فن14-12-2020 | 11:46
تنشر بوابة «الهلال اليوم»، قصة " فُسحة بويكا "، للكاتبة أسماء حسين، من مجموعتها القصصية "فسحة بويكا" الصادرة عن دار فصلة للنشر والتوزيع في طبعتها الأولى يناير 2018.
فُسحة بويكا
تمامًا تحت مطبخي، تكون غرفة نوم جاري، ممنوع أن یصدر مني أي صوت مزعج، ممنوع أن تحتك الصحون ببعضها، ممنوع أن تتحرك الملاعق والشوك والسكاكین كثیرًا، ممنوع أن أزیح الكرسي محدثة جلبة، ممنوع أن أفتح الثلاجة بقوة، كل شيء ممنوع عندما یعود ذلك الجار من عمله. إنه مجنون تمامًا، وفي هذه البنایة یجب احترام المجانین. هذه مثلًا حكایة لا تعجبني، ذات مرة قمت بتقطیع اللحم فسمعت ضجة مرعبة تحدث تحت قدمي، عرفت أنه قد سمع صوت التقطیع، فوقف على الكرسي ودقّ السقف بعصا المكنسة، كان ذلك غیر طبیعي!.
ومنذ أكثر من سنة أعیش في هذا المكان وأتابع جنونه، وفقط الیوم التقیت به، كان خارجًا من شقته، ورأیت أكداس البرید في مدخل شقته المضاءة، وابنته الصغیرة التي لم أعرف كیف یبدو صوتها یومًا، تتبعه في صمتها المعتاد.
ولم ینظر إليّ حتى، كان یجر حقیبة سفر كبیرة، ظننت أنها تخصه، وانتابتني سعادة غیر مبررة فجأة، عرفت فیما بعد أنها كانت تخص ابنته الصغرى التي كانت آخر ما بقى معه من عائلته قبل أن تغادر معسكره الصارم لتطیر بدورها بعیدًا. تركت المصعد له وعدت إلى البیت بسرعة، شغلت أغاني بویكا بصوتٍ عال وبدأت بجلي الصحون وخبطت الأرض بدون قلق وكأنني أحتفل بحریتي لأول مرة.
وبعد مرور بضعة أیام وجدت أصحاب البنایة یخلون الشقة من أثاثها وعربة مألوفة یحمل البعض إلیها جسدًا ملفوفًا بعنایة، كانت جثة ما، جثة على ما یبدو أن الجار المتعصب كان یمضي أیامه في رعایتها، دون أن یملك صلة ما تكفل له حق وداعها الآن مع من یحملونها! حیث فتّشت بعیني بین الجمیع دون أن أرى أثرًا له.
وبعد ذلك الیوم صرت أستمع بحریة إلى كل أغنیات بویكا وأستخدم السكین متى شئت، وبأملٍ یشوبه ذلك الحزن الذي أجد فیه غرابة كبیرة، كنت أرهف السمع في الكثیر من اللیالي إلى أرضیة المطبخ كلما أصدرت ضجة ما، منتظرة أن تأتیني بعض الخبطات الغاضبة السریعة من أسفل قدمي، لكنها لم تأت مجددًا أبدًا.