على نحو لم تتخيَّله، حتى أكثر روايات الخيال العلمى تشاؤماً، اجتاح العالم كله، ولأوَّل مرة فى التاريخ، فيروس شديد العدوى، شديد الخطورة، واسع الانتشار، صحيح أن العالم قد شهد (تاريخياً) هجمات أوبئة شرسة من قبل، مثل الطاعون الأسود، بين عامى 1348 – 1349م، والذى حصد عشرين مليوناً، والكوليرا فى عام 1820م، والإنفلونزا الإسبانية عام 1918م، وكانت الأعداد فى كل تلك كبيرة؛ لأنه فى تلك الأزمنة، وهذا أمر طبيعى؛ إما لأن الفيروسات لم تكن معروفة بعد، أو لأنها كانت حديثة الكشف، حتى إن ويندى باركلى، من جامعة إمبريال كولاج فى لندن تقول: حتى بعد كشف الفيروسات، لم يدرك معظم الأطباء حينها، أنها المسئولة عن كل تلك الأمراض، ولقد احتاجوا إلى وقت طويل، قبل كشف عقاقير مضادة للفيروسات، وتساعد على كبح تفشى المرض، وتسريع التعافى منه.. وفى عام 1976م، انتشر فى الكونغو فيروس الإيدز، الذى انتشر منها إلى مختلف أنحاء العالم، بسبب سهولة المواصلات، وسرعة انتقال البشر، من مكان إلى آخر، ونقص وسائل الكشف والتشخيص.. وحتى مع ظهور فيروس الإيدز، بدأ أصحاب نظرية المؤامرة فى تداول فكرة أن ذلك الفيروس، الذى يوجد فى أحد أنواع القرود، على نحو طبيعى، دون أن يسبب لها أية أعراض، هو فيروس معملى مخلَّق.. وهو جزء من الحرب البيولوجية..
الأمر نفسه تكرَّر مع كوفيد 19، أو فيروس كورونا، الذى انتشر فى العالم كله.. وكالمعتاد خرج علينا كهنة نظرية المؤامرة فى إصرار، مؤكدين (دون أية معلومات كالمعتاد)، أن هذا الفيروس أيضاً مخلَّق معملياً، كجزء من حرب بيولوجية شرسة، تستهدف ضرب الاقتصاد العالمى، أو الأكثر تطرفاً، لتقليل عدد سكان الأرض، وانتشرت على صفحات التواصل الاجتماعى وشبكة الإنترنت، قصص وروايات ألفها بعض السيناريستات الملفقين والفاشلين، تروى تلك الروايات بالتفاصيل المؤلفة، وبثقة عجيبة، وكأنهم عاصروها بأنفسهم، فى مسارح الأحداث !
ولكن لو أننا سايرناهم، واتفقنا معهم على أنها مؤامرة عالمية، سيبقى السؤال الأهم.. مؤامرة مِن مَن، وضد من ؟!.. مراجعة الأرقام والبيانات العالمية، تشير إلى أنه خطر يهدِّد كل سكان العالم بلا استثناء، فمن المستفيد، ما دام كل علماء وأطباء العالم، على الرغم من اختلاف جنسياتهم، وتعارض انتماءاتهم، اتفقوا على خطورة الفيروس، وقدرته المدهشة المخيفة، على التوغـّل والعدوى والانتشار؟!.. أهى مؤامرة اتفق فيها كل علماء وأطباء وسياسى، وأنظمة العالم كله ؟!.. ولو افترضنا أن هذا الاحتمال (شبه المستحيل) قائم، فلمن توجَّه هذه المؤامرة بالضبط ؟!.. أهى مؤامرة تآزر فيها كوكب الأرض كله، ضد سكان كوكب آخر، أم أنها مؤامرة من كوكب آخر، على بشرية كوكب الأرض، بلا استثناء ؟!.. ولأن السؤال نفسه دخل فى دائرة الخيال العلمى، فالأفضل أن نعود عدة خطوات إلى الخلف، ونتساءل عن طبيعة ومفهوم الحرب البيولوجية فى العموم.. فالحرب البيولوجية أو (Biological Warfare) هى الاستخدام المتعمَّد لمواد سامة، أو جرثومات بعينها، أو غيرها من الكائنات الحية الدقيقة وسمومها، لنشر الأمراض أو الأوبئة، بين البشر والحيوانات، أو حتى النباتات، أو سبل مقاومة هذه الأوبئة ومسبباتها.. وقد يُطلق البعض، على هذا النوع من الحروب، اسم الحرب البكتيرية أو الجرثومية، ولكن مصطلح الحرب البيولوجية أدق وأشمل.. فتاريخ الحرب البيولوجية يعود إلى عصور تسبق كشف الميكروبات والجراثيم بكثير، إذ أنه فى الحروب القديمة، لجأ بعض المحاربين إلى تسميم مياه الأنهار والآبار، والنبيذ والمأكولات، أو إلقاء جثث ضحايا الأوبئة فى معسكرات الأعداء.. ولقد استمر استخدام تلك الوسائل، حتى بدايات القرن العشرين، عندما استخدمها البريطانيون والأمريكيون، فى جنوب شرق آسيا، لتدمير المحاصيل والغابات، التى كان يختبئ وسطها الأعداء.. ولكن الحرب العالمية الأولى 28 (يوليو 1914م – 11 نوفمبر 1918م)، شهدت طفرة كبيرة، فى الحرب البيولوجية، عندما تم تطوير غازات سامة، من مصادر بيولوجية طبيعية، يمكنها الانتشار بين صفوف الأعداء، وإصابتهم بالتهاب جلدى شديد، واحتقان فى كل الأغشية المخاطية، فى الأنف والفم، وحول العين، ويدمّر الأعضاء الحيوية، مما ينتهى بالوفاة.. وهنا تم ابتكار الأقنعة الواقية من الغازات السامة، ولكن هذا لم يمنع كل الآثار الجانبية الأخرى، من التهاب وصداع وآلام.. فى تلك الحرب تم استخدام الحرب البيولوجية والكيماوية معاً، لتدمير الجيوش العدوة، فى أقل وقت ممكن.. وعلى الرغم من أن الألمان هم من ابتكروا الغازات السامة وطوَّروها، واستخدموها على نحو وحشى، ضد العسكريين والمدنيين، على حد سواء، إلا أن الحرب انتهت بهزيمتهم، وسقوط إمبراطوريتهم، وانهيار حليفتهم الإمبراطورية العثمانية، وتلاشى نفوذها فى الشرق الأوسط.. ومع توقيع اتفاقية فرساى، فى 28 يونيو 1919م، أصبحت ألمانيا المهزومة، مسئولة عن تعويض الأطراف المتحاربة، مما أدخل ألمانيا فى أزمة اقتصادية طاحنة، جعلت نسبة البطالة فيها تبلغ ما يقرب من الثمانين بالمائة.. ثم جاء هتلر إلى الحكم، وصار مستشاراً لألمانيا فى 30 يناير 1933م، وقرَّر إعادة مجد الإمبراطورية الألمانية، واستعادة كل ما سُلب منها، عقب هزيمتها فى الحرب العالمية الأولى، ومن هذا المنطلق، بدأ يعد جيشه وأسلحته سراً، ثم بدأ حملة عسكرية، لاستعادة الأراضى الألمانية، التى استولت عليها دول الجوار بالقوة، فى الحرب الأولى، وكان من الطبيعى أن يقلق العالم كله، وأن تشتعل الحرب العالمية الثانية (1 سبتمبر 1939 – 2 سبتمبر 1945م).. وقد نقل لنا تاريخ الحرب العالمية الثانية انتصاراً ألمانياً نازياً قوياً، باستخدام الحرب البيولوجية.. ففى الحرب العالمية الأولى وعقبها، كان سلاح الفرسان الفرنسى مصدر كل الفخر والاعتزاز لفرنسا كلها، ورمزاً للبطولة والنصر، وكان هتلر يكره فرنسا بالذات، ويُدرك أن تدمير رموزها الخاصة، كفيل بضرب الروح المعنوية للفرنسيين، وجعلهم أقرب إلى الهزيمة، منهم إلى النصر.. سلاح تلك الحرب البيولوجية، كان مجرَّد إبرة ملوَّثة بميكروب الجمرة الخبيثة، حملها أحد جواسيس هتلر، ليغرسها فى فخذ أحد جياد سلاح الفرسان.. وفى خلال شهر واحد، انتشرت العدوى بين سلاح الفرسان الفرنسى كله، وفى مشهد درامى، مزَّق نياط قلب كل فرنسى، انهار سلاح الفرسان، وقضت كل خيوله نحبها، وسقط رمز من رموز القوة والنصر فى فرنسا، وما هى إلا بضعة أشهر، حتى اجتاحت الجيوش النازية فرنسا، التى استسلمت، ووقـَّعت وثيقة الاستسلام، فى نفس عربة القطار، التى شهدت توقيع وثيقة استسلام ألمانيا، فى الحرب العالمية الأولى.. ولقد أدركت الاستخبارات البريطانية ما حدث، فتم تكوين فرع خاص بها، مزوَّد بأمهر علماء إنجلترا، للقيام بالدورين معاً.. ابتكار وسائل حرب بيولوجية وكيماوية جديدة، وإيجاد وسيلة لمقاومة أى حرب بيولوجية نازية محتملة.. أما فى العصر الحديث، ومع التطوّر العلمى والطبى الكبير، والمتسارع بسرعة الصاروخ، ومع سهولة وسرعة التنقل، بين القارات الخمس، لم تعد الحرب سلاحاً يمكن استخدامه، على نحو آمن بالنسبة لمستخدمه، وصار التركيز أكثر على الحرب الإليكترونية وربما الكيماوية، خاصة وأن زمن المواجهات التصادمية المباشرة، يوشك على كتابة كلمة النهاية، مع ابتكار وتطوير حروب الجيل الرابع، والحروب بالوكالة، عبر تنظيمات إرهابية، يمكن أن تنتشر، فى كل بقعة من بقاع العالم.. الاحتمال الوحيد القائم، هو أن تسعى جهة ما؛ لابتكار أو تطوير فيروس بعينه، لديه ميل تجاه جينات بعينها، وهناك بعض الأبحاث البيولوجية، التى تعتمد على ابتكار فيروسات، تسعى خلف أجناس نقية السلالات، أو منغلقة التزاوج، وهذا أمر لم يتم استخدامه عملياً حتى الآن، وفقاً للمعروف، وربما تتعارض تلك الأبحاث مع الطبيعة العجيبة للكائنات الفيروسية، القادرة على مقاومة معظم الوسائل، المؤثرة فى أنواع البكتيريا والميكروبات الأخرى، إضافة إلى قدرة الفيروسات المدهشة، على التحوّر والتغيّر؛ لمقاومة متغيرات البيئة، ومن السهل ملاحظة هذا، بمتابعة فصائل الإنفلونزا المختلفة، التى تتغيَّر وتتطوّر، كل عام أو عامين، من إنفلونزا عادية، إلى أسيوية، إلى إسبانية، إلى إنفلونزا طيور وخنازير.. ومشكلة التعامل مع الفيروسات هو أنها أشبه بالكائن الميت الحى، فخارج الخلايا الحية، تبدو أشبه بقطع كريستالية مجهرية، خالية من أى علامة، من علامات الحياة، ولكن عندما تخترق الخلايا الحية، فهى تتحوَّل إلى كائن طفيلى شرس، يعمل بكل همة ونشاط، وبلا رحمة، لتجنيد الخلايا المصابة به، لإعادة إنتاج عشرات النسخ منه، بحيث تتوجَّه مواردها كلها لخدمته، حتى تنهار وتموت، فى حين يحيا هو وينتشر.. وفى أحيان كثيرة، عندما تواجه الفيروسات عقاراً قوياً، أو نشاطاً جيداً للجهاز المناعى الحيوى، فإنها تعود إلى حالة شبه الحياة، وتظل كامنة فى الجسد، إلى أن تنخفض مناعته، أو يُصاب جهازه المناعى بالضعف، لعوامل طبية أو علاجية، فتعود لتنطلق، وتدب فيها الحياة، وتستعيد كامل نشاطها. وهذا ما نراه فى وضوح، فى مرض جلدى مثل الهربس، الذى يظهر ويختفى، على فترات متباعدة، فى جسد المصاب به.. السؤال الأساسى هو: هل يمكن أن يكون تحوّر وتطوّر بعض أنواع الفيروسات، هو عمل تخليقى معملى متعمَّد، أم أنه يحدث على نحو طبيعى، مع التغيرات البيئية، أو التلوّث البيئى ؟!.. وهل يمكن أن تلجأ دولة ما، إلى تخليق فيروس شرس، لأغراض اقتصادية أو سياسية ؟!.. الواقع أنه لا أحد يمكنه إجابة أو نفى السؤال، على نحو قاطع، إذ أن هذا سيخضع حتماً إلى عدة عوامل أساسية، أهمها: هل ستمتلك تلك الدولة عقاراً شافياً، أو مصلاً مانعاً، ضد ذلك الفيروس التخليقى المحتمل، أم أنه من الممكن أن يتسبَّب خطأ معملى أو أمنى فى انتشاره، دون قصد، ودون استعدادات كافية؟!.. هذا السؤال أيضاً لا يمكن الجزم بإجابته، سواء بالنفى أو الإيجاب، وكذلك السؤال الأهم: هل انتهت ولم تعد تستخدمه ، أم ما زالت ؟