تنشر "الهلال اليوم" نصًا جديدًا من كتاب "أجنحة لمزاج الذّئب الأبيض"، للشاعر الجزائري عبد الرزاق بوكبة، بعنوان "جناح لعسل الشّرود والانتباه"، ونقرأ فيه:
جناح لعسل الشّرود والانتباه
(1)
أغْنى ما فيك شرودك...
به تقرأ/ به تكتب، وبه تدرك جوهر الكتابة، وجوهرة القراءة.
فهل ستسمح لك الخدمة العسكرية، بأن تحتفظ بشرودك يا الولهي؟!
أسمّيك كيف أسمّيك؟
تفكّر في القراءة والكتابة حتى في قلب المعركة!!
ماذا فعلتا لك منذ بدأت تقرأ وتكتب؟ وماذا تفعل بهما وأنت مقبل على الخدمة العسكرية، إذ قد تموت في أية لحظة؟!
( 2 )
ـ ليس لدي اعتراض
قلتَ لمقتني السّاعات المستعملة، وقد عرض عليك مبلغاً لساعتك التي أهدتها لك سميرة، المهمّ أن تشتري الرّواية وتتشرّد فيها.
قلتَ لسميرة: صحوتُ صباحاً فوجدت ساعتك قد تحوّلت إلى رواية!،ورحتَ تحكي لها في كل لقاء فصلاً من الفصول، أحيانا تزيد وأحيانا تحذف، وأحيانا تقرأ فقراتٍ كما هي، حتى تغطّي على الحذف والزيادة، فتظنّ سميرة أن القصّة حقيقية، وأنك شاهد عليها أنت الذي لم يكذبْ منذ عرفتْك. أرأيت؟ كانت تسألك كلما تلقاك: هل من جديد في حياة زوربا؟!
تجيبها: غداً سيدشّن المنْجم، وهو ناوٍ أن يدعو إلى حفلة التدشين سكان القرية، بما فيهم الرهبان الذين أجّروا له الغابة. زوربا طموح يا سميرة.
تسألك: مازالت روايته طويلة؟
تجيبها: راوية زوربا لا تنتهي يا بوبيلينتي *. تقول لك وقد وضعتْ رأسها على كتفك، في دلال طفلة تهدّد أباها بشيء، إن لم يحضر لها شيئاً: أنا يوم تنتهي رواية زوربا أروح.
بتَّ تتساءل عقب كل لقاء: من يشبه الآخر يا الولهي؟ أنت أم شهرزاد؟!
( 3 )
ـ ليس لديّ اعتراض.
قلتَ لمقتني الأثاث القديم، وقد عرض عليك مبلغا ً لمكتبك الذي أهداه لك محرز، المهمّ أن تشتري الديوان وتتشرّد فيه.
قلتَ لمحرز: صحوتُ صباحاً، فوجدت مكتبك قد تحوّل إلى كتاب شعر، ورحت تشرح له في كل لقاء من اللقاءات، بيتاً من الأبيات. أرأيت؟! كان يسألك كلما يلقاك: ماذا قال المتنبي اليوم في سيف الدّولة؟
تجيبه: يا أعدل الناس إلا في معاملتي
فيك الخصام، وأنت الخصم والحكمُ.
يسألك: ذكرتَ لي عزة نفسه، فكيف يخاطبه بهذه الذّلّة؟!
تجيبه: لا تستعنْ بغير طالب مجد مثلك، حتى وإن كان لا يشبهك، مثل سائقين، كلٌّ في اتجاه، كلاهما أفق الآخر...
يمسح القنّينة ويعطيك كأساً: أما زال الدّيوان طويلاً؟
تمسح الكأس في جوفك: ديوان المتنبي لا ينتهي يا صديقي.
يمسح كأساً في جوفه: أنا يوم ينتهي ديوان المتنبي أروح.
بتّ تتساءل عقب كل موعد: أيّكما يشبه الآخر يا الولهي، أنت أم سيف الدولة؟
( 4 )
ـ ليس لدي اعتراض.
قلت لمقتني الألبسة القديمة، وقد عرض عليك مبلغاً لبذلتك التي أهداها لك صديقك جاك من فرنسا، المهم أن تشتري رحلة ابن بطوطة، وتتشرد فيها. قلتَ لجاك في فيسبوك: صحوت صباحاً، فوجدت بذلتك قد تحوّلت إلى رحلة، ورحت تكتب له فصلاً من الفصول، كلّما اقتنصك في المحادثة. يسألك: أين يذهب ابن بطوطة اليوم؟
تجيبه: اليوم يصل إلى دمشق.
يسألك: أما زالت رحلته طويلة؟
تجيبه: رحلة ابن بطوطة لا تنتهي يا صديقي جاك.
ينتقي لك وردة: أنا يوم تنتهي رحلة ابن بطوطة أذهب.
بتّ تتساءل عقب كل محادثة: أيكما يشبه الآخر يا الولهي؟! أنت أم سلطان المغرب؟
( 5 )
أخبريني يا عصفورتي
ماذا فعلت لي القراءة والكتابة؟
بعتُ ساعتي
بعت مكتبي
بعت بذلتي.
تجذبك من كتفك/ تجعل رأسها في موازاة رأسك/ تغسلك بنظرةِ من يعاتب شخصاً شكّك في جدوى الأم/ توقّعتَ أن تسايرك في التشكيك في جدوى القراءة والكتابة، فأطلقتْ عليك ما يشبه رصاص الرحمة:
الإصبع الأولى: جعلتاك تشبه شهرزاد.
الإصبع الثانية: جعلتاك تشبه سيف الدولة.
الإصبع الثالثة: جعلتاك تشبه سلطان المغرب.
فتغرق في شرودك.
(6)
عصفورتي المبدعة
كنتُ أودّ أن أمرّ عليك قبل أن ألتحق بالخدمة العسكرية، لكن حزمة الكتب التي حملتُها معي كانت ثقيلة جداً.
أمسِ أنهيت فترة التدريب الإجبارية، والليلة ها أجرّب أن أتشرّد في هذا الجبل اللذيذ. أتدرين؟ لقد منحني معنىً آخرَ للقراءة والكتابة، إذ أحرس وأقرأ أو أكتب
أقرأ أو أكتب وأحرس
إنني منتبه في الحالتين
تريدين الحقيقة؟
أغْنى ما فيّ انتباهي.