الخميس 16 مايو 2024

"إيزيس على المقهى".. قصة قصيرة تنشرها "الهلال اليوم" ضمن مجموعة "من مقام راحة الأرواح"

فن3-12-2020 | 11:13

تنشر "الهلال اليوم" القصة القصيرة "إيزيس على المقهى" من المجموعة القصصية "من مقام راحة الأرواح" الصادرة عن دار "روافد" للنشر والتوزيع للكاتبة مربم عبد العزيز


إيزيس على المقهى


«وتذكَّر إذا لان قلبك للنسوة اللابسات السواد ولأطفالهن الذين تفارقهم الابتسامة» 

أمل دنقل


نهار عيد ليس به ما يمتُّ لبهجة الأعياد من صلة.. اللهم إلا بعض الصغار يترجَّلون في ملابس جديدة ويتقافزون من رصيف لآخر.

خرجت من البيت لأكسر حاجز الملل، فبعض العطلات تكون أكثر مللًا من روتين العمل اليومي, أو ربما كما تقول صديقتي «إننا قد تعودنا على الشقاء فلم تعد أجسامنا وعقولنا تألف الراحة». قالت هذا لتفسر السر الذي يجعلنا نمرض كلما قررنا قطع روتين العمل بيوم أو يومين للراحة, المهم أنني قررت أن أخرج بالنهار لأرى ضوء الشمس الذي نحرم من رؤيته طوال الأسبوع، جلست في أحد مقاهي القهوة الأمريكية، ذي واجهات زجاجية كبيرة؛ لأتابع من خلال الزجاج حركة الشارع والطيور وأشعة الشمس، واخترت طاولةً صغيرةً بجانب الزجاج, طلبت فنجانًا من القهوة وقطعة من الحلوى، كان المكان يخلو من الزبائن سوى الطاولة التي أشغلها أنا وطاولة أخرى، فلم يتأخَّر النادل في إعداد قهوتي، وضعها أمامي ومضى، فلم يعد بالمكان سواي وسكان الطاولة الأخرى، رجل وامرأتان، بدايةً تجنَّبت النظر تجاههم، وأدرت الكرسيَّ بحيث يكون ظهري مواجهًا لهم، كان صوت الموسيقى الخلفية للمقهى خافتًا وحزينًا، وكأنه آتٍ من مكانٍ بعيدٍ هو الآخر، لا يتناسب مع العيد، يذكِّرني بوحدتي وأحزاني، لذلك حين بدأوا بالحديث وصلني صوتهم ليكسر اجترار الأحزان في عقلي، فكنت كأنني أجلس معهم على نفس الطاولة، امرأة ثكلى تحكي قصة استشهاد زوجها في الأحداث القريبة التي وقعت بالقرب من الميدان، أثار الموضوع فضولي فعدّلت من وضع الكرسي بحيث أصبحت أواجههم تمامًا، وكأني أجلس معهم ولكن على مسافة بضع خطوات.

 

رجل وامرأتان يتشاركون في لون الثياب الأسود, المرأة التي تحكي وجهها مألوفًا أو ربما أضفى تعاطفي مع قضيتها نوعًا من الألفة على وجهها، أو ربما شاهدتها تحكي قصة زوجها في أحد البرامج الحوارية مساء أحد الأيام, أما الرجل فمظهره يثير الارتياب، يرتدي جلبابًا أسود ويتدلَّى شعره خلفه في جديلة متوسطة الطول, أربعيني ذو لكنة غير محلّية، المرأة الثانية كان صمتها يغلب على حديثها؛ إذ بين الحين والآخر تنطق بكلمات مواساة لصاحبتها ثم تعود لصمتها.


بدا تفسيري للمشهد أن الرجل الغريب ينتمي لمؤسسة إعلامية عربية, المرأة الثكلى تبحث عمَّن يساندها في قضيتها، تحكي وتسترسل وتؤكد كلامها بفقرات مصورة على هاتفها المحمول، تبحث عن قتلة زوجها وتتشكَّك في كل الملابسات، تظهر في البرامج وتتحدث للصحافة وجميع وسائل الإعلام، تجلَّت أمامي إلهة مصرية قديمة «إيزيس» تجمع أشلاء زوجها «أوزوريس»؛ لأنها ببساطة لا تستطيع إيجاد مبرر فقدان الأب لأبنائها الصغار، الرجل يقابل حرارة انفعالها ببرود تام، وكأنه يشاهد فيلمًا دون أن يعلق عليه، بل ويغيِّر المواضيع بصورة لافتة للنظر وكأنه يتعمَّد تجاهل قضيتها، امرأة وحيدة تواجه تواطؤ العالم, كم من الآلام تتحملها نساء هذا العالم للحفاظ على أرواح الرجال التي يهدرونها على أرصفة المدن القاسية، أمام رجال آخرين تحاول نساؤهم أيضا الحفاظ على أرواحهم، والموت يرفرف فوق سماء المدينة يتشفَّى في أولئك وهؤلاء، وفي دموع النساء من جميع الأطراف، الأمر ليس بالهين، لم أجد كلامًا يواسيها حين التقت عيناي بعينيها، وقد بدأت خيبة الأمل تتسرَّب إلى ملامحها، أومأت لها برأسي في أسى فردَّت هي الأخرى بإيماءة مماثلة، وفجأة انتفضت قائمة وأخرجت من حقيبتها بعض الأوراق النقدية ووضعتها على المائدة كحساب لما طلبته من مشروبات هي وصاحبتها، واستدارت لتخرج من المقهى، وكانت آخر جملة التقطتها أذني من حديثها قبل أن تغادر «هي أشياء لا تشترى».