السبت 1 يونيو 2024

"إصرار دون ترصد" قصة لـ"أسماء حسين" من مجموعة "فسحة بويكا"

فن12-12-2020 | 18:23

تنشر بوابة "الهلال اليوم"، قصة "إصرار دون ترصد"، للكاتبة أسماء حسين، من مجموعتها القصصية "فسحة بويكا" الصادرة عن دار فصلة للنشر والتوزيع في طبعتها الأولى يناير 2018.


إصرار دون ترصد

-"لا يا حلوتي أنتِ لي، وهي لتربي أطفالها فقط، سأراك الليلة، لن يأتوا قبل ثلاثة أيام."

لم يقتصر الأمر على الثلاث ليال تلك فقط مطلقًا.

كل ليلة يتسلل إلى غرفتها بمكر من دون علم الجميع، يتسلل إليها هي نفسها أو ينتزعها عنوة ويقضي مآربه ثم يلقي بها مجددًا كالدمية إلى فراشها، أحيانًا يتسلل إلى السطح، المطبخ، وحتى إلى طفولتها ذاتها، صار كالضباب الذي يتسرب حولها في كل مكان ليخنقها تمامًا ويطاردها في كل زاوية ولحظة من حياتها.

في كل مرة يتقدم لخطبتها أحدهم لا يتعاقب يوم إضافي على قدومه قبل أن يرحل حاملًا معه الرفض. وفي كل مرة تتأخر دورتها الشهرية ترتعب من كل الكوابيس المزدحمة بالأطراف المدببة الحادة التي تنغرس فيها خلال نومها، والتي تصبح مع الوقت روتينًا يشبه تناول الشاي ليلًا في حياتها أو ابتلاع أقراص التعطيل، كوابيس صغيرة تشبه جرعات شاي متقطعة خلال كابوس طويل هو حياتها نفسها الآن.

الليلة، كانت الأحزن على الإطلاق، تلك المرة أيضًا كان الجواب بالرفض الحاضر في الحال، إلا أن قلبها في هذه المرة تفتت؛ لأنها بحسب ما تدرك بمشاعر فتاة يافعة تفتحت مشاعرها أخيرًا بعد عمر طويل من تفتح جسدها عنوة، كانت تحب.

الليلة نفسها تسلل إلى غرفتها من جديد، وأشبعها بالصفعات عقابًا على ما أبدت له من حزن ظاهر، ثم بدأ في تمزيقها من جديد، كما يمزقها كل ليلة، كل يوم، كل حين، جسدًا وروحًا، ويلقي بها في النهاية كخرقة بالية تتمنى الموت تحت أول قدم تطأها من أجل النجاة للأبد.

هذه الليلة كان يترنح من الوهن رغم فظاظته ويقارب على الغثيان، قبل أن يسقط بارتطام مكتوم الدوي إلى جوار جسدها وتتنفس الصعداء في رجفة.

خلال ذلك الصباح أتت بالقهوة كعادتها، وفي طريقها لمناولته إياها توقفت يدها في الهواء فلحق بنظرها المركز على ياقته المفتوحة التي أظهرت بقعتين حمراوين تشوبهما الزرقة في عنقه من أثر أظافر معادية، بينما تابع هو تحديقه فيها بنظرات مفزعة. خلال ثوانٍ ممتدة لم تناوله القهوة يدًا بيد، اكتفت بوضعها على المنضدة القريبة وهي تخفي رعشة يديها، واندفعت للإختباء في القبو الذي شهد موتها لسنوات عديدة دون أن يصدر أدنى رائحة عن تكوم روحها فيه. كانت تلك إحدى اللحظات النادرة التي تشعر فيها بأن غرفتها البغيضة ملاذ ومهرب.

أحضرت طاقم الأدوات الحادة التي أعدتها مسبقًا لمهمة الليلة من دولابها، وبدأت العمل في هدوء من اكتفى من الصخب وكف أخيرًا عن المعاناة منه. استمر عملها المتقن حتى الصباح، كانت حريصة على إتقانه تمامًا وتجد متعة غريبة في إكمال لوحتها. هكذا أحسنت صنيعها الأخير تمامًا، وودّعت القبو الذي ظلت وفية له طويلًا بأن أهدته جثة أخرى، جديدة.

وجلست برفق في إنتظار الآخرين لمساعدتها على الخروج من القبو، أخوتها الذين سيصمّون آذانها بالصراخ، وأمها التي ستتهمها بالجنون وهي تحول والدها إلى فصوص من اللحم بعد قتله، والغرباء الذين سيتقززون من فعلتها ويدينون ضميرها، وأفراد الأمن الذين سيضعون الأغلال في يديها بينما هي تبتسم بصورة لن يتمكن من تفسيرها الجميع، تشعر لأول مرة بالحرية والآدمية، كما لم تشعر من قبل. بينما تسير وسط كل اللعنات غير مضطرة لأن تفسر الأمر لأحد.