الثلاثاء 14 مايو 2024

هاني نسيره يكتب: مانيفستو مقترح لقتل الإبداع وليس لحماية الثوابت النسبية

فن13-12-2020 | 16:26

تجاهل لتاريخ الأدب وتطوره ويعيدنا للخوف من الحرية.!

وهل يكون الإبداع إلا عبورا وتجاوزا وصداما يسائل ما لا نسائل.


اطلعت مؤخرا على بيان، أو مانيفستو، يطمح إلى وضع ضوابط وقواعد للإبداع وحرية التعبير، تتجاوز ما عرف واستقر من تاريخ الأدب العربي والإسلامي، أو تاريخ الأدب العالمي، يحاول وفقط تكميم طاقة المبدع وتقييدها، ووضع الحواجز والسدود والمخاطر أمام عينيه.

جاء هذا البيان بتوقيع  الأساتذة البيومي محمد عوض‏ مع ‏اشرف رزق البيومى‏ و‏48‏ آخرين، اطلعت على نسخة منه، منظور ديني وهوياتي ضيق، يحدد حبائس للمبدع والإبداع، ويضيق من حريته وحرية التعبير عموما، رغم أن الطلب الذائع وسط النخب- الفكرية والإبداعية والسياسية- بمختلف توجهاتها هو على الحرية وليس على الخوف والتعصب.


بداية مقبولة وانعطافة تلغيها:

 جاءت ديباجة البيان المذكور بما نتفق عليه، خاصة في مجال الإبداع الأدبي والعلمي، وضدا على التفتيش ومحاكمه، فيقول في ديباجته "يؤكِّد الميثاقُ على أنَّنا -نحنُ كاتبِيهِ- نقِفُ - بانحيَازٍ كَامِلٍ-  في صفِّ حريَّة الإبداعِ والتَّعْبِيرِ، وتبْجِيلِ قيَمِ التَّسَامُحِ والتعايشِ والتَّأوِيلِ والمَجَازِ إِلى أبعَدِ مدًى، وأنَّه مِن حقِّ كلِّ كلِمَةٍ أن تعلِنَ عن ذاتِها، وأن تُدَافِعَ عَن مَوقِفِها، وألَّا تُضْطَهدَ بأيِّ شكلٍ من أشكالِ الاضطِهَادِ، أو تُقمَعَ بأيِّ صُورَةٍ مِن صُوَر القَمْعِ، إن مُطَارَدَةً، أو مُصَادَرَةً، أو تكمِيماً، أو مُعَاقبَةً .. فللكلِمةِ كلُّ هذهِ الحقُوقِ المكفُولَةِ لهَا بقوَّةِ كرَامَةِ الوُجُودِ الإنسَانِيِّ، وبقوَّةِ الحريَّةِ المسئُولةِ الرَّاشِدَةِ، وبقوَّةِ حَقِّ الاختلَافِ باعتبارهِ تجلِّياً من تجلِّيَّاتِ الحِرَاكِ العقلِيِّ الناهِض المُستَنِدِ إلَى متغيِّرَاتِ البِيئَةِ والثَّقَافَةِ والأعرافِ الاجتماعيَّةِ والدّيالكتِيكِ الإنسانيِّ الداِئمِ في رحلةِ تأمُّلهِ الكادحَةِ لذاتِهِ والحيَاةِ والأشيَاءِ، استِبصَاراً للحَقِيقَةِ المكنُونَةِ فِيها، وانحِيازاً إلى جَوْهَر التَّجَلِّي البشريِّ القَابِع خلفَ حُجُبِ الكِفَاحِ والمُعَانَاةِ والهِجرَةِ الدَّائِمَةِ صوبَ النُّورِ الأَعظَمِ، والسَّكِينَةِ العُلْيَا..!  " هكذا نتفق.

ولكن سريعا ما ينزوي ويعود كتاب البيان/  الميثاق  المقترح والموقعون عليه لدوائر الهوية والخوف، ملحين على انتمائنا للأمة المسلمة- هل يشمل ذلك مثلا غير المسلمين من الأديان الأخرى، او اللادينيين- ويضع شروطا ثلاثة مقدسة على المبدع أن يقترب منها هي مسألة الله ومسألة الأنبياء ومسألة الوطن الذي يتسع به البيان المذكور للأسرة وقيمها وثوابتها وما شابه.

في مسألة" الله" يلح البيان على هواجسه ومخاوفه وتهديداته بكل إبداع يقترب منها، فيقول إن أي تناول لها أو تماس- يبدو خارجا- معها يجعل "  الحريَّةَ هُنا تنتقِل مِن مربَّع التَّعبِيرِ، إلى مُرَبَّعِ الكُفْرِ، والميثَاقُ يرفضُ هَذا أشدَّ الرَّفْضِ؛ لأنَّ الكفرَ تخريبٌ وهدمٌ لعقيدَةِ أمَّةٍ، اختارَتْ أن تُسْلِمَ وجهَها للهِ، ولأنه أيضاً إعلانٌ بالحَربِ علَيها في أغْلَى مقدَّسٍ لدَيها، وهُو إيمانُها بربِّها الَّذي خلَقَها فسوَّاها، وأخرَجَها من الظلمَاتِ إلى النُّور إذ بعثَ فِيها رَسُولاً هَادِياً ومُبَشِّراً ونَذِيراً، بكِتَابٍ هُو الفصْلُ والبُرهَانُ والمِيزَانُ والقِسطَاسُ المُسْتقِيمُ! ".


ظلامية مسبوقة ووعي مقطوع:

التكفير الديني لم يكن عائقا في مسار النهضة غربيا وعربيا...

الانغلاق الأيديولوجي والتحزب ونفي قيمة حق الاختلاف وفق شروط مسبقة ضد كنه وهوية الإبداع نفسه...لن يأتي ولن يخرج إبداع حددت شروطه سلفا وقيوده مسبقا..

إن اشتراط الشروط على التعبير هي قاتلة حرية التعبير نفسه في كل عصر، ولكن استطاع الإبداع والمبدعون في كل زمن تجاوزه والانتصار عليه، سواء في حياتهم أو بعد مماتهم، لذا يجعلني هذا البيان- الذي كتبه مبدعون ومنتسبون للأدب-  استرجع لا وعيا وأرى من كفروا نجيب محفوظ وفرج فودة ونصر أبو زيد وقبلهم جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده يعودون من جديد!! اختلفنا مع بعض ما طرحوا أو اتفقنا...

إن هذا المنطق، هو المنطق نفسه الذي وقف ضد كل تجديد فكري أو أدبي في عالم العرب الحديث، كان مضمون الحجة في مواجهة مدرسة كالديوان للعقاد وشكري والمازني، كان مضمون الحجة في مواجهة رفاعة الطهطاوي وطه حسين ومحمد عبده، كانت حجة من حرموا تدريس ابن سينا وابن خلدون في الأزهر في القرون السالفة حتى استطاع الأستاذ الإمام وغيره فرض ذلك.


الخوف على العقيدة..ولكنها لا تخاف:

قد يكون صادما أن يعرف البعض أن شاعرا إسلاميا ومفكرا مجددا ك محمد إقبال لم يكن يرى في القصص القرآنية سوى نماذج للتأثير والقصص غير التاريخي، بمعنى أنه يتفق مع من اتهموه بإنكار وجود نبي الله إبراهيم عليه السلام وعلى نبينا  الكريم، ولكنه اجتهاد، وكان إقبال نفسه يرى أن العقيدة التي لا تتحمل النقد والسؤال المستمر لا تستحق الاعتقاد كما قرأت في سيرته، بمعنى أن العقيدة ينبغي ألا تخاف مهما ادعى المتعلقون بها والخائفون عليها.

 الخوف على العقيدة، أو على الهوية ليس هو الخوف على البكارة، فالحضارات والآداب تراكمت منجزاتها، والعالم في ثورة معلوماتية وشبه معرفية ولا أقول معرفية تتشظى فيها كل مقولات الأفكار والأيديولوجيات، وسالت البنى في مناطق وتجمدت وتبلورت في مناطق أخرى، فالكل حاضر ولا حل إلا الحوار والقبول والتعاطي الإيجابي غير الاتهامي.


حجج تتجاهل التاريخ والتطور الأدبي:

وكأن هذه الثقافة التي امتدت وتعمقت إسلاميا أربعة عشر قرنا في مختلف بلدان العالم- وليس العربي فقط- وآلاف أخرى في عمق التاريخ، ستهددها نفثة شاعر أو زلة مبدع أو مبدعة رآها ورصدها راصدوه من حراس العقيدة التي يضرون بها، فالبربهاري وقاتلوا الطبري ومحاكموا ابن رشد وقاتلوا ابن المقفع هم محطات عار في تاريخنا وتراثنا الثقافي والفكري وليسوا محطات فخار.


تراث من التماس مع المسائل الثلاث:

رغم أني لا التمس التراث وأدلته في التبرير لمبدع أو أديب ما يقول، فأنا- لو فعلت ذلك- اقيده هنا أيضا بهذا التراث، وإطاره ملكه بتراثاته التي عرفها وإنسانيته التي لامها، خاصة مع ثورة الفنون ووسائل التعبير، فنا وصورة وكتابة ودراما وسينما، تلامس وتكشف كل ما قد نخشى في تقليدنا ان نكشفه، إلا أني استأنس مع البيان ذي المرجعية الواضحة الثابتية، أن يستحضر بعضا من تاريخ هذه المرجعية التي اتسعت لكل الأغيار ولكل ما هو أخطر، حين اكتشفت العالم فكانت فيه وتفاعلت معه ولم تنعزل عنه، فلم تنعزل إلا أوقات الهزيمة وقمع الحريات، لتتحول في واقعها وآدابها أسجاعا بلا معنى تردد ما يطلبه المستمعون.!

ولكن أشتبك مع ما وضعه كاتبوا البيان المقترح ميثاقا، وكلهم محل تقدير ومحبة تؤمن حقيقة بحق الاختلاف وواجب الاعتراف، أن هذا المنطق الذي يلتمس الدفاع عن المقدسات والدين،  يتجاهل تاريخهم الحضاري وسماحة الدين نفسه في منطقتنا، وتاريخ آدابنا التي تحملت أكثر مما يتحمل أصحاب البيان أو الميثاق- أضعافا مضاعفة.

    Dr.Radwa
    Egypt Air