومع هذا اتجه أغلب الذين عرفوا ابن سينا
في الشرق إلى دراسة اسهاماته الفلسفية والمنطقية وأهملوا الجانب العلمي عنده، بل
ولم يعيروه الانتباه والاهتمام الكافيين، على عكس ما فعله الغرب الوسيط والحديث
الذي أولى الجانب العلمي عند ابن سينا، والمتمثل في كتاب "القانون في الطب" أهمية كبيرة، وهذه
مسالة تدعو للتوقف والعجب.
وحينما ننظر في كتاب "القانون في الطب" ونحاول أن نقترب من
المنظومة التي حكمت حركة كتاب القانون في أوروبا، منذ ترجمته الأولى إلى
اللاتينية، لنتعرف من خلال هذه الحركة على قيمة الاهتمام العلمي بتراثنا الفاعل
المنتج للعلوم والحضارة، الذي كان مثالا للغرب، ولم نتمكن نحن من توظيفه والاستفادة
منه ومن جوانبه المضيئة، الأمر الذي أدى إلى تلك الكبوة التي نلاحظها والتي عرضت
لأمتنا العربية، والتي نحاول الآن تجاوزها من خلال توفير الإرادة والوعي لذلك.
فكتاب "القانون في الطب" من الكتابات الطبية المهمة التي أثرت
بصورة كبيرة في أوروبا فترة العصور الوسطى، لأنه قد جمع المعارف الطبية في عصره،
وما امتاز به من التنظيم، وحسن التبويب، ورقي المنهج العلمي الذي اعتمد عليه ابن
سينا، وبصفة خاصة أن هذا المنهج يجمع في متنه بحوث القدماء التي أجراها الأطباء
الذين سبقوا ابن سينا، هذا بجانب الإضافات التي أضافها ابن سينا والتي استجدت على
الطب في عصره، وهو ما جعل المستشرق الألماني طبيب العيون ماكس مايرهوف يذهب إلى أن أهمية هذا الكتاب تتضح من شدة الطلب عليه، الأمر الذي جعل طباعته متتالية، وكذا
ترجماته التي استمرت حتى القرن السادس عشر وما بعده، وقد ترجم الى 14 لغة، وقد لعب هذا
الكتاب دورا بارزا في نهضة العقل الأوروبي في مجال الطب.
ويعد الكتاب من أهم كتابات ابن سينا العلمية على المستويين العربي
والعالمي، حيث جاء صدور" القانون في الطب" في وقت بلغ علم
الطب عند العلماء المسلمين منزلة كبيرة في مضمار العلوم والصناعات الآخرى، خاصة
وأن الأطباء الذين برعوا في صناعة الطب في ربوع الدولة الإسلامية، كانوا من
المسلمين والمسيحيين والسريان والهنود والصابئة على السواء ولم يشعر أحدهم
بالشعوبية، او العنصرية، أو تأثير الديانة على ولاءه للأمة الإسلامية، فقد كان من
الطبيعي أن يبرز في هذا الميدان الأطباء الذين قدموا نظريات وآراء علمية، بنيت على
الخبرة السريرية الواقعية، وهذه النظريات أفادت الشرق واستثمرها الغرب بصورة
فاعلة، وتطورت في أنساقه العلمية التي أبدعها في عصر النهضة وإبان مرحلة التنوير
العلمي التي شهدتها أوروبا مما أحدث أثرا مهما في العلم وترك بصماته على جبين
البشرية.
لقد برع علماء المسلمين بشكل كبير ومؤثر في علم الطب، وقد عظم تأثيرهم في
الأوساط اللاتينية في عصر النهضة، وقد امتد التأثير من مرحلة الترجمة الى مرحلة
الإبداع عبر مرحلة التأسيس، ومن أهم رواد الطب العربي في فترتي الترجمة والتأسيس الطبيب
والمترجم العربي حنين بن إسحق الذي أرسى دعائم مدرسة علمية في الترجمة والطب معا،
وأبو بكر الرازي الذي اعتبر طبيبا سريريا لا يبارى، وهو صاحب أكبر موسوعة طبية،
قبل ابن سينا، ولا يقل عن هذا أثر الزهراوي رائد علم الجراحة والذي طبقت شهرته
الآفاق أو ابن النفيس، الذي امتد تأثيره إلى الغرب بلا حدود، وغيرهم الكثير.
إن إسهامات هؤلاء ونظرياتهم العلمية تحتاج من الباحث أن يفرد صفحات
وصفحات لكشف النقاب عما أضافته بحوثهم من ناتج معرفي ومنهجي للبشرية، قبل أن تصحوا أوروبا من غفوتها.
ويتألف كتاب القانون في الطب من خمسة كتب، كما يقول ابن سينا أنه قسمها
على النحو التالي:
الكتاب الأول: في الأمور الكلية في علم الطب وتشريح الأعضاء
المفردة البسيطة، ويقسم هذا الكتاب إلى فنون وتعاليم وجمل وفصول.
الكتاب الثاني: في الأدلة المفردة، وفيه يشرح القوانين التي يجب أن تعرف من أمر الطب، ويقسم هذا الكتاب إلى جمل ومقالات وأقسام وفصول.
الكتاب الثالث: في الأمراض الواقعة بأعضاء الإنسان عضوا عضوا من
الرأس إلى القدم ظاهرها وباطنها (وتشريح الأعضاء المركبة كافة)، ويقسم هذا الكتاب إلى فنون ومقالات وفصول.
الكتاب الرابع: في الأمراض الجزئية التي إذا وقعت لم تختص بعضو
ويقسم هذا الكتاب إلى فنون ومقالات وفصول.
الكتاب الخامس: في تركيب الأدوية، ويقسم إلى مقالة علمية وجملتان.
ويتضح من الكتاب أن عقلية ابن سينا هي التي جعلته محل تقدير الأوروبيين
على امتداد قرون طويلة، خاصة وأن مكانة ابن سينا في الغرب اقترنت بكتابه "القانون في الطب" بالدرجة الأولى،
قبل أن يتعرف الغرب على فلسفته، على عكس ما حدث في الشرق الذي تعرف على فلسفته
وأهمل كتاب القانون.
فقد كان ابن سينا على وعي بأنه يؤسس لعلم على درجة كبيرة من الأهمية،
وهذا العلم قد تناثرت كتاباته وأقوال الحكماء فيه على مدار القرون التي سبقته، ولم
تكن هناك بنية معرفية تجمع شتات هذا العلم، هذا من جانب أول، وفطن ابن سينا إلى أن
الكتابات الطبية السابقة عليه لم تخضع لمنهج تسلكه في رحلة الانتقال من الأمراض إلى الأعراض، ومن السبب إلى النتيجة، ومن التشخيص إلى العلاج، هذا من جانب ثان.
ولما كان ابن سينا منطقيا، فقد وظف معرفته المنطقية ومهاراته الاستنتاجية
في سؤال معرفي دقيق وبسيط وهو: ما الخطة التي يمكن وفقا لها أن أتناول علم الطب،
بحيث يكون أوله مقدمة لآخره، وآخره لازم عن أوله؟ كان هذا هو السؤال المنهجي الذي
يتعين على عالم مثل ابن سينا أن يضعه نصب عينيه ليضع كتابا في الطب يكون نبراسا
للفكر العلمي.
لذا بدأ ابن سينا بالكليات التي وضع من خلالها نظرية العلم في الطب،
والتي ستصبح بعد ذلك مصدرا معرفيا لازما لكل ما يأتي بعدها، ثم انتقل من هذا الى
الأدوية، وبيان قوتها، واثرها وأي الأمراض تشفيها والمحاذير التي لابد من أخذها في
الاعتبار عند وضعها، وانتقل من هذا إلى تناول الأمراض التي تصيب الجسم عضوا عضوا،
وبين أسبابها وعلاماتها، وكيفية علاجها، ثم أردف بالبحث في الأمراض ذاتها، وانتقل أخيرا إلى بيان كيفية تركيب الأدوية.
أما الوجه المنهجي الذي اكتشفه الغرب في
ابن سبنا فيمكن التدليل عليه من خلال بعض السمات المنهجية التي ميزت كتاب القانون
في الطب وجعلت الغرب يقبل عليه إقبالا، والتي من أهمها:
1- الدقة والتعمق والترتيب
2- التمييز
3- التأصيل
4- العلمية
5- النقد
6- الاستدلال
7- البحث عن الحقيقة
8- الموسوعية
9- التحرر العقلي
ليس هذا فقط بل كان ابن سينا عالما وفيلسوفا وشاعرا، ولقب بالشيخ الرئيس، والمعلم الثالث بعد أرسطو والفارابي، كما عرف بأمير الأطباء، وأرسطو الإسلام، وكان
سابقا لعصره في مجالات فكرية عديدة، ولم يصرفه اشتغاله بالعلم عن المشاركة في
الحياة العامة في عصره، فقد تعايش مع مشكلات مجتمعه، وتفاعل مع ما يموج به من
اتجاهات فكرية، وشارك في صنع نهضته العلمية والحضارية.