آلاف الكتب، تكتظ بها أرفف المكتبات العالمية، فى كل أنحاء العالم، عن الحروب، وفنونها واستراتيجياتها وتكتيكاتها، ولكن من النادر جداً، أن تجد كتباً، عربية أو عالمية، تتحَّدث عن أيدولوجيات ما بعد الحروب، فالحروب ليست هدفاً فى حد ذاتها، لا فى أرض المعارك، ولا حتى فى الحياة المدنية..
آلاف الكتب، تكتظ بها أرفف المكتبات العالمية، فى كل أنحاء العالم، عن الحروب، وفنونها واستراتيجياتها وتكتيكاتها، ولكن من النادر جداً، أن تجد كتباً، عربية أو عالمية، تتحَّدث عن أيدولوجيات ما بعد الحروب، فالحروب ليست هدفاً فى حد ذاتها، لا فى أرض المعارك، ولا حتى فى الحياة المدنية.. الحروب مجرَّد وسيلة؛ لبلوغ هدف ما، ولهذا فدوماً ما تنتهى الحروب بعالم شديد الاختلاف، عما كان عليه فى بدايتها، إذا ماتحقّق الهدف منها.. أمريكا كانت مستعمرة بريطانية لزمن طويل، ثم حاربت لتنال استقلالها ( 19 أبريل 1775- 3 سبتمبر 1783م)، بسبب تعُنت البرلمان البريطانى، تجاه مستعمراته وقاطنيها فى أمريكا، إذ حرمهم، من أن يكون لهم أى تمثيل فيه، وعندئذ رفع الأمريكيون، فى الولايات الثلاثة عشر (آنذاك)، شعار لا ضرائب بدون تمثيل برلمانى، ومع زيادة حالة التمَّرد، تحَّول الأمر إلى ثورة، أعلنت خلالها الولايات، الاستقلال عن بريطانيا، فاندلعت الحرب، التى انتهت باستقلال أمريكا عن بريطانيا، وانسحاب تلك الأخيرة من المستعمرات، لتتكوَّن نواة الولايات المتحدة، التى تحتفل باستقلالها، حتى يومنا هذا، فى الرابع من يوليو من كل عام، وهو اليوم الذى تم فيه توقيع وثيقة الاستقلال.. الحرب إذن بدأت بسبب، وانتهت بنتيجة، هى نفسها ذلك السبب، الذى اندلعت من خلاله.. وحرب أكتوبر 1973م، اندلعت لتحرير سيناء، واسترداد الكرامة المصرية، وعلى الرغم من المزاعم الإعلامية الإسرائيلية، فقد انتهت وقواتنا على أرض سيناء، وخط بارليف تحت سيطرتنا، والعلم المصرى يرتفع على أجزاء من أرض الفيروز..
الحرب اندلعت أيضاً لسبب، ووضعت أوزارها، مع تحقق جزءاً منه.. هذا لأن الحروب تندلع دوماً، وفقاً لأيدولوجية واضحة، ومنهج يحدَّد مسارها، ويرسم خطواتها، ويقر أهدافها.. والأهم.. يضع مفهوم لما بعد الحرب.. ذلك وفقاً للأيدلوجية، التى اندلعت بها الحرب ذاتها.. كل هذه كان مجَّرد مقدَّمة؛ لتحليل ما حدث فى يناير 2011 م، وما يثار حوله من جدل، وما يحيط به من عصبية، منذ ذلك التاريخ، وحتى يومنا هذا.. فالواقع أن الموضوع كله بدأ بغضبة شعبية؛ بسبب مقتل شاب يدعى خالد محمد سعيد صبحى قاسم، من مواليد 27 يناير 1982م، حيث استوقفه اثنان من رجال الشرطة، فى زى مدنى، وهما أمين الشرطة محمد صلاح، والرقيب عوض إسماعيل، متصورين أنه يحق لهما هذا، بموجب قانون الطوارئ آنذاك، وكان عندئذ متوجهاً إلى مقهى إنترنت بجوار منزله، فهاجمه الاثنان، وكبلا حركته، وضرب أحدهما رأسه برخام المكان، عندما حاول تخليص نفسه، ومع الهرج الذى حدث، طالبهما صاحب المقهى بمغادرة المكان، فاصطحبا خالد إلى مدخل عمارة قريبة، وانهالا عليه ضرباً فى وحشية، حتى سقط صريعاً أمام شهود عيان، فى منطقة سيدى جابر فى الإسكندرية، مصرعه بهذه الوسيلة أثار موجة غضب واستياء، ليس فى مصر وحدها، ولكن من قبل منظمات حقوقية عالمية أيضاً، وخرجت مظاهرات سلمية حاشدة، فى القاهرة والإسكندرية؛ للتنديد بما حدث، وبسرعة انضم إليها كل المعارضين والنشطاء، واشتعلت شبكات التواصل الاجتماعى، وبدأ الغضب يسرى كالنار فى الهشيم، ولكن تحت سطح يوحى بالسيطرة.. حدث مصرع أو مقتل خالد سعيد فى السادس من يونيو ٢٠١٠م، وكان من الممكن أن يقف الأمر عند الاحتجاجات السياسية، وغضبة الإنترنت، ومواقع التواصل الاجتماعى، ولكن فى السابع عشر من ديسمبر، من العام نفسه ٢٠١٠م، قام الشاب التونسى محمد البوعزيزى بإشعال النار فى جسده، بسبب يأسه من حالة البطالة، التى يمر بها، واحتجاجه؛ لأن الشرطية فادية حمدى قد صادرت فى تعَّنت عربته النقّالة، التى كانت مصدر دخله الوحيد.. وهنا، وفى اليوم نفسه بدأت غضبة عارمة فى تونس، سرعان ما تحوَّلت إلى ثورة شعبية عارمة، فى اليوم التالى، عجز النظام عن السيطرة عليها، فانتشرت وتعاظمت، وخاصة مع موت البوعزيزى يوم الرابع من يناير 2011م، متأثراً بحروقه، حتى انتهت برحيل زين العابدين بن على، الذى حاول البقاء فى منصبه، بإقالته بعض الوزراء المغضوب عليهم من الشعب، ولكن الأوان كان قد فات.. ما حدث فى تونس، جعل قوى المعارضة، والنشطاء السياسيين فى مصر، يشعرون أن هذا يمكن تحقيقه عندنا، كما تحقَّق فى تونس، خاصة وأن إحدى الحركات الشبابية دعت لوقفة احتجاجية، فى يوم عيد الشرطة الخامس والعشرون من يناير 2011م؛ للتعبير عن رفضهم لصلاحيات قانون الطوارئ، الذى امتد لسنوات طوال، مطلقاً يد الشرطة على الشعب.. وفى ذلك اليوم بالفعل، بدأت التجمعات فى ميدان التحرير، وفوجئ النظام بأنها تفوق توقعاته بعشرات الألوف، وبأنه، ولأوَّل مرة، عاجز تماماً، عن السيطرة عليها.. ويوماً فيوم، راحت أعداد المتظاهرين والمحتجين تتزايد فى ميدان التحرير، وفى بعض ميادين مصر، وراحت مطالب المحتجين ترتفع، مع انعدام ردود الأفعال الرسمية، ووجد المعارضون والانتهازيون والإخوان أمامهم فرصة سانحة، فبعد إعلانهم عدم مسئوليتهم عما يحدث، عادوا ينضمون إلى الجمع، الذى رفض كل محاولات التهدئة، حتى خطاب الرئيس الأسبق، وتعالت مطالبه، حتى إعلان تخَّلى الرئيس الأسبق عن منصبه، فى الحادى عشر من فبراير، 2011 م.
وهكذا انتهت الثورة، وحققَّت الهدف، الذى لم يكن فى الواقع على رأس أجندتها عندما بدأت.. وتوَّقفت معظم القوى، وبخاصة الشباب، الذى لم يدرك حتى أنه لم تكن لديه أية أيديولوجية منذ البداية.. لقد سقط النظام، ولكن ماذا بعد ؟!.. أخذتهم نشوة النصر فى الساعات الأولى، فلم يدركوا أنه ليست لديهم خطة واضحة، لما بعد الحرب، فلم يجدوا أمامهم سوى تنظيف الميدان وتجميله، على أمل إشاعة جو من التفاؤل حولهم، وكرمز لأن أيام العذاب قد انتهت، وحانت لحظة النعيم.. وأشادت أمريكا بما يقومون به، لأن خطتها كانت تشملهم كوسيلة فقط ليس إلا، وعاونهم الإعلام على تقمَّص هذه الصورة، باستخدام مصطلح ثورة الشباب، الذى منحهم شعوراً بالقوة والسيادية، وبأنهم قادرون وحدهم، على النهوض بالوطن، الذى أسقطوا نظامه.. والمدهش أنهم كانوا دوماً يؤكَّدون أن الهدف من الثورة هو الحرية والديمقراطية، فى نفس الوقت الذى أنشأوا فيه ديكتاتورية، تفوق أسوأ ديكتاتوريات التاريخ وأبشعها.. فالمنادون بالحرية، قهروا فى وحشية كل من خالفهم الرأى، وطالبوا الكل بالموافقة على أرائهم وأفكارهم، ورؤياهم القاهرة المبتورة، التى لا تستند إلى علم أو خبرة، فقط حماس وزهو وانفعال واندفاع.. وعلى الرغم مما غمرهم به الإعلام، من تفخيم وتعظيم، راحوا يفقدون شعبيتهم فى الشارع، الذى وجهوا له سيلاً من الإهانات والاتهامات، بأنه خانع وعبد وذليل، مع ذلك المصطلح، الذى كان يروق لهم آنذاك، وهو (حزب الكنبة)، وخشوا أن يفقدوا اهتمام الشارع بهم، فراحوا يخرجون فى تظاهرات، كل يوم جمعة، وأيضاً دون أيديولوجية أو استراتيجية واضحة.. وفى نفس الوقت، الذى بدأ فيه الصراع على ملء فراغ السلطة، كانت هناك فئات لديها أيديولوجيات واضحة، وتدرك أن الساحة قد تهيأت لظهورها، وخروجها على العلن، فأسرعت تتسَّلق السلم، وتدوس على رءوس الشباب أنفسهم، على أمل بلوغ المكان، الذى تحلم به منذ البداية.. السلطة.. ودون أن يدرك الشباب، تحوَّلوا إلى سلاح فى يد تلك الفئة، تحركهم كما تشاء، وفى أى اتجاه تشاء.. فقط عليها أن ترفع شعاراً حماسياً، وسيتبعونه فى غمرة اندفاعهم وانفعالهم، ليصنعوا زخماً شعبياً تفتقر إليه فى واقعها، وليعاونها على إخلاء الساحة، من آخر عقبة فى طريقها.. الجيش.. وسار الشباب خلفها، دون أن يدركوا حقيقة أهدافها ، وردَّدوا شعار (يسقط يسقط حكم العسكر)، وكانت النتيجة أن سقط الشباب، وبقى العسكر.. لحسن الحظ.. وفى أوَّل انتخابات رئاسية، فى المرحلة النهائية، أقتصرت المنافسة على الفريق (أحمد شفيق)، ورجل الإخوان (محمد مرسى)، وعلى الرغم من أن عدد الإخوان ومؤيديهم، غير كاف لانتخاب رئيس جمهورية، فقد نجح مرسى؛ بسبب من أعطوه أصواتهم، فقط حتى لا يربح شفيق، وامتناع العديد عن المشاركة، بحجة أنهم لا يقتنعون بالمرشحين.. وبغض النظر عن الشبهات، التى أحاطت بنجاح مرسى، وأسلوب البلطجة من مؤيديه، الذين هدَّدوا بحرق مصر، لو لم يفز بالرئاسة، فقد صار تابع الإخوان رئيساً للجمهورية.. ولكن أيضاً بدون أيديولوجية، أو استراتيجية واضحة.. ربما يعود هذا إلى أن الإخوان اعتادوا، دوماً العمل فى السر، وبأسلوب التحايل والتآمر، ومبدأ الطاعة العمياء، وعبادة المرشد، ولهذا فلم تكن لديهم خبرة، أو حتى فكرة، عن حكم شعب، ودولة فى حجم مصر.. وهكذا فقد بدأت أخطاؤهم منذ الأشهر الأولى.. كانوا يخشون أن ينقض عليهم الآخرون، ولم تكن لديهم ذرة من الثقة، فى أى مخلوق سواهم، ولهذا فقد سعوا، وفى شراسة؛ للسيطرة على كل مفاصل الدولة، وأخونة كل شىء ، وكل قيادة، حتى يحكموا قبضتهم على مفاصل الدولة، فى أسرع وقت ممكن.. وأيضاً دون أيديولوجية مدروسة واضحة.. سيطروا على مجلسى الشعب والشورى، وجعلوا كل المحافظين منهم، وكل قيادات المصانع والشركات، وعادوا القضاء، وحرصوا على أن يكون معظم أفراد لجنة الدستور منهم ومن أتباعهم، حتى يأتى الدستور معبراً عنهم وحدهم، دون باقى فئات الشعب.. ولأنهم تحركوا بسرعة، وبلا أية أيديولوجية، ورئيسهم تابع لمرشدهم، جاءت قراراته مستفزة للشعب بكل فئاته، وخاصة مع ذلك الإعلان الدستورى المشبوه، التى أعاد مجلس الشعب، الذى تم حله بحكم قضائى نهائى، وأعطاه سلطات وصلاحيات، غير قابلة للنقض أو المعارضة، ثم اقتصار خطاباته على أهله وعشيرته، من دون باقى طوائف الشعب، وإساءته المتعددة للرموز، وتعيينه وزراء ومحافظين، ليست لديهم أية خبرة أو معرفة حتى بطبيعة عمل الوزراء والمحافظين، وقصر حلقته المحدودة على الإخوان وحدهم.. كانوا أيضاً يجهلون فن ما بعد الحرب، ومثل كل الفاشلين، يتصوَّرون أن الحرب هى نهاية المطاف.. وهكذا خسروا المعركة أيضاً، بعد عام واحد من الحكم، فـ نفس الشعب، الذى اختارهم نكاية فقط فى الفريق شفيق، مع عدم الإشارة إلى ما يحيط بهذا من شائعات وشبهات، هو من ثار عليهم، فى الثلاثين من يونيو 2013 م، بأعداد لم يشهد التاريخ مثلها من قبل، واستبدل الشباب أنفسهم، ذلك الشعار الذى وجهوه يوماً للقوات المسلحة، بشعار يهتف بسقوط حكم المرشد.. وسقط حكم المرشد بالفعل.. هذا لأنه وأتباعه، لم يدركوا أن الحرب ليست الغاية.. الحرب مرحلة هدم، من أجل البناء وإعادة البناء... وهذه هى المرحلة الأهم.