الأربعاء 29 مايو 2024

ابن البيطار.. بناء الحضارة من رماد الحروب

أخرى17-12-2020 | 13:23

كانت هزيمة الموحدين سنة 609 هـ بالأندلس في معركة العقاب، إيذانًا بانهيار هذه الدولة القوية، والذي جاء مروعًا وسريعًا، فقد اشتد الهجوم عليها من الإسبان خارجيا في الوقت الذي زادت فيه حدة الثورات الداخلية المتكررة، وتطلع المسلمون في الأندلس لزعامة جديدة تلملم شتات دولة الإسلام التي تمزقت في الأندلس، في ظل تخاذل حكام الموحدين، وفي هذه الفترة برز نجم قائد جديد وهو ابن هود الذي أعلن أنه سيقوم بتحرير الأندلس من نير الموحدين وعدوان الصليبيين، وسيعمل على إحياء الشريعة وذلك سنة 625هـ.

ونظرًا لأن العصر كان مليئًا بالأهواء والفتن والمطامع، فلم يجد هذا القائد الجديد الطريق سهلاً أمامه، فقد كان هناك العديد من الزعماء المنافسين لابن هود، أخطرهم وأشدهم ابن الأحمر في جنوب الأندلس، والذي كان أشد على ابن هود من الإسبان أنفسهم، ودخل في حروب متكررة ضد ابن هود من أجل زعامة الأندلس، وهذا الصراع الداخلي استفاد منه الإسبان على أفضل ما يكون، حيث أخذ فرناندو الثالث ملك قشتالة في التحضير لضربة قوية ومؤلمة لدولة الإسلامية في الأندلس.

وكان الحال كذلك في معظم أراضي الدولة الإسلامية غربا وشرقا ففي مصر والشام والحجاز واليمن كانت هذه الأقاليم في أوائل القرن السابع الهجري في أيدي الأيوبيين أحفاد صلاح الدين الأيوبي، ولكنهم لم يكونوا على شاكلته فتنازعوا الحكم فيما بينهم، وقسَّموا الدولة الأيوبية الموحدة إلى ممالك صغيرة متناحرة.. فاستقلت الشام عن مصر، واستقلت كذلك كل من الحجاز واليمن عن الشام ومصر.. بل وقسمت الشام إلى إمارات متعددة متحاربة.. فانفصلت حمص عن حلب ودمشق.. وكذلك انفصلت فلسطين والأردن، وما لبثت الأراضي التي كان حررها صلاح الدين من أيدي الصليبيين أن تقع من جديد في أيديهم بعد هذه الفرقة.

في هذه الفترة التاريخية المتوترة والتي يغلب عليها الحروب وانكسار العرب، ولد ابن البيطار في مالقة، على الساحل الأندلسي 593 هجرية، وهو ضياء الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد المالقي النباتي، ولظروف الحروب التي قدمنا لها كان كثير الترحال، وقد مات في دمشق عام 646 هجرية.

والمتتبع لسيرة ابن البيطار وعصره يتعلم درس في غاية الأهمية، وهو أن العلماء -بالمعنى الحديث للكلمة وليس المعنى الفقهي - هم بناة الحضارة حتى لو من رماد الحروب.

نشأ ابن البيطار في كنف عائلة من العلماء، وكان أبوه بيطريا وإليه يعود لقبه "ابن البيطار" وهو ما زرع في داخله حب الاطلاع والمعرفة.. قضى حياته متنقلا في رحلة طويلة بين الأمصار للبحث عن النباتات الطبية ومشاهدتها بنفسه والتيقن منها، كانت إشبيلية أولى محطاتها حيث أخذ عن علمائها كأبي العباس النباتي المعروف بابن الرومية وعبد الله بن صالح "أبو حجاج.

 وغادر الأندلس وهو في العشرين من عمره نحو سبتة في المغرب ثم إلى قسنطينة وتونس وطرابلس، وبلغ سنة 1224 آسيا الصغرى قبل أن ينتقل إلى سوريا ومصر حيث قضى وقتاً طويلاً، وفي مصر دخل في خدمة الملك الكامل الأيوبي، الذي عينه رئيساً على سائر العشابين، وبعد وفاة الكامل، ظل في خدمة ابنه الملك الصالح نجم الدين الذي كان يقيم في دمشق.. ومن دمشق شرع ابن البيطار في دراسة النباتات في الشام وآسيا الصغرى بصفته طبيباً عشاباً.

وتقول الباحثة المغربية حليمة غراري مؤلفة كتاب "بناة الفكر العلمي في الحضارة الإسلامية": "إن ابن البيطار يعتبر أعظم عالم نباتي ظهر في القرون الوسطى ومن أكثر العلماء إنتاجا، درس النباتات وخواصها في بلاد واسعة، وكان لأبحاثه الأثر الكبير في تطور هذا العلم.. وهو أول عالم اهتم بدراسة الحشائش التي تضر بالمحاصيل وصنفها حسب كل محصول إضافةً إلى اهتمامه بالنبات، اهتم ابن البيطار بدراسة الحيوانات البحرية والبرية، وذكر فوائدها في معالجة الأمراض، وهو بذلك يعد من كبار علماء علم الحيوان".

 كما كان ابن البيطار من أعظم الصيادلة، ويقول سيد حسن في كتاب "العلوم والحضارة في الإسلام": "إن ابن البيطار أعظم عالم مسلم في علمي النبات والعقاقير، وقد طغت سمعته الواسعة على جميع الصيادلة في القرون الوسطى، وبدون شك، فهو أعظم صيدلي منذ عصر ديسقوريدس حتى العصر الحديث".. ولم يقتصر ابن البيطار على استخلاص الأدوية من الأعشاب الطبية، بل استخرج كثيراً منها من الحيوانات والمعادن.

يعتبر كتابه "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية" والمعروف بـ"مفردات ابن البيطار" من أنفس الكتب النباتية وأشهرها.

ويذكر الدكتور أحمد عيسى في كتابه "تاريخ النبات عند العرب" أن ابن البيطار جمع فيه كل ما بلغه من تصانيف الأدوية المفردة ككتاب الغافقي وكتاب الزهراوي وكتاب الشريف الإدريسي الصقلي وكتاب المنهاج لابن جزلة والحاوي للرازي والمرشد للتميمي وفصل الخطاب للتيفاشي وكتب ابن باجه وإسحاق بن عمران وابن ماسويه وأبي حنيفة الدينوري وابن زهر وغيرهم.

 واستوعب فيه جميع ما في كتاب الأفضل لديسقوريدس في كتب أرسطاطاليس، وأبقراط، وأوريباسيوس، وروفس، وفولس الأجانيطي وغيرهم؛ ثم ألحق بقولهم من أقوال المحدثين في الأدوية النباتية والمعدنية والحيوانية ما لم يذكره غيره وشاهده بنفسه في مختلف البلدان، وعلى اختلاف الأسماء من بربرية وعجمية ولاتينية وفارسية.. وقد استقصى فيه ذكر الأدوية المفردة وأسمائها وتحريرها وقواها ومنافعها، وبين الصحيح فيها وما وقع الاشتباه فيه.

 وقد ضمّن كتابه شروحاً مفصَّلة لأكثر من 1400 دواء منها 300 دواء جديدا من ابتكاره الخاص، كما بين فيه الخواص والفوائد الطبية لجميع هذه العقاقير وكيفية استعمالاتها كأدوية أو كأغذية.

 واستخدم ابن البيطار التصنيف حسب الحروف الأولى للنباتات، فباب حرف الصاد، على سبيل المثال، يضم أسماء النباتات التي تبدأ بهذا الحرف، وهكذا، وساعد هذا التصنيف الأبجدي على تحويل موسوعته إلى مرجع وأصبحت نموذجاً لأسلوب الكتابة الأكاديمية حتى أيامنا هذه وقد ظلت موسوعته هذه مستعملة إلى بدايات القرن الثامن عشر بعد ترجمتها إلى العديد من اللغات.. وفي اللغة العربية طبع كتاب الجامع عام 1874 في مصر ونشرته دار صادر في بيروت 1980.

كما وضع ابن البيطار العديد من المصنفات الأخرى منها كتاب "المغني في الأدوية المفردة" وهو يلي كتاب الجامع من حيث الأهمية، ويقسم إلى عشرين فصلاً، ويحتوي على بحث الأدوية التي لا يستطيع الطبيب الاستغناء عنها، ورتَّبت فيه الأدوية التي تعالج كل عضو من أعضاء الجسد ترتيباً مبسطاً وبطريقة مختصرة ومفيدة للأطباء ولطلاب الطب، ويوجد منه العديد من النسخ المخطوطة.

 وقد اتبع ابن البيطار منهجا علميا يقوم على الملاحظة والتجربة وعدم الأخذ بما وصله من معلومات شفاهية أو مكتوبة قبل إثباتها بالتجربة وشرح هذا المنهج الذي اتبعه في أبحاثه فيقول: "… ما صحَّ عندي بالمشاهدة والنظر، وثبت لدي بالمخبر لا بالخبر أخذتُ به، وما كان مخالفاً (...) للصواب نبذته ولم أعمل به".

لقد أسهم ابن البيطار في تطور الحضارة البشرية من خلال علوم النبات والصيدلة والطب إسهاماً عظيماً باكتشافاته العلمية الهامة، ومؤلفاته التي تركها خير برهان على تفوقه ونبوغه، مما جعله يرقى إلى مصاف كبار علماء العرب والمسلمين الذين أغنوا المكتبة العربية والعالمية ببحوثهم ودراساتهم القيّمة.