لأنني عشت سنوات طفولتي في بحبوحة
الحرية.. وروعة أن أكون بنتا لعائلة تحب البنات وتقدسهن.. عملا بتوصيات الكتاب
والسنة.. كما أنني نشأت في بيت يقوده مثقف يعرف قيمة الحب والمرأة ولا يمنحها
حقوقها من باب الشفقة بل من باب التوازن الطبيعي والمساواة العادلة.
وتاريخنا الحديث ممتلئ بكفاح من نقشن أسمائهن بحروف من نور على جدار التاريخ..
منهن د. سهير القلماوي، د. لطيفة الزيات.. قوت القلوب، د. عائشة عبد الرحمن، جليلة
رضا، روحية القليني، عائشة التيمورية، علية الجعار، ملك عبد العزيز، وفاء وجدي،
فوزية مهران، نور نافع، جاذبية صدقي، وتليهن في الأجيال سلوى بكر، نعمات البحيري، رضوى
عاشور، وغيرهن من كاتبات تتابعن على أجيال مختلفة .. وهذا ينفي انفراد الرجل
بصناعة الحضارة وحده.
ولكنني رغبت في الحديث عن أبعد من ذلك بكثير ربما قبل الميلاد المجيد..
وتحديدا عصر حكمت فيه ملكة ظلمها التاريخ وراوغ في ذكر حقيقتها أنها الملكة كليوباترا السابعة.
ربما تشابه أجزاء من حياة بعض عظيمات مصر الحديثة مع موقع لتلك الملكة
العظيمة التي أنعشت الاقتصاد المصري على يديها وأحبها الشعب المصري.. إلا أنها لم
تخل من تشويه صورتها ومحاولة اختصارها في ملكة عاهرة قدمت جسدها في سبيل العرش..
كيلوباترا ضحية كتابة التاريخ بحقد وجهل وعدم شفافية وحيادية.
لذا لتسمحوا لي بربط بعض ما يحدث من تخلف عقلي في رؤية المرأة المثقفة
الناجحة ومحاولة جذب سيرتها للحضيض من قبل قلة متخلفة شائهة.. وصمت قلة ممن لا
يبذلن الجهد لتصويب الصورة.. وأمام سلبية الكثيرين يضيع الكثير من جهد عظيم تبذله
شريك الرجل في الحياة.. فبداية من حواء التي تحولت لمجرد أنثى الغواية للرجل وحتى
يومنا هذا مازالت الحروب ضدها تتلخص في رحلة فكر رخيص من عقلها لنصفها الأسفل..
ومن خلال تلك الرؤية لتكن كيلوباترا نموذجا:
نشأت كيلوباترا طفلة مفضلة ومدللة ليست بالجميلة شكلا ولا الدميمة لكنها
ساحرة وذلك نتيجة ثقافة عريضة حرص عليها والدها بطليموس الثاني عشر أو الزمار كما
لقب.. فقام بتعليمها ومنحها الحرية المطلقة.. حتى عندما تم نفيه خارج مصر أخذها
معه مما أتاح لها ثقافة موسوعية وتعلمت عدة لغات منها الكوينية، والآرامية،
واللاتينية، والسريانية، والميدية، والفرثية، واللغة المصرية القديمة وكانت
الوحيدة التي تتكلمها
في أسرتها المقدونية التي حكمت مصر منذ وفاة الإسكندر الأكبر في عام 323 قبل
الميلاد وحتى احتلال مصر من قبيل روما عام 30 قبل الميلاد.. حكمت كيلوباترا مصر
عام 51 قبل الميلاد مشاركة مع أخيها بطليموس الثالث عشر وكان معروفا أن العرش لملك
واحد فقط مما جعل الصراع يشتد.. وهنا نتحدث عن ملكة استطاعت أن تنقذ مصر بذكاء
ودهاء من تلاعب رجال البلاط بأخيها القاصر والذي قام بطردها خارج مصر رغم كونها
زوجته وشريكته في الحكم.. فهربت للبدو وكونت جيشا وعادت لتنتصر إلا أن قيصر روما
كان قد وصل للإسكندرية، ونجد الأخ الملك والزوج يضع رجاله على بوابة المدينة لمنع
كيلوباترا من الوصول للقيصر فكان دهاء الملكة التي لفت نفسها في سجادة وأرسلتها
كهدية للقيصر.. فتحولت الحيلة لوسيلة رخيصة للمؤرخين بأنها ذهبت عارية وقضت ليلتها
المحرمة مع القيصر لتستولى على الحكم.. وإن كانت الحقيقة أن القيصر بهر بذكاء
الملكة العشرينية في التعامل مع الموقف بذكاء حاد وسرعة بديهة مما جعلها ساحرة له
ولكل من يراها.. فجميلات الجسد من الجواري والسبايا كثر ولكن جمال العقل وما تمتعت
به الملكة من نجاح في التعليم والثقافة واللغات وحلاوة الصوت ونبرة الإلقاء المميزة
لصياغة أفكارها جعلها تتفوق حتى على رجال عصرها لذا وقع قيصر في هواها وأنجب منها بطليموس
الصغير أو (قيصرون) كما راق للشعب المصري أن يطلق عليه.
النقطة الثانية .. كانت سفر الملكة لروما لإعلان زواجها من قيصر وإعلان ابنها
وريثا لعرش روما ومصر وتشاء الأقدار بقيام
الحرب الأهلية الرومانية وتهرب كيلوباترا وتقرر الانتقام والتحكم في روما بذكاء
الملكة التي اتهمت بالسحر والعهر بل محاولة القضاء عليها وابنها.. فكان دهاء
الملوك خاصة من درست في شئون الزراعة والصناعة والكيمياء.. اهتمت كيلوباترا
بالزراعة لتزدهر وكانت مصر سلة غذاء روما تعتمد عليها خاصة القمح فمصر هى المصدر
الأول للقمح لروما.. فأذلتهم كيلوباترا وأعلنت
قيصرون شريكا لها على الحكم.. وأغدقت على شعبها وحاولت إصلاح عام جعل مصر مزدهرة..
يهتف الشعب باسمها ليل نهار.
أما قصص اتهامها بقتل شقيقها
وشقيقتها فليس أكثر من دفاع عن النفس والعرش فقد كان رجال البلاط الذين يفضلون
ملكا ضعيفا على ملكة مثقفة ذكية، فسعوا لقتلها فكانت الأدهى.. وأمرت بقتل من
أرادوا الخلاص منها.
فكانت الملكة المقدونية ذات الأصل اليوناني والروماني.. إلا أنها أصبحت
محبوبة من المصرين لما قدمته لهم من رخاء وأمان وبما منحته للمرأة في عهدها وقامت
بتنظيم الضرائب وبما بذلته من جهد لفهم ثقافة المصريين وعاداتهم وتراثهم بل بذلت
جهدا كبيرا في قراءة الفلسفة والرياضيات والكيمياء فأصبحت مصرية الهوى والحكم.
ولم تكن كيلوباتر ملكة تهتم بجمال عقلها فقط بل قامت بإنشاء مصنع لصناعة أدوات
التجميل والعطور عثر عليه بالقرب من البحر الميت وهناك آثار مما تركته في كتاب
"جينايسياروم" كتاب كيميائي لما استفادت منه في دراستها للكيمياء وكانت
تعمل فيه بيدها لصناعة أدوات تجميلها وعطورها الخاصة التي ساعدت على سحرها شديد
الخصوصية بها وانبهار كل من اقترب منها رغم أنها ليست باهرة الملامح.
ومع ذلك كله لم تكن عاهرة كما صورها التاريخ.. فهى لم تنجب من غير القيصر
الذي كان على وشك إشهار زواجه منها ودمج المملكتين.. ثم من (أنطونيوا) الذي تزوجها
وعاش معها وأنجب منها ثلاثة أطفال وتخلف لأجل عشقها عن غزوة لصالح روما مما وضعه
على حد سيوفهم للخلاص منه.. فهل يجرم الحب وهل يجرم الزواج ومن يفعل ذلك؟
لكن كُتاب التاريخ الذين زوروا ملامح شخصية ملكة بقدر كيلوباترا السابعة..
فأخرجوها في صورة عاهرة تنتصر على القياصرة والرجال في معركة الفراش والجسد وهذا
لم يكن حقيقة فقد قامت بدورها كملكة بأكمل ما يقوم به ملك مقتدر.. وقامت بدور الأم
بشكل عظيم فحرصت على تدريبهم وتعليمهم قبل أن تفجع في قيصرون وبقية أولادها.
كيلوباترا التي حكمت مصر على مدار عشرين عاما.. حرصت على تشييد العمارة
وتقدير الحضارة القديمة وتجديد بناء مكتبة الإسكندرية التي تعرضت للغرق في أثناء
الحروب.
كيلوباترا ملهمة العصور:
لولا الازدهار الشديد الذي كان في عصر كيلوباترا وهذا الغموض الساحر في
حياتها وما أحيك حولها من حكايات حقيقية وزائفة ما كانت تلك الملكة المصرية بهذه
الشهرة وبهذه المكانة التي لم تصل لها ملكة كـ حتشبسوت أو نفرتيتي، وغيرهن من
ملكات كانت بصماتهن على جار تاريخ مصر مشرفة ومزهرة.. فقد سيطرت كيلوباترا لما
شهده عصرها من ازدهار في مجتمع ذكوري يسيطر عليه الرجال فأثبتت قدرتها ومهارتها للسيطرة
على المعارك الداخلية والخارجية وأثبتت وجودها كملكة حافظت على وحدة بلادها.. مما
جعل اسمها خالدا في كتب التاريخ حتى اليوم لا ينقصه غير محاولة كشف الحقائق وإزالة
الأكاذيب حول ملكة مصرية قوية ظلمها الكُتاب في التاريخ.. كتب عنها إميل فريدريك،
ويليام شكسبير، جون درايدن، مارجريت جورج، جورج برناردشو، فيكتورين سارديو، رايدر
هجارد، أحمد شوقي، وإميل مورو.
رسامون وكُتاب رغم هذه الأبعاد العظيمة لشخصية كيلوباترا.. لكننا نرى أن
الفكرة المسيطرة عليهم هى قيام كيلوباترا بإغراء القيصر وأنطونيوا.
ومع كل ما قيل عن جمالها وذكائها مما جعلها تملأ خيال كل من تناولها
بالكتابة والدراما والرسم.. إلا أنهم لم يستطيعوا إنكار أنها من أعظم من مروا على
مصر من حكام على الأقل من أعظم النساء تأثيرا وحضورا .
ولكن:
شاءت أقدار المرأة على مر التاريخ والعصور أن يكون الطعن فيها والتقليل من
شأنها هو هدف صناع التاريخ إلا من رحم ربي فتنجوا بحيلة أو تنجوا بالقليل مما خلفت
للتاريخ وللبشرية من علم وإبداع.. ويبدو أنه إرثنا المصري وتاريخنا العظيم الذي
يرى المرأة من ثقب باب وليس من تحت مجهر.
كيلوباترا التي وصمها البعض على أنها الملكة اللعوب ونقلت للدراما بهذه
الصورة حيث أن الأجيال الجديدة الحالية لا تعرف عنها ما ورد متناثرا في كتب كان
علينا جمعها في كتاب واحد بأيد مصرية يؤرخ لأمجاد الملكات اللاتي حكمن العالم أيام
كانت نساء الإمبراطوريات والغرب مجرد نساء للإنجاب وجواري.
رغبت أن أربط بين ما حدث لملكة عظيمة وبين ما نعرفه عن كاتبات حفرن الصخور
لوضع أسمائهن لم يصلنا منهن إلا القليل والسبب أصبح واضحا مهما اجتهد الذين
يدافعون عن حرية المرأة لكسب لقطة إعلامية ودواخلهم تقول عدن للمطابخ والمغاسل ثم
للتزين فهذا دوركن !!
لست يائسة ولا معقدة كما ذكرت في مقدمة المقال لكنني أشعر بردة حقيقية
لحرية المرأة تساهم فيها المرأة بالخوف والصمت بشكل كبير.. ويحاربها بعض من اختصروها
للإنجاب.. هذا وللحديث بقية.