الأحد 28 ابريل 2024

د. نبيل فاروق يكتب: بيولوجيا

كنوزنا10-12-2020 | 15:36

على‭ ‬نحو‭ ‬لم‭ ‬تتخيَّله‭، ‬حتى‭ ‬أكثر‭ ‬روايات‭ ‬الخيال‭ ‬العلمى‭ ‬تشاؤماً‭، ‬اجتاح‭ ‬العالم‭ ‬كله‭، ‬ولأوَّل‭ ‬مرة‭ ‬فى‭ ‬التاريخ‭، ‬فيروس‭ ‬شديد‭ ‬العدوى‭، ‬شديد‭ ‬الخطورة‭، ‬واسع‭ ‬الانتشار، ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬العالم‭ ‬قد‭ ‬شهد‭ ‬(تاريخياً) ‬هجمات‭ ‬أوبئة‭ ‬شرسة‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬مثل‭ ‬الطاعون‭ ‬الأسود،‭ ‬بين‭ ‬عامى‭ ‬1348‭ ‬–‭ ‬1349م،‭ ‬والذى‭ ‬حصد‭ ‬عشرين‭ ‬مليوناً،‭ ‬والكوليرا‭ ‬فى‭ ‬عام‭ ‬1820م،‭ ‬والإنفلونزا‭ ‬الإسبانية‭ ‬عام‭ ‬1918م،‭ ‬وكانت‭ ‬الأعداد‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬كبيرة؛‭ ‬لأنه‭ ‬فى‭ ‬تلك‭ ‬الأزمنة،‭ ‬وهذا‭ ‬أمر‭ ‬طبيعى؛‭ ‬إما‭ ‬لأن‭ ‬الفيروسات‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬معروفة‭ ‬بعد،‭ ‬أو‭ ‬لأنها‭ ‬كانت‭ ‬حديثة‭ ‬الكشف،‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬ويندى‭ ‬باركلى،‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬إمبريال‭ ‬كولاج‭ ‬فى‭ ‬لندن‭ ‬تقول‭: ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬كشف‭ ‬الفيروسات،‭ ‬لم‭ ‬يدرك‭ ‬معظم‭ ‬الأطباء‭ ‬حينها،‭ ‬أنها‭ ‬المسئولة‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬الأمراض،‭ ‬ولقد‭ ‬احتاجوا‭ ‬إلى‭ ‬وقت‭ ‬طويل،‭ ‬قبل‭ ‬كشف‭ ‬عقاقير‭ ‬مضادة‭ ‬للفيروسات،‭ ‬وتساعد‭ ‬على‭ ‬كبح‭ ‬تفشى‭ ‬المرض،‭ ‬وتسريع‭ ‬التعافى‭ ‬منه‭.. ‬وفى‭ ‬عام‭ ‬1976م،‭ ‬انتشر‭ ‬فى‭ ‬الكونغو‭ ‬فيروس‭ ‬الإيدز،‭ ‬الذى‭ ‬انتشر‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬مختلف‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم،‭ ‬بسبب‭ ‬سهولة‭ ‬المواصلات،‭ ‬وسرعة‭ ‬انتقال‭ ‬البشر،‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬ونقص‭ ‬وسائل‭ ‬الكشف‭ ‬والتشخيص‭.. ‬وحتى‭ ‬مع‭ ‬ظهور‭ ‬فيروس‭ ‬الإيدز،‭ ‬بدأ‭ ‬أصحاب‭ ‬نظرية‭ ‬المؤامرة‭ ‬فى‭ ‬تداول‭ ‬فكرة‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬الفيروس،‭ ‬الذى‭ ‬يوجد‭ ‬فى‭ ‬أحد‭ ‬أنواع‭ ‬القرود،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬طبيعى،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يسبب‭ ‬لها‭ ‬أية‭ ‬أعراض،‭ ‬هو‭ ‬فيروس‭ ‬معملى‭ ‬مخلَّق‭.. ‬وهو‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الحرب‭ ‬البيولوجية‭.. ‬

الأمر‭ ‬نفسه‭ ‬تكرَّر‭ ‬مع‭ ‬كوفيد‭ ‬19،‭ ‬أو‭ ‬فيروس‭ ‬كورونا،‭ ‬الذى‭ ‬انتشر‭ ‬فى‭ ‬العالم‭ ‬كله‭.. ‬وكالمعتاد‭ ‬خرج‭ ‬علينا‭ ‬كهنة‭ ‬نظرية‭ ‬المؤامرة‭ ‬فى‭ ‬إصرار،‭ ‬مؤكدين‭ ‬(دون‭ ‬أية‭ ‬معلومات‭ ‬كالمعتاد)‭‬،‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الفيروس‭ ‬أيضاً‭ ‬مخلَّق‭ ‬معملياً،‭ ‬كجزء‭ ‬من‭ ‬حرب‭ ‬بيولوجية‭ ‬شرسة،‭ ‬تستهدف‭ ‬ضرب‭ ‬الاقتصاد‭ ‬العالمى،‭ ‬أو‭ ‬الأكثر‭ ‬تطرفاً،‭ ‬لتقليل‭ ‬عدد‭ ‬سكان‭ ‬الأرض،‭ ‬وانتشرت‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعى‭ ‬وشبكة‭ ‬الإنترنت،‭ ‬قصص‭ ‬وروايات‭ ‬ألفها‭ ‬بعض‭ ‬السيناريستات‭ ‬الملفقين‭ ‬والفاشلين،‭ ‬تروى‭ ‬تلك‭ ‬الروايات‭ ‬بالتفاصيل‭ ‬المؤلفة،‭ ‬وبثقة‭ ‬عجيبة،‭ ‬وكأنهم‭ ‬عاصروها‭ ‬بأنفسهم،‭ ‬فى‭ ‬مسارح‭ ‬الأحداث‭ !‬


ولكن‭ ‬لو‭ ‬أننا‭ ‬سايرناهم،‭ ‬واتفقنا‭ ‬معهم‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬مؤامرة‭ ‬عالمية،‭ ‬سيبقى‭ ‬السؤال‭ ‬الأهم‭.. ‬مؤامرة‭ ‬مِن‭ ‬مَن،‭ ‬وضد‭ ‬من‭ ‬؟‭!.. ‬مراجعة‭ ‬الأرقام‭ ‬والبيانات‭ ‬العالمية،‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬خطر‭ ‬يهدِّد‭ ‬كل‭ ‬سكان‭ ‬العالم‭ ‬بلا‭ ‬استثناء،‭ ‬فمن‭ ‬المستفيد،‭ ‬ما‭ ‬دام‭ ‬كل‭ ‬علماء‭ ‬وأطباء‭ ‬العالم،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬اختلاف‭ ‬جنسياتهم،‭ ‬وتعارض‭ ‬انتماءاتهم،‭ ‬اتفقوا‭ ‬على‭ ‬خطورة‭ ‬الفيروس،‭ ‬وقدرته‭ ‬المدهشة‭ ‬المخيفة،‭ ‬على‭ ‬التوغـّل‭ ‬والعدوى‭ ‬والانتشار؟‭!.. ‬أهى‭ ‬مؤامرة‭ ‬اتفق‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬علماء‭ ‬وأطباء‭ ‬وسياسى،‭ ‬وأنظمة‭ ‬العالم‭ ‬كله‭ ‬؟‭!.. ‬ولو‭ ‬افترضنا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الاحتمال‭ (‬شبه‭ ‬المستحيل‭) ‬قائم،‭ ‬فلمن‭ ‬توجَّه‭ ‬هذه‭ ‬المؤامرة‭ ‬بالضبط‭ ‬؟‭!.. ‬أهى‭ ‬مؤامرة‭ ‬تآزر‭ ‬فيها‭ ‬كوكب‭ ‬الأرض‭ ‬كله،‭ ‬ضد‭ ‬سكان‭ ‬كوكب‭ ‬آخر،‭ ‬أم‭ ‬أنها‭ ‬مؤامرة‭ ‬من‭ ‬كوكب‭ ‬آخر،‭ ‬على‭ ‬بشرية‭ ‬كوكب‭ ‬الأرض،‭ ‬بلا‭ ‬استثناء‭ ‬؟‭!.. ‬ولأن‭ ‬السؤال‭ ‬نفسه‭ ‬دخل‭ ‬فى‭ ‬دائرة‭ ‬الخيال‭ ‬العلمى،‭ ‬فالأفضل‭ ‬أن‭ ‬نعود‭ ‬عدة‭ ‬خطوات‭ ‬إلى‭ ‬الخلف،‭ ‬ونتساءل‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬ومفهوم‭ ‬الحرب‭ ‬البيولوجية‭ ‬فى‭ ‬العموم‭.. ‬فالحرب‭ ‬البيولوجية‭ ‬أو‭ (‬Biological‭ ‬Warfare‭)‬‭ ‬هى‭ ‬الاستخدام‭ ‬المتعمَّد‭ ‬لمواد‭ ‬سامة،‭ ‬أو‭ ‬جرثومات‭ ‬بعينها،‭ ‬أو‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬الكائنات‭ ‬الحية‭ ‬الدقيقة‭ ‬وسمومها،‭ ‬لنشر‭ ‬الأمراض‭ ‬أو‭ ‬الأوبئة،‭ ‬بين‭ ‬البشر‭ ‬والحيوانات،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬النباتات،‭ ‬أو‭ ‬سبل‭ ‬مقاومة‭ ‬هذه‭ ‬الأوبئة‭ ‬ومسبباتها‭.. ‬وقد‭ ‬يُطلق‭ ‬البعض،‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الحروب،‭ ‬اسم‭ ‬الحرب‭ ‬البكتيرية‭ ‬أو‭ ‬الجرثومية،‭ ‬ولكن‭ ‬مصطلح‭ ‬الحرب‭ ‬البيولوجية‭ ‬أدق‭ ‬وأشمل‭.. ‬فتاريخ‭ ‬الحرب‭ ‬البيولوجية‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬عصور‭ ‬تسبق‭ ‬كشف‭ ‬الميكروبات‭ ‬والجراثيم‭ ‬بكثير،‭ ‬إذ‭ ‬أنه‭ ‬فى‭ ‬الحروب‭ ‬القديمة،‭ ‬لجأ‭ ‬بعض‭ ‬المحاربين‭ ‬إلى‭ ‬تسميم‭ ‬مياه‭ ‬الأنهار‭ ‬والآبار،‭ ‬والنبيذ‭ ‬والمأكولات،‭ ‬أو‭ ‬إلقاء‭ ‬جثث‭ ‬ضحايا‭ ‬الأوبئة‭ ‬فى‭ ‬معسكرات‭ ‬الأعداء‭.. ‬ولقد‭ ‬استمر‭ ‬استخدام‭ ‬تلك‭ ‬الوسائل،‭ ‬حتى‭ ‬بدايات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬عندما‭ ‬استخدمها‭ ‬البريطانيون‭ ‬والأمريكيون،‭ ‬فى‭ ‬جنوب‭ ‬شرق‭ ‬آسيا،‭ ‬لتدمير‭ ‬المحاصيل‭ ‬والغابات،‭ ‬التى‭ ‬كان‭ ‬يختبئ‭ ‬وسطها‭ ‬الأعداء‭.. ‬ولكن‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬28‭ ‬(يوليو‭ ‬1914م‭ ‬–‭ ‬11‭ ‬نوفمبر‭ ‬1918م‭)‬،‭ ‬شهدت‭ ‬طفرة‭ ‬كبيرة،‭ ‬فى‭ ‬الحرب‭ ‬البيولوجية،‭ ‬عندما‭ ‬تم‭ ‬تطوير‭ ‬غازات‭ ‬سامة،‭ ‬من‭ ‬مصادر‭ ‬بيولوجية‭ ‬طبيعية،‭ ‬يمكنها‭ ‬الانتشار‭ ‬بين‭ ‬صفوف‭ ‬الأعداء،‭ ‬وإصابتهم‭ ‬بالتهاب‭ ‬جلدى‭ ‬شديد،‭ ‬واحتقان‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬الأغشية‭ ‬المخاطية،‭ ‬فى‭ ‬الأنف‭ ‬والفم،‭ ‬وحول‭ ‬العين،‭ ‬ويدمّر‭ ‬الأعضاء‭ ‬الحيوية،‭ ‬مما‭ ‬ينتهى‭ ‬بالوفاة‭.. ‬وهنا‭ ‬تم‭ ‬ابتكار‭ ‬الأقنعة‭ ‬الواقية‭ ‬من‭ ‬الغازات‭ ‬السامة،‭ ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬لم‭ ‬يمنع‭ ‬كل‭ ‬الآثار‭ ‬الجانبية‭ ‬الأخرى،‭ ‬من‭ ‬التهاب‭ ‬وصداع‭ ‬وآلام‭.. ‬فى‭ ‬تلك‭ ‬الحرب‭ ‬تم‭ ‬استخدام‭ ‬الحرب‭ ‬البيولوجية‭ ‬والكيماوية‭ ‬معاً،‭ ‬لتدمير‭ ‬الجيوش‭ ‬العدوة،‭ ‬فى‭ ‬أقل‭ ‬وقت‭ ‬ممكن‭.. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الألمان‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬ابتكروا‭ ‬الغازات‭ ‬السامة‭ ‬وطوَّروها،‭ ‬واستخدموها‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬وحشى،‭ ‬ضد‭ ‬العسكريين‭ ‬والمدنيين،‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الحرب‭ ‬انتهت‭ ‬بهزيمتهم،‭ ‬وسقوط‭ ‬إمبراطوريتهم،‭ ‬وانهيار‭ ‬حليفتهم‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬العثمانية،‭ ‬وتلاشى‭ ‬نفوذها‭ ‬فى‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭.. ‬ومع‭ ‬توقيع‭ ‬اتفاقية‭ ‬فرساى،‭ ‬فى‭ ‬28‭ ‬يونيو‭ ‬1919م،‭ ‬أصبحت‭ ‬ألمانيا‭ ‬المهزومة،‭ ‬مسئولة‭ ‬عن‭ ‬تعويض‭ ‬الأطراف‭ ‬المتحاربة،‭ ‬مما‭ ‬أدخل‭ ‬ألمانيا‭ ‬فى‭ ‬أزمة‭ ‬اقتصادية‭ ‬طاحنة،‭ ‬جعلت‭ ‬نسبة‭ ‬البطالة‭ ‬فيها‭ ‬تبلغ‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬الثمانين‭ ‬بالمائة‭.. ‬ثم‭ ‬جاء‭ ‬هتلر‭ ‬إلى‭ ‬الحكم،‭ ‬وصار‭ ‬مستشاراً‭ ‬لألمانيا‭ ‬فى‭ ‬30‭ ‬يناير‭ ‬1933م،‭ ‬وقرَّر‭ ‬إعادة‭ ‬مجد‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الألمانية،‭ ‬واستعادة‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬سُلب‭ ‬منها،‭ ‬عقب‭ ‬هزيمتها‭ ‬فى‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى،‭ ‬ومن‭ ‬هذا‭ ‬المنطلق،‭ ‬بدأ‭ ‬يعد‭ ‬جيشه‭ ‬وأسلحته‭ ‬سراً،‭ ‬ثم‭ ‬بدأ‭ ‬حملة‭ ‬عسكرية،‭ ‬لاستعادة‭ ‬الأراضى‭ ‬الألمانية،‭ ‬التى‭ ‬استولت‭ ‬عليها‭ ‬دول‭ ‬الجوار‭ ‬بالقوة،‭ ‬فى‭ ‬الحرب‭ ‬الأولى،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬الطبيعى‭ ‬أن‭ ‬يقلق‭ ‬العالم‭ ‬كله،‭ ‬وأن‭ ‬تشتعل‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ (‬1‭ ‬سبتمبر‭ ‬1939‭ ‬–‭ ‬2‭ ‬سبتمبر‭ ‬1945م‭).. ‬وقد‭ ‬نقل‭ ‬لنا‭ ‬تاريخ‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬انتصاراً‭ ‬ألمانياً‭ ‬نازياً‭ ‬قوياً،‭ ‬باستخدام‭ ‬الحرب‭ ‬البيولوجية‭.. ‬ففى‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬وعقبها،‭ ‬كان‭ ‬سلاح‭ ‬الفرسان‭ ‬الفرنسى‭ ‬مصدر‭ ‬كل‭ ‬الفخر‭ ‬والاعتزاز‭ ‬لفرنسا‭ ‬كلها،‭ ‬ورمزاً‭ ‬للبطولة‭ ‬والنصر،‭ ‬وكان‭ ‬هتلر‭ ‬يكره‭ ‬فرنسا‭ ‬بالذات،‭ ‬ويُدرك‭ ‬أن‭ ‬تدمير‭ ‬رموزها‭ ‬الخاصة،‭ ‬كفيل‭ ‬بضرب‭ ‬الروح‭ ‬المعنوية‭ ‬للفرنسيين،‭ ‬وجعلهم‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬الهزيمة،‭ ‬منهم‭ ‬إلى‭ ‬النصر‭.. ‬سلاح‭ ‬تلك‭ ‬الحرب‭ ‬البيولوجية،‭ ‬كان‭ ‬مجرَّد‭ ‬إبرة‭ ‬ملوَّثة‭ ‬بميكروب‭ ‬الجمرة‭ ‬الخبيثة،‭ ‬حملها‭ ‬أحد‭ ‬جواسيس‭ ‬هتلر،‭ ‬ليغرسها‭ ‬فى‭ ‬فخذ‭ ‬أحد‭ ‬جياد‭ ‬سلاح‭ ‬الفرسان‭.. ‬وفى‭ ‬خلال‭ ‬شهر‭ ‬واحد،‭ ‬انتشرت‭ ‬العدوى‭ ‬بين‭ ‬سلاح‭ ‬الفرسان‭ ‬الفرنسى‭ ‬كله،‭ ‬وفى‭ ‬مشهد‭ ‬درامى،‭ ‬مزَّق‭ ‬نياط‭ ‬قلب‭ ‬كل‭ ‬فرنسى،‭ ‬انهار‭ ‬سلاح‭ ‬الفرسان،‭ ‬وقضت‭ ‬كل‭ ‬خيوله‭ ‬نحبها،‭ ‬وسقط‭ ‬رمز‭ ‬من‭ ‬رموز‭ ‬القوة‭ ‬والنصر‭ ‬فى‭ ‬فرنسا،‭ ‬وما‭ ‬هى‭ ‬إلا‭ ‬بضعة‭ ‬أشهر،‭ ‬حتى‭ ‬اجتاحت‭ ‬الجيوش‭ ‬النازية‭ ‬فرنسا،‭ ‬التى‭ ‬استسلمت،‭ ‬ووقـَّعت‭ ‬وثيقة‭ ‬الاستسلام،‭ ‬فى‭ ‬نفس‭ ‬عربة‭ ‬القطار،‭ ‬التى‭ ‬شهدت‭ ‬توقيع‭ ‬وثيقة‭ ‬استسلام‭ ‬ألمانيا،‭ ‬فى‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭.. ‬ولقد‭ ‬أدركت‭ ‬الاستخبارات‭ ‬البريطانية‭ ‬ما‭ ‬حدث،‭ ‬فتم‭ ‬تكوين‭ ‬فرع‭ ‬خاص‭ ‬بها،‭ ‬مزوَّد‭ ‬بأمهر‭ ‬علماء‭ ‬إنجلترا،‭ ‬للقيام‭ ‬بالدورين‭ ‬معاً‭.. ‬ابتكار‭ ‬وسائل‭ ‬حرب‭ ‬بيولوجية‭ ‬وكيماوية‭ ‬جديدة،‭ ‬وإيجاد‭ ‬وسيلة‭ ‬لمقاومة‭ ‬أى‭ ‬حرب‭ ‬بيولوجية‭ ‬نازية‭ ‬محتملة‭.. ‬أما‭ ‬فى‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬ومع‭ ‬التطوّر‭ ‬العلمى‭ ‬والطبى‭ ‬الكبير،‭ ‬والمتسارع‭ ‬بسرعة‭ ‬الصاروخ،‭ ‬ومع‭ ‬سهولة‭ ‬وسرعة‭ ‬التنقل،‭ ‬بين‭ ‬القارات‭ ‬الخمس،‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬الحرب‭ ‬سلاحاً‭ ‬يمكن‭ ‬استخدامه،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬آمن‭ ‬بالنسبة‭ ‬لمستخدمه،‭ ‬وصار‭ ‬التركيز‭ ‬أكثر‭ ‬على‭ ‬الحرب‭ ‬الإليكترونية‭ ‬وربما‭ ‬الكيماوية،‭ ‬خاصة‭ ‬وأن‭ ‬زمن‭ ‬المواجهات‭ ‬التصادمية‭ ‬المباشرة،‭ ‬يوشك‭ ‬على‭ ‬كتابة‭ ‬كلمة‭ ‬النهاية،‭ ‬مع‭ ‬ابتكار‭ ‬وتطوير‭ ‬حروب‭ ‬الجيل‭ ‬الرابع،‭ ‬والحروب‭ ‬بالوكالة،‭ ‬عبر‭ ‬تنظيمات‭ ‬إرهابية،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تنتشر،‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬بقعة‭ ‬من‭ ‬بقاع‭ ‬العالم‭.. ‬الاحتمال‭ ‬الوحيد‭ ‬القائم،‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬تسعى‭ ‬جهة‭ ‬ما؛‭ ‬لابتكار‭ ‬أو‭ ‬تطوير‭ ‬فيروس‭ ‬بعينه،‭ ‬لديه‭ ‬ميل‭ ‬تجاه‭ ‬جينات‭ ‬بعينها،‭ ‬وهناك‭ ‬بعض‭ ‬الأبحاث‭ ‬البيولوجية،‭ ‬التى‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬ابتكار‭ ‬فيروسات،‭ ‬تسعى‭ ‬خلف‭ ‬أجناس‭ ‬نقية‭ ‬السلالات،‭ ‬أو‭ ‬منغلقة‭ ‬التزاوج،‭ ‬وهذا‭ ‬أمر‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬استخدامه‭ ‬عملياً‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬وفقاً‭ ‬للمعروف،‭ ‬وربما‭ ‬تتعارض‭ ‬تلك‭ ‬الأبحاث‭ ‬مع‭ ‬الطبيعة‭ ‬العجيبة‭ ‬للكائنات‭ ‬الفيروسية،‭ ‬القادرة‭ ‬على‭ ‬مقاومة‭ ‬معظم‭ ‬الوسائل،‭ ‬المؤثرة‭ ‬فى‭ ‬أنواع‭ ‬البكتيريا‭ ‬والميكروبات‭ ‬الأخرى،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬قدرة‭ ‬الفيروسات‭ ‬المدهشة،‭ ‬على‭ ‬التحوّر‭ ‬والتغيّر؛‭ ‬لمقاومة‭ ‬متغيرات‭ ‬البيئة،‭ ‬ومن‭ ‬السهل‭ ‬ملاحظة‭ ‬هذا،‭ ‬بمتابعة‭ ‬فصائل‭ ‬الإنفلونزا‭ ‬المختلفة،‭ ‬التى‭ ‬تتغيَّر‭ ‬وتتطوّر،‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬أو‭ ‬عامين،‭ ‬من‭ ‬إنفلونزا‭ ‬عادية،‭ ‬إلى‭ ‬أسيوية،‭ ‬إلى‭ ‬إسبانية،‭ ‬إلى‭ ‬إنفلونزا‭ ‬طيور‭ ‬وخنازير‭.. ‬ومشكلة‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الفيروسات‭ ‬هو‭ ‬أنها‭ ‬أشبه‭ ‬بالكائن‭ ‬الميت‭ ‬الحى،‭ ‬فخارج‭ ‬الخلايا‭ ‬الحية،‭ ‬تبدو‭ ‬أشبه‭ ‬بقطع‭ ‬كريستالية‭ ‬مجهرية،‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬أى‭ ‬علامة،‭ ‬من‭ ‬علامات‭ ‬الحياة،‭ ‬ولكن‭ ‬عندما‭ ‬تخترق‭ ‬الخلايا‭ ‬الحية،‭ ‬فهى‭ ‬تتحوَّل‭ ‬إلى‭ ‬كائن‭ ‬طفيلى‭ ‬شرس،‭ ‬يعمل‭ ‬بكل‭ ‬همة‭ ‬ونشاط،‭ ‬وبلا‭ ‬رحمة،‭ ‬لتجنيد‭ ‬الخلايا‭ ‬المصابة‭ ‬به،‭ ‬لإعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬عشرات‭ ‬النسخ‭ ‬منه،‭ ‬بحيث‭ ‬تتوجَّه‭ ‬مواردها‭ ‬كلها‭ ‬لخدمته،‭ ‬حتى‭ ‬تنهار‭ ‬وتموت،‭ ‬فى‭ ‬حين‭ ‬يحيا‭ ‬هو‭ ‬وينتشر‭.. ‬وفى‭ ‬أحيان‭ ‬كثيرة،‭ ‬عندما‭ ‬تواجه‭ ‬الفيروسات‭ ‬عقاراً‭ ‬قوياً،‭ ‬أو‭ ‬نشاطاً‭ ‬جيداً‭ ‬للجهاز‭ ‬المناعى‭ ‬الحيوى،‭ ‬فإنها‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬شبه‭ ‬الحياة،‭ ‬وتظل‭ ‬كامنة‭ ‬فى‭ ‬الجسد،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تنخفض‭ ‬مناعته،‭ ‬أو‭ ‬يُصاب‭ ‬جهازه‭ ‬المناعى‭ ‬بالضعف،‭ ‬لعوامل‭ ‬طبية‭ ‬أو‭ ‬علاجية،‭ ‬فتعود‭ ‬لتنطلق،‭ ‬وتدب‭ ‬فيها‭ ‬الحياة،‭ ‬وتستعيد‭ ‬كامل‭ ‬نشاطها‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬نراه‭ ‬فى‭ ‬وضوح،‭ ‬فى‭ ‬مرض‭ ‬جلدى‭ ‬مثل‭ ‬الهربس،‭ ‬الذى‭ ‬يظهر‭ ‬ويختفى،‭ ‬على‭ ‬فترات‭ ‬متباعدة،‭ ‬فى‭ ‬جسد‭ ‬المصاب‭ ‬به‭.. ‬السؤال‭ ‬الأساسى‭ ‬هو‭: ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬تحوّر‭ ‬وتطوّر‭ ‬بعض‭ ‬أنواع‭ ‬الفيروسات،‭ ‬هو‭ ‬عمل‭ ‬تخليقى‭ ‬معملى‭ ‬متعمَّد،‭ ‬أم‭ ‬أنه‭ ‬يحدث‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬طبيعى،‭ ‬مع‭ ‬التغيرات‭ ‬البيئية،‭ ‬أو‭ ‬التلوّث‭ ‬البيئى‭ ‬؟‭!.. ‬وهل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تلجأ‭ ‬دولة‭ ‬ما،‭ ‬إلى‭ ‬تخليق‭ ‬فيروس‭ ‬شرس،‭ ‬لأغراض‭ ‬اقتصادية‭ ‬أو‭ ‬سياسية‭ ‬؟‭!.. ‬الواقع‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يمكنه‭ ‬إجابة‭ ‬أو‭ ‬نفى‭ ‬السؤال،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬قاطع،‭ ‬إذ‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬سيخضع‭ ‬حتماً‭ ‬إلى‭ ‬عدة‭ ‬عوامل‭ ‬أساسية،‭ ‬أهمها‭: ‬هل‭ ‬ستمتلك‭ ‬تلك‭ ‬الدولة‭ ‬عقاراً‭ ‬شافياً،‭ ‬أو‭ ‬مصلاً‭ ‬مانعاً،‭ ‬ضد‭ ‬ذلك‭ ‬الفيروس‭ ‬التخليقى‭ ‬المحتمل،‭ ‬أم‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬يتسبَّب‭ ‬خطأ‭ ‬معملى‭ ‬أو‭ ‬أمنى‭ ‬فى‭ ‬انتشاره،‭ ‬دون‭ ‬قصد،‭ ‬ودون‭ ‬استعدادات‭ ‬كافية؟‭!.. ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬أيضاً‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬الجزم‭ ‬بإجابته،‭ ‬سواء‭ ‬بالنفى‭ ‬أو‭ ‬الإيجاب،‭ ‬وكذلك‭ ‬السؤال‭ ‬الأهم‭: ‬هل‭ ‬انتهت‭ ‬ولم‭ ‬تعد تستخدمه‭ ‬،‭ ‬أم‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ؟


    Dr.Randa
    Dr.Radwa