السبت 18 مايو 2024

كيف تعامل هيكل مع أزمة صلاح جاهين والشيخ الغزالي؟

فن25-12-2020 | 14:31

"الشوارع حواديت.. حوادية الحب فيها وحوادية عفاريت.

إسمعى يا حلوة أما أضحكك.. الشارع دا كنا ساكنين فيه زمان.


كل يوم يضيق زيادة عما كان.. أصبح الآن بعد ما كبرنا فيه.

زى بطن الأم ملناش فيه مكان".


كلمات تحفظها العين والأذن وتترسخ بالوجدان، تشعر أنها تتجول في داخلك وتكاد تصل إلى منطقة بعيدة لا يستطيع الوصول إليها سوى من رسخ تركيبة الشعب المصري بتباينه الشديد، بآماله وخيباته وطموحاته وأحلامه، بأفراحه وأحزانه، استطاع أن يظفر بالخيال وينهل من الواقع فيضحكنا تارة وتارة أخرى نقف مشدوهين حزنًا وكمدًا، نتجول بهذه الكلمات في الشوارع والأزقة الضيقة في إثر حركة عادل إمام في فيلم "الحريف" وبصوت"أحمد ذكي" الذي يشدو بتلك القصيدة في مستهل هذا الفيلم، التي كتبها الكبير "صلاح جاهين" الذي تحتفى مصر اليوم بعيد ميلاده التسعون، إنه صانع البهجة وصاحب الليلة الكبيرة ومئات من الأغاني التي كتبها لتصبح من كلاسيكيات الفن في السينما والمسرح وغيره، فكان مثقلاً بمواهب عدة ما بين الشعر والكاريكاتير والتمثيل والغناء وكتابة السيناريو وإكتشاف المواهب الفنية إلا أن لهذه المسيرة المرهفة كان تنغصها بعض المعارك السياسية والتي اضطر لخوضها بسبب عمله كرسام كاريكاتير في مجلة "روز اليوسف" ثم مجلة "صباح الخير"واشتهر بشخصياته الكاريكاتورية التي أثارت الجدل والعديد من المعارك السياسية والفكرية حولها كثيرًا مثل شخصية "قيس وليلى"، "قهوة النشاط"، "الفهامة"، "درش" وغيرها.


كانت من تلك الأزمات أزمته ومعركته مع الإمام "محمد الغزالي"، والتي بدأت عندما انعقد المؤتمر الوطني للقوى الشعبية برئاسة الرئيس الراحل "جمال عبدالناصر" في عام 1962، طالب فيها "الغزالي" بضرورة التخلص من الرعوية الأجنبية والمساواة بين الأجنبي والمصري حيث لا يصح أن يكون المصري مواطنًا من الدرجة الثانية، وسائقًا أو خادمًا أو طاهيًا أجنبيًا مواطنًا من الدرجة الأولى، كما طالب بضرورة إحتشام المرأة، الأمر الذي جعل "جاهين" في اليوم التالي يرسم "الغزالي" يلقى خطبته في غضب وانفعال وقد سقطت عمامته على الأرض "وقد وضع تعليقًا ساخرًا تحت رسم الكاريكاتوري قائلاً: "يجب أن نلغي من بلادنا كل القوانين الواردة من الغرب كالقانون المدني وقانون الجاذبية الأرضية"، ومن هنا بدأت المعركة بين الفن والدين، فبدأت المواجهات اليومية بينهما، وكان "جاهين" يعمل في هذا الوقت في صحيفة الأهرام التي كان رئيس تحرير الصحفي الكبير "محمد حسانين هيكل".


بعد الهجوم الأول من "جاهين" علّق "الغزالي" على كلمته في المؤتمر الوطني للقوى الشعبية فهو لا يُعارض قوانين العلم والنظريات العلمية التي لا يستطيع أحد إنكار صحتها مثل نظرية الجاذبية النسبية "لأينشتاين، وكان حديثه عن ملابس المرأة فى سياق  حديثه العام الذي تتطرق فيه إلى أكثر من قضية وقد قال: "إن هذا المؤتمر يعطى الحق لكل فرد أن يقول الكلمة الأمينة الحرة التي يجب ألا يرد عليها بمواويل الأطفال في ضعف سيارة ينبغي أن تحترم نفسها".


رد "هيكل" على كلمة "الغزالي" تحت عنوان "كلمة الأهرام"، وأعلن فيها أنه يقدّس حرية الرأي لذلك ترك الساحة مفتوحة أمام الغزالي، ونشر كلمته كاملة، ولكن في نفس الوقت يحق لـ"جاهين" أن يرد على إساءاته فيما يقوله الشيخ الغزالي، فجاء رده من خلال رسم كاريكاتوري لمجموعة أطفال يظهر البؤس عليهم ويحملون في أيديهم لافتات كتب عليها "أين الكساء يا مُشرّع الأديان، لماذ لا تتكلم إلا عن ملابس النساء؟!


ألقى "الغزالى" خطبة عصماء يهجو فيها "جاهين" الذي قام برسم ست صور كاريكاتورية تحت عنوان "تأملات كاريكاتورية فى المسألة الغزالية" اتهمه في تلك الرسوم بأنه عدو الإسلام، وعلى إثرها كانت هناك مظاهرة من طلبة الأزهر تندد برسومات جاهين وذهبوا إلى مقر صحيفة الأهرام وعلا هتافهم بـ"صلاح جاهين عدو الإسلام"، وقد أحدثوا شغبًا برمي البناية بالطوب وكسر واجهتها الزجاجية، الأمر الذي جعل"هيكل" يتهم الغزالي بتحريض المتظاهرين ضد الصحيفة وضد "صلاح جاهين".


وفى خضم تلك المعركة، أصبح من المهم إحتواء الموقف لما يمثله من تهديد للأمن العام، فما كان من نائب رئيس الجمهورية في ذلك الوقت "كمال الدين حسين" سوى التدخل الفورى لإنهاء المسألة التي يبدو التقارب فيما بينهما حيث مسألة الفن والدين شائكة والمعركة لم تنتصر لأحد إلا إذا كانت هناك خسائر واضحة والتي بدأت منذ خروج المتظاهرين إلى الشارع، طلب نائب رئيس الجمهورية بضرورة الصلح الودي بين الطرفين لإنهاء المعركة وهذا ما حدث، ولكن لم تكن هذه المعركة الأخيرة لـ"جاهين" حيث ظل عين الواقع الذي يُطالب بحق المواطن البسيط إلا أن في أواخر أيامه كان يُعاني من الإكتئاب لركود الحياة الثقافية في مصر.


قبل وفاته بثلاثة أيام في 1986، كان قد ذهب إلى الإذاعة ليقبض بعض مستحقاته عن فوازير رمضان التي تقدمها "آمال فهمى" لكن قبل أن يذهب إلى الخزانة ذهب إلى "أبلة فضيلة" التي قال لها بعد أن سلم عليها "أريد أن أرقص وقد بدأ برقص الباليه، ثم قال لها بعد أن نظر إلى جسده الذي أصبح نحيلًا بسبب إصابته بمرض السكر فقال لها: "يا فضيلة أنا خسيت.. بقيت نصف صلاح جاهين"، ثم قال لها: الحياة الثقافية والفنية راكدة.. أنا هرمي فيها صلاح جاهين"،  فقالت له أبلة فضيلة: علشان تتحرك يا صلاح"، فرد عليها قائلًا: "نعم" ولم تدرك "أبلة فضيله" مقصده إلا بعد أن قرأت خبر رحيلة بعد ثلاثة أيام من لقاءهما حيث ألقى بنفسه فى البحيرة الراكدة لتتحرك، وتظل ذكراه حية دائمة في ذاكرة المصريين فقد كان كما يقول: 

" أنا عيد ميلادي مالوش معاد.. فين الورق، والنسمة والمقص والقلم يا واد

والا بلاش.. ده مفيش أمل !

أعياد كتير بيبتدوا.. وبيفرغوا

وبيفضل العالم كده

مكبوس ودمه تقيل تقيل

يا ربنا

ياللى خلقت لنا الأيادي للهزار والعمل

إدينى قوة ألف كـ مليون إيد

عشان أزغزعه."

    الاكثر قراءة