تنشر "الهلال اليوم" الجزء الأول من الفصل السابع لكتاب "أحجار على رقعة الأوراسيا"، للكاتب عمرو عمار، والصادر عن دار «سما» للنشر والتوزيع:
أشواك في الحديقة الخلفية للمكتب البيضاوي
أمريكا اللاتينية كانت شاهدة على زيف الاجتهادات التي شرع (فرانسيس فوكوياما) في إبرازها، عبر سطور كتابه (نهاية التاريخ) وتُعد ليًّا واضحًا للحقائق، فمحاولة إقناع العالم بنهاية الصراع الأيديولوجي، بين معسكر الرأسمالية، ومعسكر الاشتراكية، بتحلل الاتحاد السوفيتي وسقوط جدار برلين؛ هو صراع في الأساس لا يزال قائمًا هناك ناحية أمريكا اللاتينية، مع أحفاد (سيمون بوليفار) و(خوسيه مارتي) الرافضين حتى الآن الاندماج في اقتصاد السوق الحرة، والنمط الرأسمالي الغربي، وقد ظلت الكوربوقراطية، وأتباعها من مراكز أوعية الفكر، ترسم الخطط، وتحيك المؤامرات، من أجل إسقاط الأنظمة الشيوعية الحاكمة في العديد من دول العالم، ما بعد الحقبة السوفيتية.
وكان السؤال الحائر داخل جدران المنظمات الغربية، التي تدعي الديمقراطية والحكم الرشيد، وحق الشعوب في تقرير المصير، كيف يمكن ضمان ولاءات الشيوعيين واليساريين ذوي الأيديولوجية الماركسية من كوبا وفنزويلا إلى مصر وفلسطين والمغرب؟
وبالعودة إلى النقطة الثانية من النقاط الأربع الخاصة بوثيقة استراتيجية الأمن القومي، الصادرة عن إدارة بيل كلينتون عام 1995، والمحددة لأطر السياسة الخارجية الأمريكية آنذاك، والتي نصت على: «محاربة الإرهاب والدول الداعمة له، ومحاربة المخدرات والمؤسسات الداعمة للاتجار به، بتدعيم عمل المؤسسات الديمقراطية في الدول المعنية».
أي ما زالت دول أمريكا اللاتينية، ما بعد الحقبة السوفيتية، داخل مرمى قوس نيران الولايات المتحدة الأمريكية، فقد كانت هذه الدول حاضرة على أجندة الأمن القومي الأمريكي لإدارة كلينتون، بحجة مكافحة انتشار المخدرات والإرهاب.
أما الهدف الاستراتيجي الدائم، فلم يكن وفق وثيقة مبدأ مونرو، الصادرة عام 1823، والتي نصت على عدم السماح بمستعمراتٍ أوربية جديدة، أو التوسع بحدود المستعمرات القائمة، على اعتبار أن أمريكا للأمريكيين، بل كان وفق تطبيق تأويل وثيقة مونرو الصادرة عام 1903، وبسياسة العصا الغليظة التي ابتدعها (ثيودور روزفلت) بعد اغتيال ماكينلي، حتى تصبح الأمريكتان للأمريكيين، بمفهوم الأيديولوجية الأمريكية، أي بوجهي العملة (التصوف – الرأسمالية) كما أوردنا في الجزء الأول من هذا المؤلف.
وقد حرص كلينتون على تطبيق وجهها الأول، أي وجه التصوف في العقيدة البوريتانية التوسعية، ولكن بمفهوم ومعطيات عصر ما بعد السوفيتية، فكما ذكرنا من قبل أن التدخل العسكري كان الخيار الأخير في استراتيجية كلينتون، كما كان حريصًا على التمسك بالوجه الآخر من هذه الأيديولوجية، أي الرأسمالية التي ستنتشر في عروق الكرة الأرضية لخدمة المصالح الأمريكية.
لهذا ووفقًا للوجه الأول من الأيديولوجية الأمريكية، فقد شهدت بدايات عصر كلينتون تأسيس (أكاديميات إنفاذ القانون الدولي) كامتدادٍ طبيعي لـ (مدرسة الأمريكتين).
فبعد أن فقدت الرابطة العالمية لمكافحة الشيوعية أيديولوجيتها بتحلل الاتحاد السوفيتي، وسقوط الأحزاب الشيوعية، وتفسخ الأخرى في البلدان السوفيتية والأوروبية، وباتت مدرسة الأمريكتين سيئة السمعة ملفوظة من الشعوب اللاتينية بعد اكتشاف أمرها، كان لزامًا على العقل المفكر داخل أروقة صناعة القرار الاستراتيجي الأمريكي، البحث عن أدواتٍ أخرى تؤدي إلى نفس النتائج، لضمان الهيمنة على أمريكا اللاتينية، أي على الحديقة الجنوبية للولايات المتحدة الأمريكية، الصداع الحقيقي في رؤوس الإدارات الأمريكية المتعاقبة على المكتب البيضاوي؛ لما فيها من أنظمة حكمٍ موالية للشيوعية، لا تريد الانصياع إلى الكوربوقراطية، وترفض الاندماج في الإمبراطورية الكونية.
لهذا نجح هذا العقل المفكر، ومن خلفه مراكز أوعية الفكر، في استبدال مصطلح (الحرب الباردة) ضد الاتحاد السوفيتي، بما أُطلق عليه (الحرب على الإرهاب).
أكاديميات تفريخ الإرهاب - (ILEAs )
في حديثه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في الذكرى السنوية الخمسين، في 22 أكتوبر 1995، دعا الرئيس (بيل كلينتون) آنذاك إلى إنشاء شبكةٍ من أكاديميات إنفاذ القانون الدولي (ILEAs) في جميع أنحاء العالم، لمكافحة الاتجار الدولي في المخدرات والإرهاب.
ومن الموقع الرسمي لـ (أكاديميات إنفاذ القانون) على شبكة الإنترنت، تقرأ المهمة المعلنة: دعم الحكم الديمقراطي من خلال حكم القانون - تعزيز عمل الأسواق الحرة بتحسين التشريعات وإنفاذ القانون - زيادة الاستقرار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي عبر مكافحة الاتجار بالمخدرات والجريمة والإرهاب.
لاحظ هنا أن الحكم الديمقراطي مرتبط بتعزيز اقتصاد السوق الحرة بمفهوم العولمة، ولكن عن أي قانون تريد الولايات المتحدة إنفاذه في البلدان اللاتينية، الشهيرة بمافيا المخدرات والجريمة؟
أكاديمية السلفادور.. غطاء لعمليات غير مشروعة
لنأخذ مثالًا على أكاديمية إنفاذ القانون في السلفادور (أمريكا الوسطى) التي تأسست عام 2005، إبان عصر (بوش الابن).. ووفقًا لمديري (IELA).. فالأكاديمية تأسست بغرض جعل أمريكا اللاتينية آمنة للاستثمار الأجنبي، من خلال توفير الأمن الإقليمي، والاستقرار الاقتصادي، ومكافحة الجريمة. وإبان عصر الرئيس (باراك أوباما) رصدت ميزانية الولايات المتحدة الفيدرالية، عام 2008، مبلغ (16.5 مليون دولار) لهذا الغرض.
حيث تعمل الأكاديمية على تدريب (1500) فرد سنويًّا، على أساليب مكافحة الإرهاب، من رجال الشرطة والقضاة، والمدعين العامين، وغيرهم من الموظفين المكلفين بإنفاذ القانون، في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية، وليس في السلفادور فقط.
كما أن معظم المدربين يتم جلبهم من الوكالات الأمريكية، مثل وكالة مكافحة المخدرات (DEA) ومصلحة الهجرة والجمارك (ICE) ومكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI).
كشف المستور
حينما أعلنت (كونداليزا رايس) وزيرة الخارجية الأمريكية، من ميامي، عن خطط أكاديمية السلفادور، كتب الأب روي من السلفادور يقول:
«إن تركة التدريب الأمريكي لقوات الأمن، في (مدرسة الأمريكتين) وفي جميع أنحاء أمريكا اللاتينية، هي واحدة من سفك الدماء والتعذيب، واستهداف السكان المدنيين.. إن إعلان رايس الأخير، عن خطط إنشاء أكاديمية دولية لإنفاذ القانون في السلفادور، يجب أن يثير مخاوف جدية لأي شخصٍ يهتم بحقوق الإنسان».
إذًا هذه الأكاديمية من وجهة نظر السلفادوريين، امتداد طبيعي لأنشطة (مدرسة الأمريكتين) السرية سيئة السمعة، والتي توفر حصانة لأعضائها من تهم جرائم ضد الإنسانية، ويبدو أن الأب روي كان محقًّا في ربط هذه الأكاديمية، بذكريات مدرسة الأمريكتين.
الأول من مايو عام 2007، أصدر مكتب رئيس الأساقفة في الدفاع القانوني وحقوق الإنسان، تقريرًا يورط فيه الشرطة الوطنية السلفادورية (25% منهم خريجي الأكاديمية) في ثماني عمليات اغتيال عام 2006، أي على نمط فرق الموت إبان الرابطة العالمية لمكافحة الشيوعية، ومدرسة الأمريكتين.
كما نشر مكتب الدفاع عن حقوق الإنسان في السلفادور، تقارير تربط بين الشرطة المدنية الوطنية وفرق الموت، وحالات متكررة من الفساد وسوء السلوك.
ولأن مبادئ الأكاديمية كما يدعي مديروها هي، ضمان بيئة تحمي التجارة الحرة، والمصالح الاقتصادية للولايات المتحدة؛ فقد أصدرت إدارة رئيس السلفادور (ساكا) الموالي لواشنطن، قانون مكافحة الإرهاب في سبتمبر 2006، على غرار قانون بوش (باتريوت آكت) الذي تم استخدامه لخدمة الكوربوقراطية، بموجب هذا القانون تم اعتقال جميع الناشطين والمناهضين، لخصخصة المياه في السلفادور.
وبما أن خريجي (IELA) يعملون في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية؛ فإن الجيش الأمريكي ينشئ آليات مماثلة للتعاون في جميع أنحاء المنطقة أيضًا؛ إذ تنضم الأكاديمية إلى مجموعة من معسكرات تدريبٍ أخرى، تديرها وكالات أمريكية مثل FBI و ICE و DEA، بالإضافة إلى برامج تديرها شركات أمنية أمريكية خاصة، مثل شركة (بلاك ووتر) صاحبة الجرائم الأشهر عالميًّا في أفغانستان والعراق.
وبالمشاركة مع الجيش الأمريكي يتم التدريب على: مكافحة التمرد - مراقبة المنشقين المحتملين والمنظمات الاجتماعية - تجريم الاحتجاج الاجتماعي من خلال تكتيكات وتشريعات قوانين مكافحة الإرهاب.
أي لا فرق بين هذه الأكاديمية، وعمل مدرسة الأمريكتين في السابق، بل هي امتداد طبيعي لأنشطة غير شرعية، واستنساخ جديد لفكرةٍ قديمة، حينما تم حل مكتب الدراسات الاستراتيجية، بعد الحرب العالمية الثانية، ليُعاد تأسيسه بعد عامين، باسم وكالة الاستخبارات المركزية (1).
وبذلك تمكن كلينتون من تطبيق الوجه الأول من الأيديولوجية الأمريكية، أي وجه التصوف في العقيدة البوريتانية التوسعية، من أجل السيطرة العسكرية على الدول، لا باستخدام الجيش الأمريكي بطريقةٍ مباشرة في حروبٍ عسكرية جديدة هذه المرة، ولكن باستخدام الجيوش المحلية للدول المستهدفة، والمهمة المعلنة نبيلة كالعادة، (إنفاذ القانون) ولكن على طريقة الكاوبوي الأمريكي.
ومن خلال أعمالٍ غير مشروعة بعيدة عن مساءلة الكونجرس، حظيت أمريكا بموطئ قدمٍ دائم في أمريكا الوسطى من أجل ضمان الولاءات، والقضاء على المناهضين، والأهم ضمان تطبيق الوجه الآخر من الأيديولوجية الأمريكية، أي السريان في عروق الكرة الأرض، وفرض آليات السوق الحرة، تحت شعارات مكافحة الاتجار في المخدرات والجريمة والإرهاب، في أمريكا الوسطى، ولكن ماذا عن دول أمريكا الجنوبية وكوبا؟