تنشر "الهلال اليوم"، قصة "دمٌ طازج"، للكاتبة أسماء حسين، من مجموعتها القصصية "فسحة بويكا" الصادرة عن دار "فصلة" للنشر والتوزيع في طبعتها الأولى يناير 2018.
دمٌ طازج
يسير مستدفئًا ببذلته الثقيلة التي لا تستطيع حمايته من قشعريرة تتغلغل في سلسلة ظهره، ويُسرُّ لنفسه: "الحمد لله هذه آخر زنزانة"، يضع رقم شفرته للدخول ويتناول وعاء الطعام البارد، يحجز الباب بالعربة الفارغة ويدخل ليصطدم برائحةٍ قويةٍ غريبة، لها ما يشبه الألفة في ذاكرته، تشق عيناه طريقها في العتمة ويلمح السجين مكومًا في الزاوية اليسرى من الزنزانة، ثم يلتفت بغتة حين سمع صوت انزلاق العربة وإقفال الباب، يُسقط إلإناء مُسرعًا ليحجز الباب المعدني الثقيل، فلا يستجيب الباب.
ينظر خلال فتحة الباب الضيقة محاولًا أن ينادي أحدًا ليفتح له، هذا وقت العشاء وهو المناوب لتوزيعه، الضابط في المبنى الآخر وليس له إلا الإنتظار، جلس على الدكة الحجرية يائسًا، ثم تنبه لأنه الآن سجين مع هذا الذي لا يعرف ما تهمته، زاره خوف مرتاب فتفقد سلاحه ومسح بيده عليه بينما هو يحدق في السجين الذي يبدو أنه لا يشعر به تمامًا، بلا أدنى كلمة، أسند رأسه للجدار، وأخذ يراقب تشكلات سحاب متكثف خارج كوةٍ في أعلى الجدار، ثم قرر أن يصعد على الدكة، عله يرى من يُطلق أسره، فوجدها أعلى منه بكثير، فجلس يتنشق هواء الليل مرغمًا، وأقنع نفسه أن أحدًا سيفتقده ويأتي للبحث عنه لا بُد، استدار بشدة عند سماعه صوتًا مبهمًا كالأنين يصدر من الأسير، فقرر أن يُخاطبه.
-ما تهمتك؟
لم يرد، حدق في عينيه المتعبتين، وجهه الكامد، لحيته النابتة، لم يشعر بأي ارتياح، أكان لا بُد له أن يقبل نقله للعمل هنا، وكأنما بيده الخيار! إن نظرات هؤلاء المساجين مختلفة عن ما عهده، انهم يبتسمون له بتسامح ويترفعون عن الشكوى، تمنى لو أنه يفهم شيئًا ما، ثم قرر أن يحاول ثانية.
-يبدو أننا سنقضي الليل معًا هنا، فأقترح فقط أن نتحدث لنقطع الوقت.
- اسمي مصطفى.
- اسمي العريف رشوان.
وعاد مصطفى للزاوية بهدوء دون أن يلمس طعامه، فسأله العريف:
- ألن تأكل؟!
- بإمكانك أن تأكله أنت يا سيدي.
شعر بالحنق، أيعتقد هذا المسكين أنني أتوق لطعامه البارد، ماذا به؟ أيتظاهر بالنوم؟ وأخذ يراقبه، فإذا بالسجين ينكأ جرحًا في معصمه، انقبضت معدة العريف بشدة، ثم أخذ مصطفى يغمس عودًا خشبيًا في الدم ويكتب في الزاوية اليسرى حيث وجده متكومًا حين فتح الباب للمرة الأولى، لم يحتمل أكثر ففتح عينيه على اتساعهما وصرخ به:
- ماذا تفعل يا رجل بحق الله؟!
- أكتب.
- ماذا تكتب؟!
- قصيدة.
- بدمك؟
- منعوا عني القلم، ولا بد أن أكتب.
- لم لا بد أن تكتب؟!
لم يجبه، نظر إليه قليلًا ثم أصدر ذاك الأنين الخافت الغير مفهوم، وغمس العود بدمه ثانيةً.
عرف الآن الرائحة، هكذا حدّث العريف نفسه، إنها رائحة الدم الطازج، والرطوبة الباردة.
يا لهذا الشعور، لقد بدأ يختنق هنا، هذا الباب اللعين كيف أنغلق عليه؟ أخذ يلوم غبائه، ثم بدأ بلوم حظه، فكر في زوجته، تخيل لو أنه مكان هذا المعتوه الذي يكتب قصائد بدمه، فكر في ابنته، أحس بأنفاسه تتقطع وأخذ يغيب عن العالم تدريجيًا.
كأنما كان قد غفى حينما سمع اسمه، فتح عينيه بسرعة فلمح رئيسه واقفًا بالباب، ناداه فهب واقفًا، تلفت الرئيس ومصطفى مكومٌ في الزاوية اليسرى من عتمة الزنزانة.
-هل آذاك يا رشوان؟
-لا يا سيدي، لم يفعل.
ترك الرئيس الباب مُشرعًا ليلحق به رشوان مبررًا ما حدث بصوتٍ بدأ يتخافت، ونظر الأخير مليًا إلى مصطفى قبل أن يُسقط قلمًا مملوءً بالحبر من جيبه سريعًا ليستقر بجوار الرجل.