الإثنين 24 يونيو 2024

من وجودية «سارتر».. داوود عبدالسيد يرسم شخصياته

فن23-11-2020 | 21:10

نحتفل اليوم الإثنين الموافق 23 من نوفمبر بميلاد المخرج الكبير "داوود عبدالسيد"، والذي يكمل عامه 74، بمسيرة غنية وثرية من الأفلام المصرية التي حازت على إعجاب الجميع على مدى مدار رحلته مع السينما، حيث لم يهتم بالكم برغم غزارة أفكاره.


كان عبد السيد من منحازي "سينما المؤلف"، وكتب أعماله وهى مصبوغة برؤيته الخاصة ومن ثم يعيد تشكيل هويتها في صورتها الأخيرة من خلال إخراجها له، إنه واحدًا من فرسان سينما فترة الثمانينات التي اتسعت فيها رقعة "السينما الواقعية"، والتي صُنع من خلالها رؤى فنية وفكرية تعبر عن ذاتية المخرج أولاً، والواقع ثانيًا مرسومًا ومحكيًا بلغة السينما، فكُتب لتلك الأفكار الخلود في أعمال سينمائية أصبحت الآن من كلاسيكيات السينما المصرية، مازلنا نشاهدها بشغف ونُقبل عليها بنهم شديد،



يتفق "داوود عبدالسيد" مع وجودية "سارتر" التي تعني أنه يمكنك أن تكون حرًا أًصيلاً وحُرًا، مادمت تسعى وتواصل السعر، فالذي يبهجك وينعشك هو بالدرجة نفسها الذى يخيفك ويرعبك، فلا يوجد مسار موصوف يهدي الإنسان إلى خلاصه، بل يجب عليه اختراع مساره دائمًا، وأن يخترع مساره معناه أنه حُر ومسئول، ولا أعذار له في هذا، فكل أمل يكمن بداخله.


إن الحرية عند "جان بول سارتر" في قلب أي تجربة بشرية، فهى التي تميز البشر عن كل أنواع الكائنات الأخرى، حيث لا توجد الأشياء الأخرى سوى في مكانها تنتظر أن يحملها أو يحركها أحد، حتى أن الحيوانات تتبع في المقام الأول غرائزها وتسلك وفق سلوك تختص به أنواعها، فالإنسان بوصفه موجود إنسانيًا، ليس لديه طبيعة محددة سلفًاعلى الإطلاق، فالإنسان يخلق هذه الطبيعة بما يختار فعله، نتيجة التأثر ببيولوجيته أو بجوانب من ثقافته وكذلك خلفيته الشخصية، ومع ذلك لا شئ منها يرقى إلى مخطط كامل، فأنا أخطو بنفسي دائمًا إلى الأمام، فأكون نفسى كلما خطوت.


ونستطيع أن نتلمس أفكار"سارتر" من خلال الشخصيات التي برع "عبد السيد" في رسمها ببراعة شديدة، فنلاحظ أن "عبد السيد"يجعل المشاهد مشاركًا أيضًا في حياة الشخصية فمنذ المشاهد الأولى يتسطيع أن يُلم بجوانب الشخصية من خلال الحوار المكثف الذي يبصرنا بكثير من الخيوط الدرامية داخل العمل السينمائي، ففي فيلم "الكيت كات" إنتاج 1992، والذي يعتبر علامة بارزة في مشواره الفنى، وهو مأخوذ عن رواية "مالك الحزين" لأديب "إبراهيم أصلان"، نجد الشخصية المحورية "الشيخ حسني" التي جسدها "محمود عبد العزيز" الذي يعيش بصحبة أًصدقائه الذى يغنى لهم بصوته الجهوري معتقدًا بجمال صوته، يأنس بهم بعد وحدته التي فرضها عليه قدره بعد أن أًصبح ضريرًا لا يرى، يتحلى بخيال جامح ، مرح مقبل على الحياة، يوهم الجميع بأنه الأكثر إبصارًا وتبصرًا بأحوال أهل الكيت كات أجمعين، فنجده يصحب صديقه الأعمى "على حسانين" في رحلة فى النيل كذبًا، ويمشى به فى الشوارع ، يحذره من عوائق الطريق التي يمكنه أن تجعل يتعثر فى خطاه الضريرة، ويذهب به إلى السينما، بينما هو يبحث عن حريته التى قوضها العمى فيخرج فى الطرقات والشوارع الضيقة التى ضاقت بأحلام ساكنيها، والتي جمعت شخصيات العمل من المعتربين التي تجمعهم غربة المكان ويأس الأحلام التي لم تطأ أقدامها الأرض أبدًا، يهرب من الواقع ويخلق لنفسه عالم مرح يشوبه التفاؤل يخرج ويقود دراجاته فى مشهد مخلد فى تاريخ السينما المصرية تجرى الناس أمامه ومن جانبه يحاولون مفاداة الشخص الأعمى الذى يقود الموتوسكيل دون أن يأبه لأحد ربما أراد أن يتحرر من تلك الخرافة التى تقوض كل مصاب بعلة فى جسده ،يخرج من ذاك الإطار التى تغطيه الأتربة منذ أمد بعيد فلا نجد "الشيخ حسنى" يتوكأ على عصاه وينتظر من الآخرين مساعدته بل هو يلهم الناس ويحررهم من خرافة القيود التى يخلق المجتمع لنفسه ، فقد كانت القدرة على التعايش لديه كأسلوب حياة حملت قيمة عظيمة لا تقدر بثمن.


وعلى العكس من شخصية "الشيخ حسنى" نجد شخصية ابنه يوسف "شريف منير" تمر حياته بكثير من الصعاب، عاطل عن العمل فيبحث هنا وهناك على فرصة جديدة فى الحياة يريد أن يتحرر آمال هؤلاء المنسيون الذين يتكدثون فى حي "الكيت كات" لا يريد أن يكون نسخة لأبيه رغم مرحه وإقباله عن الحياة، إلا أنه يبحث عن وجوده فى منحى آخر، فيوسف جاء صورة مماثلة لواقع مئات الشباب الذين يبحثون عن صورة حرة لأنفسهم بعيدًا عن أنساق المجتمع المتشبسة بخرافة السائد، الذين يريدون أن ينطلقوا من تلك الدائرة المفرغة الجوفاء التي يسيرون في موازاتها إذا أرادوا التسليم وفى كنفها إذا أرادوا البحث عن معنى حياة وأصل حرية الإنسان ووجوده فى صورة من صنع أفكاره وأحلامه.


فى فيلم "سارق الفرح" إنتاج 1994 من بطولة كل من "ماجد المصرى"،"بوسى" ، "محمد هنيدى" وهو مأخوذ عن رواية "سارق الفرح" لأديب المهمشين "خيرى شلبى " ،نجد شخصية "ركبة" التى يقوم بدورها الفنان الراحل "حسن حسنى" يخرج فى رحلة بحث أخرى عن الحياة من خلال رؤيته الضيقة للفقرالذى ينهش جسده وينغص عليه حياته الواهية،يخلق صورة متوازية ما بين طبقة الفقراء المقترون وما بين الأغنياء المنعمون بالترف بدرجاتهم المختلفة ومن خلال وجهة نظره الساذجة للغنى ،فيشترى "ركبة" نظارة معظمة من بائع الخردة ليرى حياة المهمشون الذى ينعموا بحياة أفضل من حياته البائسة.


بينما نجد شخصية "يحيى" في فيلم "أرض الخوف" إنتاج 1999 من بطولة: "أحمد ذكي، فرح، حمدي غيث، عزت أبوعوف"، الذي يعمل ضابطًا يخرج فى رحلة جديدة ليكتشف ذاته وكأنها رحلة خروج آدم من الجنة إلى الأرض، فنرى "يحيى المنقباوي" يخرج من عالمه الذي اعتاده إلى عالم آخر، حيث يصبح تاجرًا للمخدرات بالإتفاق مع جهاز الشرطة الرسمية فينتقل بإشارة منها إلى تلك العالم المخيف، يعيش مع أعتى المجرمين والمهرمين بعد أن يفصل رسميًا من جهاز الشرطة وسجنه بتهمة الرشوة، يستخدم "عبد السيد" صوت "يحيى" كراو لتلك الرحلة يكشف لنا من خلالها معاناته وإحساسه الدائم بالإزدواجية والتمزق ويزيد هذا الإحساس مرارة وفاة اللواء مأمون الذى كلفه بتلك المهمة الشاقة، مما يجعل تلك التقارير التي يكتبها ويرسلها بانتظام هى الشعرة الوحيدة الباقية التي تربطه بماهية وجوده وحريته التي من الممكن أن يفقدها جراء موت اللواء مأمون، نجد أن "يحيى" يتخبط يمينًا وشمالاً بين الشخصيتين الظابط التي بداخله الذي يرتكب جريمة قتل، تلك السلوكيات التي تقوض حريته وتبعده عن حقيقته الأولى، ولكن الأحداث تتعقد لينفض كل مسانديه في تلك المهمة من حوله ويخرج فى رحلة أخرى جديدة للبحث عن وجوده الحقيقي، فنراه يقف وحيدًا مشدوهًا لتلك الرحلة المراوغة فى أرض الخوف.


إن كل شيئ عند"سارتر"يتوق إلى التحرر من الروابط والعوائق والقيود ولزوجة الأِشياء المتشبسة وهذا ما نجده أيضًا عند شخصية "يحيى"، الذى يقوم بدورها "آسر ياسين" فى فيلم رسائل البحر إنتاج 2010 وبطولة كل من "بسمة"، "مى كساب"، "صلاح عبدالله"، يخرج في رحلة للبحث عن ذاته التائهة، والتي تقوضها نظرة المجتمع البالية فهو طبيبًا يعانى من اللعثمة فى نطق الكلام، ويتعرض جراء ذلك إلى السخرية من كل من حوله، فيترك ممارسة الطب ويترك القاهرة ويبدأ فى رحلة جديدة يبحث فيها عن صفاء روحه، يذهب إلى الإسكندرية المدينة التي يلتقى فيها بعدد من الشخصيات التائهون الذين يبعدون عن ذواتهم دون ضغط المجتمع ونظرة المجتمع وماضيهم الذي يتشبث بأعناقهم، نجد "يحيى" يجد بعضًا من طمأنينته في تعرفه على "نورا" صاحبة الرحلة المعقدة التى تعزف البيانو، بينما هو يستمع إليها كل يوم خارج منزلها دون أن يتعرف عليها شخصيتها فيما بعد، يرق سمعه إلى موسيقاها التى تجذبه وربما وجده فيها علته وفي صحبة نور، رفيق آخر يشبه رحلة بحثه وسعيه وراء تحطيم تلك القيود ولزوجة الأِشياء المتشبسة كما يخبرنا بها الفيلسوف الفرنسى "سارتر".