السبت 23 نوفمبر 2024

فن

"دولت" قصة قصيرة تنشرها "الهلال اليوم" ضمن مجموعة "من مقام راحة الأرواح"

  • 2-12-2020 | 19:10

طباعة

تنشر "الهلال اليوم" القصة القصيرة "دولت" من المجموعة القصصية "من مقام راحة الأرواح" الصادرة عن دار "روافد" للنشر والتوزيع للكاتبة مريم عبد العزيز


دولت 

"تشرق الشمس على شارع الشيخ ريحان أمام ضريح سيدي عبد الله حفيد الحسن والحسين رضي الله عنهما, فينجلي سطح الشارع خطًا فاصلًا بين عالمين، فما على يمين الشارع من تفرُّعات وشوارع أصغر تسكنها طبقة وسطى متهالكة رغم تماسك نوعيٍّ في بنيتها, وما على يسار الشارع من حوارٍ وأزقَّة مجاورة للضريح هو عنوان لطبقةٍ أكثر فقرًا.

يعيش السيد أحمد إبراهيم في أحد الشواع المجاورة للضريح، وبالرغم من كونه موظفًا حكوميًّا, فإنه يسكن الجانب الأفقر من الشارع, لا لشيء سوى أنه قد ورث شقته هذه بنظام الإيجارات القديمة عن والده.. مرت ذكراه بذهني وأنا أحضر حفلًا لإحدى فرق الصوفية، حين رأيت المنشد يرتدي جلبابًا أبيض وعمامة خضراء ويطوِّح رأسه في تجلٍّ.

أحمد إبراهيم رجل في الخمسين من عمره، قصير القامة، نحيف القوام، ذو شعرٍ فضيٍّ تتخلله بعض الخصلات الرمادية، مصفَّف على غرار أنور وجدي في أربعينيات القرن الماضي.. يظهر في الشارع بهيئتين؛ فهو في هيئته الأولى في رحلته النهارية للذهاب إلى العمل يرتدي بدلة إفرنجية من جاكت كاروهات وصديري صوفي، ويضع فوق رأسه «بيريه»، فيبدو مظهره الخارجي كفنان تشكيلي وليس موظفًا في مبنى الإذاعة والتليفزيون. يصطحب معه في طريقه ابنته «دولت» الطالبة في المدرسة الفرنسية بباب اللوق، وكان إصراره على إلحاق ابنته بمدرسة فرنسية حدثًا غريبًا على سكان الشيخ عبد الله, وهو ما ظنَّه البعض نوعًا من التطلُّع أو الطموح الطبقي, ولكن الأمر كان مختلفا بالنسبة له, كان حنينًا لأيام صباه، حين كان طالبًا بالمدرسة الأبراهيمية، وجمعته قصة حب مبتورة النهاية بفتاة من عائلة أرستقراطية ذات أصول تركية، وعندما علمت أسرة الفتاة بهذه العلاقة زوَّجوها من قريب لهم وادَّعوا سفرها لتركيا، وبقي هو طوال سنوات دراسته في جامعة القاهرة يمرُّ يوميًّا عند منزلها علَّه يصادفها, ذهبت الفتاة وبقي له منها الاسم.. دولت.. وجرس صوتها في لكنة فرنسية ناعمة.

لما شعرت أمه بقرب أجلها اختارت له قريبة لها ليتزوجها, فتاة خمرية البشرة سوداء العينين والشعر، أنجبت له في البداية ابنته دولت, التي لم ترث من أمها سوى عينين سوداوين وشعر أسود أملس، وكانت لها بشرة بيضاء كالأتراك, وإحياءً لذكرى محبوبته الأولى أسماها دولت، ولم يعد يشغله في الدنيا سواها, حتى بعد أن أنجبت له زوجته بعد ثماني سنوات ابنه الوحيد, فترك لها مهمة تسميته والاهتمام بكل أموره، وكأنه لم ينجب سوى دولت.

ودولت اسم ينم عن الأصول التركية التي ارتبطت في أذهان العامة بجمال يختلف عن الجمال البلدي.

كنّا أنا وإخوتي على مشارف المرحلة الإعدادية، وكانت أمي تبحث عن من يعلمنا مبادئ اللغة الفرنسية, فتوسَّط بعض المعارف لدى والدها لتكون دولت هي معلمتنا. وبعد رفض ومماطلة وافق الرجل شريطة أن ترافقها أمها في كل درس, كما رفض أن تتقاضى الفتاة أي أجرٍ نظير ذلك. ولست أدري إن كان هذا بدافع الشهامة أم أنه فقط كي لا يكون لزامًا عليها الحضور بما قد يخالف مصلحتها الدراسية, حيث إنها في النهاية ما زالت طالبة عليها التزامات. أصبحت دولت تأتي بصحبة أمها مساء الثلاثاء تعلمنا مبادئ لغة جديدة، وتجلس أمها في جلسة ثرثرة نسويّة لتشتكي من زوجها وإهماله لها, تغار من صداقته لجارة لهم تسكن في الطابق الأعلى, امرأة نوبية أرملة أو مطلقة تعيش مع أمها العجوز, توسَّط لها حتى حصلت على وظيفة في مبنى التلفزيون فيراها طوال النهار في العمل, وفي المساء تجلس هي في شرفة منزلها لتستمع لوصلة الست في المذياع مع أطباق من التسالي «لب وسوداني»، فيخرج هو الآخر إلى شرفته ليتبادلا الحديث مع غناء الست, لا يخلو المشهد من هبوط السبت وصعوده عدة مرات حاملًا صنفًا من صنوف التسالي.. تبكي الزوجة في كل مرة مع الشكوى, أصبح يتابع خطوتها وهي تسير في شقتها فوق رؤوسنا, علَّمته المرأة الدروشة وأصبح مجذوبًا, تراه مساء الأربعاء من كل أسبوع بعد صلاة العشاء حين ينفضُّ جمع المصلين عن المسجد يرتدي جلبابًا أبيض ويلف رأسه بعمامة خضراء من الحرير، ويذهب في نفرٍ قليل إلى المسجد ليقيموا الحضرة. هو ذلك الذي تراه نهارًا كجوكر الكوتشينة، نفسه الذي تراه ليلًا كشيخ الطريقة.

تبدأ الحضرة بالذكر البطيء، ثم تتطوَّح الرؤوس والأجساد يمينًا ويسارًا في إيقاعٍ مضطرد، فيذهب في عالم آخر تطارده فيه الخيالات، فيزيحها واحدًا تلو الآخر، بداية من جارته النوبية ثم زوجته وابنه ثم حبيبته التركية، ولا تبقى له في النهاية سوى دولت, فيفرغ من الحضرة ويشتري البسبوسة لها وحدها ويعود".

 

 

 

 

 

 

 

    الاكثر قراءة