الإثنين 25 نوفمبر 2024

فن

"عُملات".. قصة لـ أسماء حسين من مجموعة "فسحة بويكا"

  • 24-12-2020 | 10:22

طباعة

تنشر "الهلال اليوم"، قصة "عُملات"، للكاتبة أسماء حسين، من مجموعتها القصصية "فسحة بويكا" الصادرة عن دار "فصلة" للنشر والتوزيع في طبعتها الأولى يناير 2018.


عُملات



حلمتُ بحافلة عائدة من بلاد الشام، كنت قادرة على تمييز بعض من ركابها، دون أن أعرف آليتي في ذلك.

كان هناكَ تلك المرأة التي تتشابك أصابعها مع أصابع زوجها قبل أن تهيل على طفلها بالقبلات، ثم تهرول بعيدًا عنهما، تصعد للحافلة ولا تنظر إلى الوراء، سحبتُ أغراضي وأخليتُ لها المقعد، التصق وجهي بالنافذة، كدتُ أرى يد طفلها المرتعشة وهي تلوّح لها بضعف مثل رعشة الزهور في أول أيام الخريف. قبل أن تهرول مجددًا للخارج وتحمله مرتعبة.

كانت المسافة بيني وبين المرأة قصيرة جدًا، مسافة حقيبة يد ودموعٍ تكابد الكتمان، لمحتُ في عينيها بريقًا خائفًا يتموّج وينطفئ فجأة. أعطيتُ السائق أجرته قبل منتصف الطريق، إلا أنه أعاد النقود إليَّ وقال: "تلك النقود غير صالحة"، دُهشتُ وقلت "كيف؟! هذه نقود حقيقية طبعًا"، قال "مرّ عليها سنة، لقد تغيّرت العملة الآن". قفزَت إليّ الأفكار سريعًا قبل أن أتفوّه معه بكلمة، تساءلت "هل غبتُ عن زمن المدينة لدرجة أن العملة تغيّرت وأنا لا أعرف؟" حسنًا، سوف أنتظر دفع أجرته بعد أن تدفع السيدة إلى جانبي.

وصلنا معبر رفح والمرأة لم تدفع الأجرة بعد. وتوقفت الحافلة، لكني لم أنزل، كنت في حيرة من أمري، العملة التي بحوزتي مختلفة عن عملة المدينة، أو ربما عن عملة هذا السائق فقط؟ و من يدري؟! لماذا إذن لم تدفع جارتي الأجرة بدورها؟ ربما هي في حيرة مثلي؟ نظرتُ إليها بتعجب، التقت عيوننا مع بعضها، لم نتكلم، حركت كفها في الهواء الموازي لصدرها بمعنى "لا شيء"، فحرّكت حاجبيّ إلى الأعلى في ذهول صاعق !! قالت المرأة بعد صمت الذهول: "لا يمكننا ترك السائق بدون أجرة"، قلت: "وما العمل، المعبر مفتوح أمامنا وتلك هي الساعة الأخيرة من مدّة فتحهِ لليوم !"، كان كل ما يلزمنا بعض العملات الجديدة تكفي ثمن أجرة العربة وعبور الحاجز، أجرة الطريق التي ستخرجنا من فوهة الموت الشرهة لأى مكان ننعم فيه بهواء خال من أدخنة الأسلحة، ثم ما لبت أن ضاق الرجل بنا ونهرنا نحو الخارج: "لا أحد يصعد مجددًا من دون أجرة كاملة"، ولأنها خافت على طفلها من الموت جوعًا هنا، قالت: "لنعود من حيث أتينا".

أعتقد أنها فضلت أن تعود من حيث أتت علها تجد حول أنقاض بيتها بعض فتات الخبز وتبحث لطفلها عن بعض الماء يكفى طاقته الصغيرة، على أن تصبر هي!

في رحلتها للعودة تعرضت الحافلة لحادث مروع، ويبدو أنه لم ينج أحد منه، عداي، تطلعت حولي لأبصر جسد رفيقتي مسجى على طفلها وهي غارقة فى دمائها، ماتت وهي تحاول حمايته لآخر لحظة، غير أنها لم تملك أجرة النجاة من الموت.

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة