بمناسبة اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة، بدأت فعالياته في 25 من نوفمبر الجاري وتستمر لمدة 16 يوم تحت شعار "حولوا العالم إلى البرتقالي"، تنشر "الهلال اليوم"، عددًا من المقالات الصحفية لمبدعات يُقدمن شهادتهن حول ما تتعرض له المرأة من أشكال عنف في المجتمعات العربية.
المرأة في محيط الأسرة والإعلام.. في المجتمعات العربية في أحد البرامج الحوارية في التليفزيون المصري والذى يتضمن بجانب الضيوف عددا من الجمهور لتحري واقعية المناقشات والأسئلة، سألت المذيعة أحد الآباء الحضور: لو أن هناك فرصة عمل "وظيفة" جاءت للأسرة، ولديك ابنان، ولد وبنت خريجا جامعة لمن ستعطى الوظيفة؟.
أجاب الأب دون تريث: للولد بالطبع، فهو الأحق بفرصة العمل. صمتت الإعلامية ولم تناقش الأمر، فلقد بدت الإجابة لدى الجميع بديهية، لتستمر حلقات التكريس لثقافة ذكورية، وهنا لا تكمن الخطورة في كونها حالة فردية، الخطورة الحقيقية تتمثل في المفاهيم المغلوطة والشائعة عند الجماهير والشعوب التي بدت مثل المسلمات على المستوى الجمعي.
بلا شك الأب يحب ابنته، وربما يخاف عليها أكثر من خوفه على ابنه، لكن موروثه وثقافته لا تُمكّنه من فهم أن كفاية الابنة اقتصاديا، واعتمادها على نفسها يضمن لها الاستقرار والسعادة، إن تزوجت أو لم تتزوج، وفى حالة زواجها، أو لا قدر الله طلاقها، لا عوز مادي يجبرها أن ترضخ أو تصمت تجاه أوضاع تهينها، الأب يتصور أن الشاب هو الرجل المسؤول عن إقامة الحياة، وفتح بيت جديد، ومسؤول عن أخته أيضاً في حالة وفاة الوالد أو عجزه.
مفاهيم اجتماعية وأسرية لا بأس بها، لكنها لا تخضع للواجب الحتمي، أو الفرض القانوني، ولو أن هناك مادة في القانون فهي لا تمكن، ومن ثم تظل في نطاق العواطف والعرف الاجتماعي، أي أنه في حالة الاختلاف، أو في حالة عدم وجود الفائض المادي لدى الشاب، تُترك البنت في حالة عوز وحاجة إلى الآخرين، كما تظل مقدراتها جميعها تحت الوصاية، فالحرية تعتمد على الاستقلال المادي.
في نطاق الأسرة أيضا وخاصة بعد جائحة كورونا وما سببته من أوضاع اقتصادية متردية عانت المرأة من التمييز بالضد حتى في حصتها من الطعام، حيث يحصل الرجل والأولاد الذكور على القدر الأكبر، وإن اعترضت يمارس ضدها عنف مادي بالضرب والإهانة، هذه الظاهرة قديمة في المجتمعات العربية والمصرية لكن ازدادت وطأتها بعد التدني الاقتصادي الذي أصاب الأسر بعد كورونا.
من شأن الإعلام الجاد، المنوط به أن يناقش هذه الأفكار مرارا دون ملل، تعرية المفاهيم القاصرة التي اكتسبت قداسة اجتماعية، ويفند للجمهور أبعادها، ويبين آثار وضع المرأة في حالة احتياج إلى الآخرين اقتصادياً، وأن ذلك يسلبها حريتها وكرامتها ويجعلها تابعة باستمرار.
وإذا رجعنا بالأمر إلى أبعد من هذا، هناك كثير من الأسر وخاصة ذات الدخول المتوسطة توفر للولد فرص التعليم الأفضل، وتبذل من أجله الغالي والثمين، في حين تعطي للبنت الفرص الأقل شأنا، بحجة أن نهاية البنت دائما الزواج والبيت، وهذه الدعاوى التي لا تسمن ولا تغني من جوع، تهدد حق البنت في تعليم جيد، كما تهدر طاقتها وإمكاناتها التي ربما لو توفرت لها نفس فرص التعليم، لكان الناتج منها أفضل من الذكور.
هنا أيضا يجب أن أشير إلي أن نسبة أمية النساء في الوطن العربي نحو50% من الكتلة الديمغرافية النسوية، وضمن نسبة تسرب من التعليم تبلغ 30% لسكان الوطن العربي إجمالا. من الحتمي أن يراعي الإعلام والإعلاميون هذه الإحصائيات جيدا، ليدركوا حجم وثقل الدور الذي يقع على عاتقهم تجاه هذا المتلقي البسيط، الذي لم يتوفر له حتى الحد الأدنى من التعليم.
في أحد البرامج الإعلامية التي كانت تناقش تمكيِّن المرأة من الوظائف القيادية والمشاركة البرلمانية والسياسية اللائقة بمكانتها، كان أغلب المناقشين من الرجال، وانطلقت أصواتهم في توءدة، يدعون أن المرأة ليست قادرة على التواجد المستمر في الشارع بين المواطنين، لعدم تمرسها على معالجة الشأن العام، ولطبيعتها البيولوجية، ولخوفهم عليها من تجاوزات الآخرين، وغيرها من ادعاءات مثل: طبيعتها المرهفة العاطفية، وانفعالاتها المتسرعة.
وهنا يجب أن أنوه إلى السيطرة الذكورية على الساحة الإعلامية "إعلاميين، وضيوف متحدثين"، هذه السيطرة التي ترسم للمرأة قضاياها، وطرق طرحها، وحلول معالجتها، يتم ذلك أحيانا دون وجودها، ولو وجدت يكون تمثيلها ضعيفا كما وكيفا من غير جنسها، وفي محيط الرجل واستحواذه تناقش قضاياها.
ولقد اعتادت ثقافة المجتمع الذكوري أن تترك للنساء فتات الموائد من العمل السياسي والبرلماني والحزبي، تترك لهن المهمش من الأدوار، ينال الرجل في السياسة الدور الأكبر والبارز من المهمات، الدور الدعائي والاستعراضي التوجهات، ليحظى بالشو الإعلامي، وتنطلق حناجرهم بدعوى الرفق بالقوارير، فهم يشفقون على النساء من الإرهاق، أو دعواهم أن النساء لسن مؤهلات لكثير من الأدوار، لانعدام الخبرة أو عدم تراكمها، أو أن المجتمع ذاته غير معد لاستساغة النساء في المواقع القيادية -ولنا عبرة فيما حدث بشأن تعيين القاضيات النساء في مجلس الدولة في مصرــ
وغيرها من الوظائف في بعض التخصصات الأخرى التي عرضتها سابقا، وكل هذه دعاوى من لا يريد أن يفقد مكتسباته التي يهبها له المجتمع بثقافته طواعية، فبعد أن يعتاد العقل الجمعي على الكائن المستقر، يقاوم أية زحزحة تطاله بعنف، خاصة إذا وجد في الموروث الثقافي المنتسب للدين مقولات من قبيل: "لعن الله قوما ولّوا أمرهم لامرأة"، وإن كان لهذا الحديث شرط زماني ومكاني وسياق يرتبط بواقعة بعينها، وقومٍ محددين بذواتهم، ولا يمكن سحبه على سائر الأقوام والوقائع، إلا أن الوعي الجمعي الذكوري ينتقل بهذه المقولة من نسبية الواقعة وخصوصيتها ليعمم دلالتها ونتائجها من أجل مصلحته واستحواذه، وهو ما يخالف قواعد أصول الفقه ذاتها.
فالعقلية الذكورية بحبها للسيطرة والتصدّر، وربما الأنانية تصر على إغفال إعادة تقييم كثير من معطيات تكوين المرأة الحديثة من الناحية العلمية والمهنية، وإمكانات عقلها في عصر المعلومات والتكنولوجيا، وخبراتها التي تراكمت وتنوعت وصقلت، حتى باتت لا تقل عن مكونات شخصية الرجل ومقومات إعداده، بل زادت عليه في بعض الحالات الفردية والمجالات الوظيفية، ولنا في العالم الغربي الكثير من الأمثلة فائقة النجاح، احتلت القيادة السياسية فيه المرأة التي أثبتت جدارة تتفوق فيها على الرجال.
فمن الملاحظ أنه يصعب توفر العقلانية في تقييم القضية لدى المجتمع الشرقي العربي، رجالا ونساء أيضا، ولذا يظل حجب النساء في مجتمعاتنا الشرقية عن كثير من الوظائف القيادية، واستبعادهن من العمل في المجال السياسي والبرلماني يعد تقليدا متبعا، قد يتنافى مع مواد القانون وحقوق المرأة التي لا تُفعَّل على أرض الواقع. علينا ألا نغفل أن وجود المرأة في تلك المواقع قد حدث بالفعل، لكنني أناقش هنا نسب التمكين والوجود، واتساقها مع نسب النساء بمصر وقدراتهن العلمية وهل تتسق مع تمثيلهن في العديد من المجالات والمواقع.
على مؤسسات الإعلام المدركة لدورها التنويري في التوعية المجتمعية، التأكيد على أن استمرار الممارسة في الوظائف وخوض التجارب هي المحك الحقيقي للنساء وللمجتمع، المرأة لم تعد حلية تزين بها بعض المواقع في المؤسسات، بدعوى التحديث، والخروج بمظهر إتاحة عدالة الفرص لكلا الجنسين أمام الرأي العام العالمي، ومنظمات حقوق الإنسان، التغيير يجب أن يأتي عن معتقد حقيقي، وقناعة من الجموع تتكون تدريجيا.
واحسب أن تلك المراحل في تغيير ثقافة المجتمع قد تقطع وتطوى سريعا لو وجدت واقتنعت القيادة السياسية بضرورة تلك التغيرات، ففي بلادنا التغيير الحقيقي لابد وأن يستنزل من السلطة السياسية، لأننا نفتقد الجموع المثقفة التي تقف في ظهر الفكر التنويري.