الثبات الانفعالى.. مصطلح صار يتردَّد كثيراً على ألسنة الكل، وفى كل مناسبة، ومن غير مناسبة، والكل يراه ويفهمه من وجهة نظره، ويضعه بعض الأحيان، أو فى معظم الأحيان، فى غير موضعه.. وبالنسبة للغالبية العظمى من العامة، يقتصر المصطلح على تفسير القدرة على التماسك وتمالك الأعصاب، فى المواقف الصعبة، أو عند التعرّض للخطر.. والواقع أن هذا التفسير يشير بالفعل إلى جزء من معنى ومفهوم الثبات الانفعالى، فالمعنى فى الواقع يتجاوز هذا بكثير، ولو كان استيعاب معنى المصطلح صعباً، فالقدرة على بلوغه أصعب ألف مرة.. على الأقل.. ولو أن صفحاتنا القليلة تكفى، فيمكننا أن ندرس الخطوط العريضة للمعنى الشامل لمصطلح "الثبات الانفعالى"..
فى البداية يجب أن نعلم أنه ليس فى قدرة أى إنسان بلوغ مرحلة الثبات الانفعالى الفعلية، إذ أن الأمر يحتاج إلى أشخاص ذوى طبيعة خاصة، للبدء فى التدرَّب على الثبات الانفعالى.. فى اختبارات القدرات، فى كلية الشرطة والكليات العسكرية، يتم إخضاع كل المتقدمين إلى اختبار صغير، الهدف منه اختبار قدرتهم، وصلاحيتهم للتدَّرب على الثبات الانفعالى، وخلال هذا الاختبار، يتم استفزاز المتقدَّم، والضغط على انفعالاته، وقياس درجة استجابته، وتفاعله مع هذا الاستفزاز.. من يتجاوزون هذا الاختبار على نحو مناسب، يتأهلون للانضمام مستقبلاً، إلى جهات أمنية أعلى، حيث لا مجال للانفعال، أو العواطف المفسدة للعمل.. وعندما يتأهلون، يبدأ تدريبهم على الخطوة الأولى، للثبات الانفعالى، ألا وهى الهدوء، وتحكيم المنطق، وتسييد العقل على العاطفة والنزعات الشخصية..
وعلى عكس ما يتصوَّر الكل، يمكن لأى إنسان تدريب نفسه على الهدوء والتماسك، أياً كانت الظروف المحيطة به؛ وهناك متخصّصون فى هذا المجال، لهم العلم والخبرة والقدرة، لتدريب المرء على السيطرة، على كل انفعالاته، وهذا ما يتميَّز به القادة أثناء الحروب، فقد يحقَّق العدو نجاحاً فى جولة ما من الحرب أو الصراع، فلو أصيب القائد أو الجنود بالإحباط، وامتلأوا بشعور الهزيمة، فسيعنى هذا خسارة الحرب دون أدنى شك، ولذلك فعلى قائد الجنود أن يكون هادئاً متماسكاً، يستقبل الهزيمة بروح الدراسة والتفكير؛ لمعرفة أسبابها، ودراسة مبرَّراتها، ثم يكون مع هذا شديد التماسك أمام جنوده، وهو يؤكَّد لهم أن ما حدث مجرَّد جولة، يمكن تجاوزها وعكس نتائجها، وبقدر ما يكون لديه من ثبات انفعالى فى الموقف، تكون قدرته على نقل هذا الشعور بالثقة لجنوده أقوى وأفضل..
وهناك دروس وعبر كثيرة فى التاريخ حول هذا، أشهرها الهجوم اليابانى المفاجئ، على الأسطول الأمريكى، فى ميناء بيرل هاربور، فى هاواى فى السابع من ديسمبر عام 1941م، والذى كان انتصاراً تكتيكياً ساحقاً لليابانيين، والذى أدَّى إلى غرق أربع بوارج وأربع غواصات صغيرة، وسفينة تدريب وتضرَّر عدد من البوارج والمدمرات، وتدمير مائة وثمانية وثمانين طائرة، وتضرَّر عدد يقترب من هذا، ومصرع ألفين وثلاثمائة وخمسة وأربعين عسكرياً، وإصابة ألف ومائتين وسبعة وأربعين، مع عدد من القتلى والمصابين المدنيين.. وأدَّى إلى إعلان الولايات المتحدة الأمريكية الحرب على اليابان، فى اليوم التالى، الثامن من أغسطس 1941م.. وفى خضم ذلك الهجوم المباغت والعنيف، سيطر البعض على انفعالاتهم، ما مكّنهم من تكبيد قوة الهجوم بعض الخسائر … الخسارة كانت كبيرة جداً، ولكن العسكريين الأمريكيين تماسكوا أمام الصدمة، واستطاعوا استيعابها، ووضعوا خططاً بديلة، لإعادة بناء الأسطول، ورد الضربة لليابانيين.
ففيما بين الرابع والسابع من يونيو 1942م، وبعد أشهر قليلة من كارثة بيرل هاربور، واجه الأسطول الأمريكى نظيره اليابانى، فيما عرف بمعركة «ميدواى»، وأغرق كل حاملات الطائرات اليابانية أو أعطبها، على نحو غير قابل للإصلاح، ودمَّر خمس عشرة بارجة مساعدة، وأسقط مائتين وثمانى وأربعين طائرة حربية يابانية، وخمس عشرة طائرة مائية، وفى أغسطس 1945م، أسقط الأمريكيون قنبلتهم الذرية على هيروشيما اليابانية، وفى التاسع من نفس الشهر، أسقطوا قنبلتهم الثانية على ناجازاكى.. وانتهت الحرب، بهزيمة ساحقة لليابان..
التماسك والثبات الانفعالى هما من فعل هذا، لو طبقناهما حسب مفهموهما الصحيح.. والواقع أن أهم سمات حالة الثبات الانفعالى، السيطرة على المشاعر والنزعات الشخصية وهوى النفس، والاكتفاء بالتركيز على الحقائق المؤكَّدة وحدها، فرجال المخابرات مثلاً، فى العالم أجمع، يتم تدريبهم على إزاحة مشاعرهم الشخصية جانباً، ورؤية الأمور بعيون عملية فقط، لا مجال فيها للمشاعر والعواطف.. حتى الحماس يعد من الانفعالات القادرة على إفساد الحكم على الأمور تماماً؛ لأنه يعمل على توجيه العقل والفكر، فى الاتجاه الذى يمليه الحماس، وليس فى الاتجاه الصحيح.. ربما لهذا لا تقبل أجهزة المخابرات، على اختلاف أنواعها وانتماءاتها، المغامرين والمتحمسين، لأن كلاهما تقوده عاطفة، إيجابية كانت أو سلبية، تجعل حكمه على الأمور، وتعامله معها، ينحرف دوماً عن الاتجاه الصحيح، سواء يميناً أو يساراً، تماماً كما يحدث فى لعبة الشطرنج، يستحيل أن يفوز فيها الأكثر حماساً، أو الأكثر طيبة، أو حتى الأكثر إيماناً، وإنما يربحها فقط الأكثر براعة، والأكثر قدرة على السيطرة على مشاعره وانفعالاته، حتى النقلة الأخيرة، على لوحة الشطرنج، ولهذا يتعَّلم لاعب الشطرنج البارع، وحتى المقامر المحترف السيطرة على انفعالاته وملامحه، بحيث لا يستشف منه خصمه ما يدور فى ذهنه.. ففى حروب العقول، وحتى الحروب العسكرية، لو كشف العدو فيم تفكَّر، لأمكنه هزيمتك بسهولة وبلا رحمة..
ودعونا نعود إلى ذلك التغيير الذى حدث فى مجتمعاتنا، عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011م، والذى بدا واضحاً، على مواقع التواصل الاجتماعى، فالكل شعر بأنه قد تحرَّر، وصار بإمكانه التعبير عن نفسه فى حرية، وخاصة مع الشعار الذى رددَّته الثورة «عيش وحرية وعدالة اجتماعية»، وكما يحدث مع مراهق، خطا خطوته الأولى فى مرحلة الشباب، انقلبت الحرية إلى حالة من حماس اندفاعى انفعالى، وانهيار لكل القيم والأخلاقيات والآداب العامة، فاندفع الكل فى حالة مراهقة فكرية، يفرز كل ما اختزنه فى أعماقه من خوف مرضى لسنوات، فى كلمات بذيئة وعبارات هجومية شرسة، على كل من يختلف معه، متناسياً أن الحرية الحقة ليست فقط فى أن تقول ما يحلو لك، دون أن يحاسبك أحد، بل، وهذا هو الأهم، أن تحترم حرية من يعارضك أو يختلف معك، فى التعبير عن رأيه، الذى يخالفك ويناقض فكرك، دون أن تتهمه بشىء أو تهاجمه، أو تسعى إلى هدمه وتخوينه، فكما أنت حر، فهو أيضاً حر، هو لا يملك معاقبتك، أو الثورة على ما تقول، وما تعتنق من فكر، وأنت أيضاً لا تملك معاقبته، أو الثورة على ما يقول، وما يعتنق من فكر.. فلو أنك تنشد الحرية بحق، فالحرية خيط واحد، تمسكه أنت ومعارضوك من طرفيه، لا يحاول أحدكما جذبه إليه، حتى لا ينقطع.
ومن أعاجيب ما حدث، عقب ثورة 2011م، ظهور فئة تنادى بالحرية، بمنتهى دكتاتورية الفكر، وكأن الحرية يمكن أن تولد من رحم الدكتاتورية، والشهد يمكن أن يفرز من شجر الحنظل.. وما نشاهده، منذ تلك الفترة، وحتى يومنا هذا، على مواقع التواصل الاجتماعى، حالة من الغضب والكراهية، والنقمة، والثورة، على كل من يعارض فكر أو رؤية أى شخص، إلى درجة قد تبلغ حد السباب، والشتائم، والبذاءات، والأعجب أنهم لا ينالون شيئاً من كل هذا، ولكنهم يواصلونه، وكأن البذاءات إحساسهم بالضعف، والعجز وقلة الحيلة، ونقمهم على الدنيا؛ لأنها لا تسير كما يحلو لهم، والحياة لا تخضع لإرادتهم..
ولو راجعت ردود الأفعال والتفاعل، مع كل حدث كبير، يشغل الميديا، ستجد أن التفاعلات كلها تسير على وتيرة واحدة.. توجيه الاتهام وإصدار الأحكام، منذ اللحظة الأولى، ثم تصديق وتأييد كل ما يتفق مع الحكم الأوَّلى، حتى لو خالف العقل والمنطق، والرفض الشديد، على نحو هستيرى، لكل ما يتعارض مع ما أصدروه من أحكام، دون تحقيق أو تدقيق، أو معلومات مؤكَّدة، والغضب والثورة والهجوم الشرس، على كل من يقول أمراً يخالف حكمهم، حتى ولو كان مسئولاً رسمياً، لديه أدَّلة وبراهين مؤكَّدة، على كل ما يقول.. والكل فى المعتاد - من هذه الفئة - يصدق وينشر على الفور، كل ما يريد من مصادر مجهَّلة، ويرفض فى عصبية، المصادر الرسمية الأخرى، ويتهمها فوراً بأنها تحاول الخداع والتدليس، وأنها كاذبة ومنافقة وملفقة، وكأن المصادر المجهّلة وحدها الصادقة، على الرغم من جهله لحقيقتها وحقيقة نياتها، والغرض الحقيقى خلفها وعلى الرغم من أنه هو نفسه لا يملك دليلاً واحداً على العكس.. أولئك لا يمتلكون ذرة من الثبات الانفعالى، وغير مؤهلين أساساً لاستيعابه، أو التدرَّب عليه، فهم فى الواقع يعيشون فى سُبات معلوماتى، وكابوس صنعه غضبهم، ونسجته كراهيتهم، وغزلته نقمتهم، التى تكون أحياناً بلا سبب واضح أو منطقى.. أصحاب السُبات المعلوماتى هؤلاء، يظلون طيلة أعمارهم غاضبين ناقمين كارهين مكتفين بهذه المشاعر السلبية، التى تتعاظم فى أعماقهم، يوماً بعد يوم، ومستسلمين لها تماماً، بل وتشعر أحياناً أنهم يستمتعون بها، على نحو قد يستلزم علاجاً نفسياً؛ وكل هذا لأنهم عاجزون عن تغيير العالم من حولهم، ودفعه بكل ما عليه ومن عليه، إلى المسار الذى يريدونه، ولديهم شعور دائم، حتى فى وظائف يحسدهم عليها غيرهم، أنهم فاشلون فى تحقيق أى نجاحات حقيقية فى الحياة، ويعتبرون كل نجاح لغيرهم منسوبا للنفاق والخداع، والخيانة، والعمالة، ما يريح أنفسهم، ويغذى تبريرهم بأنهم ليسوا فاشلين، وإنما عظماء، لا ينالون النجاحات التى ينشدونها، لأن أخلاقهم ومبادئهم وحسد الناس لهم، كلها تحول دون هذا...
الطب النفسى يصف هذه الحالة بـ «البارانويا الاجتماعية»، ولكن أصحابها، على الرغم من انطباق كل الآراء عليهم، يرون أنهم أصح الأصحاء، ويرفضون فى شراسة اتهامهم بـ"المرضى النفسيين» هذا لأنهم أطلقوا العنان لكل مشاعرهم، وانفعالاتهم، وغضبهم، ونقمهم، وكراهيتهم، ومزجوا كل هذا باستنتاجاتهم المبنية على عوارض مرضهم، وقدمَّوا هذا المزيج، لأنفسهم قبل الآخرين، باعتباره الحقيقة المجرَّدة، التى لا حقيقة سواها، والتى عليهم الدفاع عنها والقتال من أجلها، بكل عنف وشراسة.
هكذا، فعلى الرغم من الحديث المستمر عن الثبات الانفعالى، بالصورة الشعبية البسيطة، صارت لدينا فئة كبيرة، تحيا فى حالة من السُبات الانفعالى والاجتماعى.. فئة عجزت عن معرفة الفارق الكبير، الذى يتركَّز فى حرف واحد.. حرف يصنع الفجوة الكبيرة، بين «الثبات.. والسُبات».