الجمعة 28 يونيو 2024

الملحمة والأسطورة فى «حرافيش» نجيب محفوظ

فن10-12-2020 | 21:04

تعد "الحرافيش" ملحمة صورها الأديب العالمي نجيب محفوظ على امتدادها الزمني والإنساني الذي طال عشرة أجيال، وهي رواية في ظاهرها السذاجة والأحداث العادية المكررة، وفي باطنها التعقيد والرمز لحقب تاريخية وشخصيات من الماضي والحاضر، تصلح لكل زمان ومكان لأنها ترسم ملامح النفس الإنسانية، وتصور صراعاتها الداخلية والخارجية وحيرتها ونزاعاتها ورغباتها، في عشر حكايات متشابكة تتفرع من الحكاية الأولى، وكل حكاية تتوزع في مقاطع تتدرج بين الطول والقِصر، الوضوح والغموض، الإيجاز والإسهاب.


وتقول الكاتبة سناء شعلان، في كتابها "الأسطورة في روايات نجيب محفوظ"، إن الأديب العالمي حقّق استلهاما للأسطورة في رواياته تميزا لخطابه الروائي، بل وللخطاب الروائي عامة، وهذا الاستلهام لم يتم بمعزل عن حركة الثقافة العربية، والواقع العربي، بل هو استلهام يمكننا القول إنه يتعاطى رسم الواقع، ولكن بخطاب أسطوري، يميل مباشرة إلى الواقع، ويفصح عن معايبه ومثالبه، ويمجد ثوراته وانعتاقه من أغلاله.


وتؤكد سناء شعلان، عبر صفحات كتابها، على أن: "هذا النزوع الأسطوري عند نجيب محفوظ جاء في وقت تجلت بواكير اتجاهه في الأدب المسرحي الذي اتكأ كثيرا على الأسطورة، جزئيا أو كليا ليقدم منتجا مسرحيا وفق الحاجة الحضارية أو الجمالية للثقافة العربية، تلك الحاجة التي وجدت مبتغاها أخيرا في الجنس الروائي الذي تشكل ظاهرة النزوع الأسطوري فيه حضورا قوي الدلالة لتحولات الحركة الثقافية العربية، ولاستجابة الرواية العربية لهذه التحولات".

 

وجلال عبد ربه، الفتوة الأسطوري ذو الأفكار والأفعال غير التقليدية، في "جلال صاحب الجلالة"، الحكاية السابعة من ملحمة الحرافيش، وأبوه فران سكير، وأمه زهيرة الطموحة الجميلة، التي قتلها أحد أزواجها السابقين على مرأى من ابنها الطفل، لتنتهي حياتها الحافلة بمزيج معقد من الفتنة والإغواء والصعود.


وينغرز مشهد القتل المأسوي في أعماق جلال، وتتزايد حدة أزمته النفسية عندما يواجه النداء الذي يعايره به رفاق الكتاب، بـ"ابن زهيرة"، من أجل ذكرى أمه، ودفاعا عن كرامته وكبريائه، يخوض، جلال المعارك منذ الصغر، وعندما يشرق الحب في سمائه المتجهمة، يتدخل الموت سريعا لينتزع عروسه قبل الزفاف، ومن هنا يتحول الموت إلى عدوه الأول.

 

ويرتفع جلال إلى مقام الفتونة بقوة خارقة مفاجئة، ويحوز من الثروة ما يتجاوز به كل غني من أثرياء الحارة، ثم تبدأ رحلة البحث عن الخلود، ةليست السعادة عنده أن تعمر طويلا وتنعم بشيخوخة هادئة، لكنها في الحياة بلا فناء، وبمساعدة من المعلم عبد الخالق العطار، يصل جلال إلى مؤاخاة الجن عن طريق شاور، الشخصية الغامضة الخفية التي لم تقع عليها عين.!

 

وفي دراسة بعنوان "توظيف السيرة الشعبية في الرواية العربية" للباحث لواتي وردة، يتحدث عن اقتباس الهيكل الفني العام للسيرة الشعبية في رواية الحرافيش: "إن المتصفح للسيرة الشعبية والمطلع على خصائصها يتبين له للوهلة الأولى من حيث الشكل ضخامة متنها، الذي قد يتعدى الخمسة ألاف صفحة، كما ينقسم إلى عدة أجزاء، وكل جزء مستقل بعنوان خاص به، ورغم هذه الاستقلالية في العناوين فإنها تبقى دائما تعبر في الإطار العام للعنوان الرئيسي بمعنی أنها تشكل وحدة حكائية تتحدث عن مرحلة مراحل حياة بطل السيرة بكل أفعاله وأقواله ومواقفه، وتفاعله مع القضايا المختلفة، التي قد تضطره في غالب الأحيان إلى ترك المكان الذي نشأ فيه لحاجة أخلاقية أو إنسانية قد يحقق من خلالها غاية معينة، وعادة ما تكون هذه الأخيرة مرتبطة بالقيم الأخلاقية والاجتماعية.


وإذا كانت الملحمة تركز على البطل المتفرد، فإن السيرة تكرس تعدد الشخصيات فتتعدى إلى شخصيات مختلفة يكون دورها متكامل في السيرة، بحيث يسلط الضوء على كل شخصية من حيث أفعالها وأقوالها، وفي هذا الصدد اتساع المكان والزمان أمر لا مناص منه، ولو أمعنا النظر في رواية ملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ لالتمسنا حضور هذه العناصر السابقة الذكر.

 

هذا ويرى العديد من الباحثين أن نجيب محفوظ قد تأثر في فترة أعقبت ظهور رواية " أولاد حارتنا " بالسيرة الشعبية "ألف ليلة وليلة" حيث أثرت بشكل من الأشكال في رواية "ملحمة الحرافيش"، وبشكل واضح للعيان في رواية "ليالي ألف ليلة"، والتي جاءت بعدها بفترة، حيث وظفت حكايات ألف ليلة وليلة بكل خصائصها في بناء هذه الرواية.


وأيد هذا الطرح محمد ریاض وتار، حيث يرى أن ملحمة الحرافيش تتشابه والشكل العام للسيرة - ويقصد ألف ليلة وليلة - من حيث ضخامة مدتها وكثرة شخصياتها، وتعدد أمكنتها وامتداد زمانها وانقسامها إلى عدد من الأجزاء، يحمل كل جزء عنوانا.


ولكن يظهر أن الاختلاف بينهما يكمن في اختلاف زاوية الرؤية لكليهما ، إضافة إلى ما يحمله كل عصر من مفاهيم تتعلق بالفترة التي كتبت فيها،  هذا إضافة إلى أن عنوان الرواية بحد ذاته يأخذنا إلى عالم الأسطورة، وذلك من خلال اختيار نجيب محفوظ لاسم "ملحمة"، حيث ترى الباحثة سناء شعلان في كتابها "أنه يوحي بحضور قيم اجتماعية أو دينية أو وطنية" وذلك من خلال حضور بطل حقيقي أو أسطوري يجسد أفعالا عجيبة وحوادث تتجاوز المألوف لتمتد إلى ما هو خارق للعادة.


ويتضح هذا جليا من خلال التوظيف الضمني للحدث الأسطوري المتمثل في الطوفان ببعده الأسطوري، حيث أسقطه على أحداث حكاياته وعلى بطله عاشور الناجي الذي يفترض فيه أنه رجلا تقيا، الذي يأخذ بأبناء حارته الحرافيش الصالحين إلى النجاة، فنجيب محفوظ يجعل العلاقة قائمة بين الرمز الأسطوري -عاشور الناجي من خلال رحلته- وبين الخلاص الذي يأمل فيه المهمشين في الأرض.


وأما عن توظيف شخصية بطل السيرة الشعبية في رواية ملحمة الحرافيش فمن البديهي جدا أن تكون شخصية رواية ملحمة الحرافيش تحاكي شخصية بطل السيرة الشعبية ألف ليلة وليلة، وذلك ما يحقق حضور العناصر التراثية في روايته التي تقارب الشكل العام للسيرة الشعبية، فلا ضير أن يكون العمل متكاملاً من خلال اختيار الشخصية التي تتواءم والبنية التكوينية للسيرة الشعبية، وقد يتضح الأمر ويتجلى من خلال رصد المراحل النموذجية لنشأة بطل السيرة الشعبية.


وبناء عليه، حاول نجيب محفوظ اختیار شخصية عاشور الناجي بحيث تحمل في ملمحها العام صفات بطل السيرة الشعبية، التي طالما عمل جاهدا على توظيف عناصرها، ولعل شخصية البطل تعد من أهمها لأنها بمثابة الروح للجسد، فإن وفق في اختيار شخصية البطل فإنه يمنح هذا الجسد الذي هو الرواية - نفسا جديدا، يذهب به بعيدا ويكاد يتفق النقاد على أن شخصية عاشور الناجي في رواية ملحمة الحرافيش تنطبق عليها صفات شخصية بطل السيرة الشعبية إلى حد بعيد، خاصة وقد كرس السرد كل عنايته به من أول حكاية إلى أخر حكاية، وإن كان بنسب متفاوتة فهو يبقى المحور الأهم في الرواية.