في سيرة المصرية الحديثة بطولات مشرفة، كان لها فضل كبير فى تطور المجتمع المصرى نحو التقدم والارتقاء، وسوف يذكر لها التاريخ هذه البطولات بأحرف من نور.. فمنها استمد الشعب قدرة معنوية على تخطى عقبات جسيمة طالما عطلت آمالاً واسعة تهدف إلى تحقيق حياة أفضل . وقد يبدو لنا بعض هذه البطولات تافها هزيلا بعد أن قطعنا إلى الأمام أشواطاً أخطر وأهم، ولكن الحوادث لا تقوم بمعايير أزمان غير أزمانها، فلكل عهد تقاليده وأحكامه والعبرة كل العبرة فى قياس الحركات القومية بأحوال أوقاتها، ودرجات تأثيرها فى تطور نهضات البلاد.. ورب خطوة تقدمية واحدة تحدث فى عهد من العهود ما لا تحدثه الثورات والانقلابات فى العهود الأخرى، وذلك لأنها كانت على بساطتها قفزة خطيرة أفادت الوطن فوائد كبرى.
دورها فى الحركة الوطنية
وتتمثل أول بطولة للمصرية الحديثة فى دورها عام 1919، عندما هبت البلاد على بكرة أبيها تطالب بحقها المشروع فى الحرية والاستقلال، وكانت المرأة حتى ذلك العهد عضوا أشل تعيش على هامش الحياة، فتسيء إلى مجتمعها بجهلها وخمولها وتأخرها، وكان همها الوحيد أن تأكل وتنام وتتزوج وتلد، ولكنها لم تكن تؤدى ما يصحب هذه الحقوق من التزامات يفرضها الوضع الصحيح فى أى نظام اجتماعى صالح.
وقامت الثورة الوطنية لأسباب سياسية واجتماعية فى آن واحد، فقد كانت المطالبة بالاستقلال مقترنة بالرغبة الصادقة فى رفع مستوى البلاد إلى الحد الذى يؤهلها للاستمتاع بالحرية المنشودة.. وبدأت طلائع الثورة ومقدماتها، والمصرية مازالت فى سباتها العميق، ثم أخذت الحركة صورة فعالة استشهد فيها رجال كانوا فى حياتهم الخاصة آباء وأزواجا وأبناء.. وعند ذلك فقط تيقظت المصرية على هول فجيعتها، فخرجت من خدرها تطلب الثأر لأحبابها فى مظاهرة نسائية ضخمة كان لها أثر بليغ، فى حفز همم الرجال على التفانى من أجل تحقيق الغاية السامية.
وفى شهر مارس 1919 قتلت فتاة فى مقتبل العمر خلال مظاهرة بحى الوايلى، فكان لاستشهادها رجة رهيبة حركت البقية الباقية من ربات الخدور الهادنات، فتألفت جمعية المرأة الجديدة بدعوى ترقية أحوال النساء، والحقيقة أن دورها السياسى الخفى كان أخطر وأعظم، ففى دارها الصغيرة كان الزعماء يجتمعون كل ليلة، ويتبادلون الرأى والمشورة، ثم يصدرون أوامرهم فى نشرات سرية يخفيها النساء تحت حجبهن.، ويوزعنها على الناس فى غفلة من الرقابة الأجنبية.
ومهما قيل فى نتائج الثورة الوطنية، فليس هناك من ينكر على المصرية بطولتها فيها، وما أحدثته من أثر ملموس.
فاتحة التعليم
وزال الحجاب فى سنوات قليلة، فزالت معه عقبات كثيرة أصبح بعدها تعليم المرأة ضرورة ملحة، فافتتحت أول مدرسة ثانوية حديثة عام 1925، ودخلها فى بادئ الأمر عشر فتيات لا غير، كانت آمال النساء معقودة عليهن، وآمال الرجعية معقود عليهن أيضا.. فإن المصرية عموما كانت ترجو لهن التوفيق رحمة بمصير الخطوة العلمية الجديدة، والرجعية تترقب لهن الفشل تحقيقا لرأيها فى عدم صلاحية النساء للثقافة الحديثة.
ومضت السنوات بطيئة، والطليعة تشق طريقها صامتة، حتى آن أوان امتحان “البكالوريا”، فإذا بالنتيجة معجزة من معجزات التفوق والنبوغ ذهل لها اأنصار الحركة وأعداؤها على السواء.. وحفز النجاح همم التلميذات، فسعين إلى دخول الجامعة، وطرقن أبواب القادة راجيات، فلاقاهن بالترحيب رجلان سيظل اسمهما علما خفاقا فى سماء النهضة العلمية الحقة: لطفى السيد، وطه حسين.
وكان العطف أولا، ثم التشجيع فالوعود، ولكن فيلسوف مصر الأول اشترط لتحقيق وعوده أن يركن البنات للهدوء خشية أن يتسرب الخبر إلى الصحف، فتثور ثائرة الرجعية، وتقف بينهن وبين الجامعة.. وكانت مؤامرة ناجحة، إذ فوجئ الرأى العام بانخراط البنات فى سلك الآداب والحقوق والطب، وفاتت على المتزمتين فرصة سد الطريق فى الوقت المناسب.
ومرة أخرى تطلع الناس إلى طالبات الجامعة خائفين أن يصرفهن الاختلاط عن أداء الرسالة النبيلة، أو يعجزهن العلم العويص عن بلوغ النهاية المرتقبة .. ولكن الطليعة كانت فريدة فى عنقها ومواهبها، وبذلك أصبح التفوق أمانة فى عنق طالبات الجامعة إلى يومنا هذا.
ومهما قيل فى عيوب تعليم المرأة، فليس فى أبناء الشعب المتنور من ينكر بطولة نعيمة الأيوبى، وسهير القلماوى، وفضيلة عارف، وفاطمة سالم... رائدات الجامعيات، وحاملات مشعل التعليم النسوى.
معركة الحجاب
وكانت الثورة الوطنية بداية طيبة أعادت إلى المصرية ثقتها بنفسها، وعلمتها ومواطنيها ما ينتظر أن تقوم به إذا اتيحت لها الفرصة.. وكانت أخبار البطولة النسوية قد انتقلت إلى العالم الغربى، فتحدثت الصحف عنها مادحة معجبة، وأحس الرأى العام الأجنبى بوجود المصرية لأول مرة، فلما عقد الاتحاد النسائى العالمى اجتماعه الدورى بمدينة روما 1923.. دعيت المصرية إلى الاشتراك فيه، فسافر وفد من ثلاث سيدات أحدث وجودهن ضجة كبرى بين مندوبات الدول الأخرى.
وقام الوفد المصرى بدوره خير قيام، ورفع أعضاؤه الثلاث شأن نساء العرب جميعا بعلمهن وثقافتهن وأناقتهن فلما انتهى المؤتمر، واستقلت السيدات سفينة العودة، تناقشن فى أمر المصرية، وتباحثن فى أسباب بعدها عن العالم المتمدين، فاستقر اللوم على الحجاب الذى يقيدها بأغلال العبودية، ويقيدها إلى حياة الخمول والدعة.. واجتمع الرأى على رفع الحجاب، فلما وصلن إلى الإسكندرية، وخرجت جموع الناس لتحيتهن ، طالعهن المندوبات محجبات فى بادئ الأمر حتى إذا تركزت عليهن العيون، رفعن الحجاب وألقينه فى البحر علامة السفور.. وساد الجماهير صمت شامل ينذر بالغضب، ولكن المستقبلات من السيدات تقدمن فى الحال إلى معونة طلائع الحرية ، ورفعن الحجب أيضا وسرن جميعا فى الطرقات سافرات الوجوه..
ومهما قيل فى قوة الحركة النسوية، فما من إنسان عادل ينكر على أولئك السيدات بطولتهن فى التحرر من أغلال الحجاب.
الخدمة الاجتماعية
ويقول منطق الارتقاء: أن التعليم إذا انتشر فى جماعة أو فئة أعدها إعدادا صالحا لفوائد اجتماعية، كثيرة، وهذا قول صحيح يتفق مع سير النهضات فى مختلف البلاد والأزمان. وقد كان تعليم المصرية ذخيرة طيبة وجهتها إلى ضرورة المساهمة فى ميدان كريم آخر، ألا وهو ميدان الخدمة الاجتماعية... فانتشرت الجمعيات الخيرية، وتوزعت جهودها بين آفات الشعب من فقر وجهل ومرض، وهكذا اهتمت بعض المؤسسات بفتح المدارس، واهتم بعضها الآخر برفع مستوى الشعب، وشغلت البقية بمكافحة العلل والأمراض.
وتتمثل رابع بطولة للمصرية فى دورها من الخدمة الاجتماعية خلال أوبئة التيفود والكوليرا والجامبيا، فقد حمل السيدات جل العبء على عواتقهن، وبذلن المال فى شراء العقاقير، والجهد فى محاصرة مناطق الخطر، والوقت فى علاج المرضى ووقاية الأصحاء.
ومهما قيل فى تصرفات بعض الجمعيات، وضيق أفق القائمات بها، فليس فى مصر من ينكر بطولة أعضاء مبرة محمد على، وجمعية الهلال الأحمر فى القضاء على الأمراض الخطرة، ، مما استحق تقدير الحكومة تحت قبة البرلمان.
حرب فلسطين
وآخر بطولة نذكرها للمصرية فخورين، مساهمتها الوطنية الجليلة فى حرب فلسطين، فما كادت الظروف تقضى بوجوب القتال، حتى تقدم النساء متطوعات للتمريض والتطبيب.
والخدمات المدنية الأخرى، وسافرن إلى ميدان القتال مع الرجال جنبا إلى جنب، وكن - والحمد لله- مثلا رفيعا فى أداء الواجب ، وتقديم مصلحة الوطن على راحة النفس وسلامتها.
وإن نسينا فلا ننس دور نساء الشعب بأجمعه، عندما رضين بالتضحية من أجل فلسطين العزيزة، فقدمن رجالهن وأولادهن وأخوتهن إلى الجيش غير متوانيات، وكن يتبعنهم إلى مراكز التجنيد مزغردات كما لو كان هؤلاء الأعزاء يسيرون إلى حفلات زفافهم.. فإنها والله بطولة يفخر بها أكثر الشعوب مدنية وارتقاء.