للحديث عن اهتمامات العرب بالعلوم الطبيعية لابد لنا بداية من التعرف على
وجهة النظر العربية في قبول الآخر سواء كان آخر ديني أو قومي، حيث أن قبول الآخر
هو الذي يحدد مدى التعايش معه من ناحية ومن ناحية أخرى الوصول إلى حالة من حالات
التثاقف.
وفي هذا الخصوص، نجد كلمة الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وهو يقول
«الحكمة ضالة المؤمن، فخذ ضالتك ولو من أهل الشرك..» وفي هذا السياق ايضا نجد
المسعودي في مروج الذهب ج7 ص164 يقول «الواجب ألا يوضع إحسان محسن، عدوا كان أو
صديقا، وأن تؤخذ الفائدة من الرفيع والوضيع» واستكمالا لهذا السياق يقول الكندي
أول الفلاسفة في الاسلام في رسائله «وينبغي لنا أن لا نستحي من استحسان الحق،
واقتناء الحق من أين أتى، وإن أتى من الأجناس القاصية عنا والأمم المباينة لنا،
فإنه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق.. بل كل يشرفه الحق».
تلك الأسس وغيرها هي التي جعلت دولة الاسلام في عصور ازدهارها تستقبل
العلوم والفنون من غيرها من الأمم وجعلت المسلم يأخذ العلم والفن والأدب من أصحاب
الديانات الأخرى.
دون اتهام بالشرك أو الخيانة أو
استعلاء، فقد أخذ العرب فلسفتهم الطبيعية من مؤلفات اقليدس وبطليموس وابقراط
وجالينوس ومن بعض كتب أرسطو وكذلك من كتب كثيرة ترجع إلى الفيثاغورية والأفلاطونية
الجديدة، وفيثاغورث هو أستاذ العرب في الرياضيات، وكان يقال إن الإنسان لا يكون
فيلسوفا، ولا طبيبا حاذقاً إلا بدراسة علوم الرياضيات، كالحساب والهندسة والفلك
والموسيقى، وكانوا يضعون الحساب في مرتبة أعلى من الهندسة، لأن الحساب أقل تعلقاً
بالحس، وأحرى أن يدنوا بالعقل من جوهر الأشياء، حتى كان تفضيلهم له مما سهل للخيال
التلاعب الغريب بالأعداد، وكما يقول ديبور في كتابه تاريخ الفلسفة في الإسلام «..
وبديهي أن يكون الله عندهم هو الواحد الأكبر الذي عنه يصدر كل شيء وهو ليس عددا،
بل هو خالق العدد، على أنه كان للأربعة، وهو العدد الدال على العناصر الأربعة
وغيرها، مكان خاص عند الفلاسفة الطبيعيين، وسرعان ما صاروا لا يتكلمون عن شيء من
العلويات أو السفليات، أو يكتبون عنه إلا بكلام ذي أربع جمل، أو برسائل ذات أربعة
اقسام».
وكان الانتقال من الرياضيات إلى الفلك والتنجيم سريعاً هيناً.. وقد أصلح
منجمو بني أمية ما انتهى إليهم من طرق التنجيم الشرقية القديمة، ثم صارت أكثر
اتقاناً على أيدي منجمي العباسيين.
وأدى التنجيم إلى آراء تعارض
العقيدة الدينية، فلم ينل تأييد حماة الدين، ذلك أنه لم يكن عند المؤمن من أنواع
التقابل إلا ما يكون بين: الله والعالم، أو بين هذه الحياة والحياة الآخرة، أما
عند المنجم فهناك عالمان: عالم علوي، وعالم سفلي، أما الله وأما الحياة الآخرة
فكانا بعيدين عن ميدان بحثه.
ولقد جمع علماء المسلمين كثيرا من المادة في ميدان العلم الطبيعي، ولكنهم
لم يتوصلوا إلى تناول ما جمعوه تناولاً علمياً صحيحاً إلى فيما ندر، وجروا في فروع
العلم الطبيعي على الاساليب الموروثة.
وقد أرادوا أن يتعمقوا في فهم حكمة الخالق وأفعال الطبيعة، التي كانت تعتبر
عندهم قوة أو فيضاً من النفس الكلية للعالم، فشرع علماء الكيمياء في إجراء
تجاربهم، وامتحن السحرة ما لطلسماتهم السحرية من خصائص، وبحث الباحثون في تأثير
الموسيقى في نفس الإنسان والحيوان، ونظروا في ملامح الإنسان الظاهرة التي تدل على
حالته النفسية، بل حاولوا تعليل عجائب حياة النوم والأحلام وعجائب العرافة
والنبوءة وغير ذلك.
وكان محور البحث هو الإنسان، وهو العالم الأصغر الذي اعتبروا أنه تنطوي فيه
قوى العالم وعناصره كلها، وقد اعتبروا أن حقيقة الانسان وماهيته هي النفس، وجعلوا
علاقتها بالنفس الكلية للعالم وما يخبئه له المستقبل، موضوعين للبحث، ونظروا كثيرا
في قوى النفس أيضاً، وفي تعيين مراكزها في القلب أو في الدماغ، فالتزم البعض مذهب
جالينوس، وتجاوزه أخرون، فقالوا بخمس حواس باطنة تقابل الخمس الظاهرة، وهي نظرية
كانت ترد مع ما شاكلها من أسرار الطبيعة، إلى بليناس الطواني.
ولم تكد العلوم الرياضية، وهي المسماة علوم التمهيد (العلوم التعليمية)
تستقل بنفسها، حتى تزايد خطرها على الدين، إذا سهل أن تنضم إلى علم الفلك نظرية
قدم العالم وما يتصل بذلك من القول بوجود مادة قديمة متحركة منذ الأزل، وإذا كانت
حركة الأفلاك قديمة، فالتغيرات التي تحدث على الأرض قديمة أيضاً، ولما قال البعض إن
جميع عوالم الطبيعة قديمة، فقد ذهب البعض إلى أن النوع الإنساني قديم، وهو يجري في
دائرة خاصة به، وإذا فلا جديد في العالم، وآراء الناس وأفكارهم لا تزال تتردد،
شأنها شأن كل ما في الوجود، وكل ما قد يفعله الناس أو يقولونه أو يعرفونه، فقد كان
من قبل، وسيكون من بعد.
وفي هذا السياق من الاهتمام بفلسفة الطبيعة ظهر علم الطب بأنه أكثر نفعاً
وقد اعتنى به الخلفاء لأسباب كثيرة، وكانت عنايتهم به من أكبر الأسباب التي جعلتهم
يعهدون إلى كثير من المترجمين بنقل كتب اليونان إلى العربية، وقد ظهر تأثير
الرياضيات والنظريات الطبيعية والمنطقية جلياً في الطب، فبينما كان الطبيب يكتفي
بما انتهى عليه من التعاويذ السحرية ومن وسائل أخرى أكدتها التجارب، إذا بالمجتمع
الجديد الذي نشر في القرن الثالث الهجري يوجب على الطبيب معرفة الفلسفة، فصار يجب
عليه الإلمام بطبائع الأغذية والأطعمة والأدوية.
وأمزجة الجسم، وكان يلزمه فوق ذلك أن يلم بفعل الكواكب في كل ما يعرض له من
حالات، وكان الطبيب أخاً للمنجم، وكان علم المنجم يرغمه على الاحترام له، لأن
موضوع التنجيم أشرف من موضوع الطب، وكان على الطبيب أن يتخرج على أيدي علماء
الكيمياء، وأن يمارس فنه طبقاً لمناهج رياضية منطقية.
ولم يكن أنصار الثقافة من القرن الثالث الهجري يقنعون بأن يسير الإنسان في
لغته وعقيدته وأفعاله طبقاً للقياس المبني على المنطق الصحيح، بل كان يجب عليه أيضاً،
في رأيهم، أن يتداوى بمقتضى القياس.
وكانت أصول الطب تبحث في مجالس العلم بقصر الواثق منتصف القرن الثالث
الهجري إلى جانب مسائل الكلام والفقه وكان أكبر ما يمثل هذه الفلسفة الطبيعية
الطبيب المشهور أبو بكر الرازي المتوفى عام 923م والذي كانت كتبه الطبية أكبر كتب
الطب في العصور الوسطى وقد ترجمت إلى اللاتينية، وظل الرازي في أوروبا حجة في الطب
لا ينازع حتى القرن السابع عشر، وقد تثقف الرازي ثقافة رياضية، ثم أقبل على تعلم
الطب والفلسفة الطبيعية بشغف عظيم ولكنه كان ينفر من علم الكلام، ودرس المنطق حتى
انتهى إلى معرفة اشكال القياس الحملية، من كتاب القياس، وبعد أن تولى تدبير
بيمارستان الري وبغداد شرع في السفر، ونزل في قصور ملوك كثيرين، منهم منصور بن
اسحق الساماني ومع أن الرازي كان يعظم شأن أرسطو وجالينوس، فإنه لم يكلف نفسه مشقة
خاصة للتعمق في مؤلفاتهما، وقد اجتهد في دراسة الكيمياء، وكان يعتبر انها صناعة
صحيحة تستند إلى وجود مادة أولية.. وأنها صناعة لا غنى عنها للفيلسوف، وقد خالف
الرازي أصحاب أرسطو بقوله ان الجسم يحوي في ذاته مبدأ الحركة.
وسوف نتعرف في المقال القادم عن أبو بكر الرازي ومذهبه فيما بعد الطبيعة
ومبادئه الخمسة التي تقوم عليها نظريته المعرفية.