الثلاثاء 21 مايو 2024

«طريق العودة».. قصة لـ أسماء حسين من مجموعة «فسحة بويكا»

فن21-12-2020 | 10:38

تنشر بوابة «الهلال اليوم»، قصة "طريق العودة"، للكاتبة أسماء حسين، من مجموعتها القصصية "فسحة بويكا" الصادرة عن دار "فصلة" للنشر والتوزيع في طبعتها الأولى يناير 2018.


طريق العودة


ما أذكره جیدًا، عندما كنت صغیرة، كم كان أهلي یخافون عليّ كثیرًا، كنت أضیع أكتر من مرة في الیوم، بل أكثر من مرات، أضیع في الشوارع والأسواق وعلى شاطيء البحر وعند مراسي المیناء، وبین السیارات وواجهات المباني والأرصفة، وفي آخر النهار، كان الغرباء یجدونني غارقة في البكاء على الرصیف، یمسكونني من یدي الصغیرة وتتوالى أسئلتهم الحانیة عني، كانوا یمنحونني الكثیر من الحلوى والبرتقال كي یُسكتوا بكائي المرتجف وأظل أحكي لهم ببراءة عن اسمي وأین أسكن ومن هم أهل داري؟، غیر أني حینها لم أكن أعرف اسمي ولا أعرف عني أي شيء ولا أذكر الطریق إلى داري!! كنت أتلعثم ببراءة وخوف بینما أسرد تفاصیل طفولیة ساذجة أتوهم انها إجابة وافیة لما یسألونني عنه ولا أدرك ما هو حقیقة. 

أذكر أن الرجل الغریب الذي كان دائمًا یعرف اسمي ویعیدني لأهلي في كل مرة هو نفسه الذي التقیته في الحرب، في المرة الأولى التي رأیته بها كنت في الصف الثاني الابتدائي، یومها كنت ضائعة تمامًا في قاع المدینة، ضائعة كذبابة حمقاء سقطت في بئر واسع من الحساء حتى الغرق، حملني على كتفه كالعلم الهش الذي یعلو الأعمدة الصلبة، وسار بي واثقًا، في الطریق اشترى لي لعبة جمیلة وبسكویتًا وظل یعتني بي حتى أعادني إلى أهلي.

كل یوم كنت أضیع، وكان هو نفسه من یعثر عليّ ویعیدني، كل یوم، وعندما كبرت قلیلًا؛ كبر ضیاعي معي، وصرت أخترع الضیاع اختراعًا حتى یجدني الرجل الغریب وأراه ثم یعیدني إلى أهلي، بل حتى أجده أنا وأعود إلیه قبل أن یستردني أهلي منه مجددًا، آخر مرة رأیته فیها كانت في ذروة الحرب، صرت امرأة صغیرة یافعة وأفهم في الحب، تعرفنا على بعضنا البعض من جدید وكأنني أضیع أمامه لأول مرة، رصاصة بعد رصاصة، وغارة بعد غارة، أصابتنا نار الحب قبل نار الحرب، ورغم ذلك ضیاعي لم یفارقني، حتى في الحرب كنت أضیع وكان أهلي یفتشون عني، بین الركام والكتائب والأنقاض والمخابيء ویسألون أفراد المقاومة عني، حبیبي وحده هو من كان یجدني دائمًا، غیر أنه توقف عن إعادتي لأهلي؛ صرت كبیرة بما یكفي، وصار من اللازم أن أتعلم كیف أعود وحدي لحیفا وأنا عامرة بالجراح، دون أن أحمل كتابًا لغسان أو یحملني غسان على كتفه.