يقول المولى عز وجل في سورة الحجرات ( وَلَا
تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن
يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ
اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ) ، والتوجيه الإلهي هنا في قول الحق (وَلَا
تَجَسَّسُوا) هو توجيه بأن لا يتتبع بعضنا عورة بعض ، ولا يبحث عن سرائره ،
يبتغي بذلك الاطلاع على عيوبه ، والاقتناع بما ظهر لنا من أمره ، وبه فحمدوا أو
ذموا ، لا على ما لا نعلمه من سرائره
.
والمقدمة السابقة هي مدخل ضروري لحديثي عن
واحدة من أهم سلبيات ونتائج التطور التكنولوجي الذي أصاب العالم خلال القرن
الماضي ، وظهور ثورة الاتصالات الهائلة فيه ، وهو ما ترتب عليه أن أصبحت
الأحاديث الشخصية بين الأشخاص عرضة للالتقاط والتسجيل والإفشاء ، ولعل ظهور
أجهزة الاتصالات الذكية والمتطورة ، وما جاءت به من تقدم تقني ، وبخاصة في مجال
تسجيل المكالمات الصادرة منه والواردة إليه ، وهو ما نتج عنه العديد من
الإشكاليات أو الفضائح على وجه التحديد ، فلا تخلوا مواقع التواصل الاجتماعي
بين اليوم والآخر من مكالمة ، أو حديث خاص مسرب عمداً ، وبما يحمله من الفاظ
وعبارات أحيانا ما تكون خادشه للحياء العام ، وتصريحات وشتائم ، ومؤامرات
وتربيطات واتفاقات ، وتفسيرات أحياناً لأحداث عاصرناها ولكننا في وقتها لم نكن
نملك تفسير لها ، ثم تأتي تلك التسريبات لتضع النقاط فوق الحروف ، وتزيل الغموض
عن بعض المواقف ، بل وبعض المؤامرات أحياناً .
ولست هنا في مقام الحديث عن إشكالية تسجيل
المكالمات ، وما تمثله من تعارض مع مضمون توجهات الدستور المصري وبخاصة المادة 45
منه ، والتي أكدت على حرمة الحياة الخاصة ، فالدستور كفل حرية الرأي وحرية
المراسلات والمحادثات وكل حريات الأفراد ، والاعتداء علي هذه الحريات يستوجب
معاقبة المعتدي ، ومنذ عام 1971 حظر القانون التنصت علي المحادثات التليفونية ،
وذلك لأنها من الحريات الشخصية للأفراد ، فلا يجوز لأي شخص مهما كان أن يعتدي
علي هذه الحرية ، ويقوم بالتنصت أو التسجيل لهذه المحادثات ، وكما يسري هذا الحظر
علي الأفراد العاديين ، فإنه يسري كذلك علي السلطة التنفيذية في الدولة ،
والقانون قد كفل ووضع ضمانة للأمر بالتسجيل ، فلم يعطه للنيابة العامة شأن أذون
التفتيش ، وإنما أعطاه للقاضي وحده ، فهو الذي يصدر الإذن للجهة المختصة لتسجيل
المحادثات التليفونية ولا يكون ذلك إلا حين نكون بصدد جريمة وتكون الدلائل مؤكدة
علي ارتكاب المتهم جريمة معينة ، فيتم التسجيل لضبطها ، مثال ما يحدث في حالة
قضايا الرشوة ، ويترتب على ذلك أنه إذا قام شخص من تلقاء نفسه بتسجيل محادثة
تليفونية لشخص آخر دون رضاه ودون علمه ، فإنه يقع تحت طائلة القانون ، ويستوجب
العقاب طبقا لقانون العقوبات
.
إلا أنه على الرغم من تحريم وتجريم هذا العمل
الدنيء ، إلا أن البعض منا يصر بكل تبجح واستخفاف على هذا الفعل اللا أخلاقي ،
ولا يكتفي بمجرد تسجيل حوار خاص دار بينه وبين شخص اخر (وبدون الحصول على تصريح
منه) ، بل أنه يبادر إلى إذاعته على مواقع التواصل الاجتماعي بكل تبجح ، ولعلني
تناولت واقعة التسجيل التي تمت في احدى الجلسات الخاصة بين عدد من الزملاء
المحامين في جلسات الترتيب لانتخابات توحيد النقابات من أسبوعين تقريباً ، وما
خلفته تلك الواقعة من حالة من الجدل على ما جاء بمضمون هذا التسريب ، إلا أنني لم
اجد من يتحدث عن أن هذا الآمر هو عمل لا أخلاقي ودنيء وغير قانوني أيضاً ،
ولعلني زالت عنى تلك الدهشة بعد ما توصلت بالبحث المتخصص عبر موقع الفيسبوك ، الى
عـدد هائل من المكالمات الخاصة المسربة عن عمد بين شخصيات عامة ، سواء لاعبين كرة
قدم ، أو مسئولين سابقين باتحاد كرة القدم ، ولعل أكثرها فجاجة هو عدد من
المكالمات المسربة لواحد من الشخصيات العامة ، والذي كان عضو بالجهاز التدريبي
لمنتخب مصر لكرة القدم الأول في وقت ما ، وكان يطمح في رئاسة نادي قاهري كبير
وعريق ، إلا أنه خسر أمام رئيسة السابق ، وما تضمنته تلك المكالمات من
مؤامرات وتربيطات بين هذا الشخص ، والذي لم يتورع عن توجيه الشتائم والبذاءات
لرموز هذا النادي العريق ، حتى وصل به الحال إلي أن سب واحد من رموزه التاريخية
بلفظ خارج ويعرضه للمسائلة القانونية ، بل ذهب به الحال إلي مناقشة مخططات التآمر
على غريمه بانتخابات رئاسة النادي مع صحفي صاحب قناة على اليوتيوب ، وبرنامج
رياضي تلفزيوني تم إيقافه فيما سبق ، وبعد أن طلب منه مهاجمة بعض خصومة .
وأجدني أتساءل مستنكراً ... هل وصل الحال
بالبعض منا الي هذا المستوى من عدم الأمانة ، وهل انحدرت قيم الأخلاق لدى البعض
منا حتى وصلت به الى تحوله من شخص مؤتمن الي شخص خائن ، يفضح وينشر عن عمد ما تم
الإسرار اليه به من أحاديث خاصة لا يجوز مجرد التصريح بها للغير ، فما بالك
بأنه قام بطرحها على العامة بمواقع التواصل الاجتماعي، مما جعلها متاحة للملايين
من مستخدمي تلك المواقع
!
حديثي هنا ليس الغرض منه مناقشة التبعات
القانونية حول هذا المسلك البشري الشائن ، بل حول افتقار البعض منا الي قيم
الأمانة ، فالآية الكريمة وما حملته من تشبيه لمن يرتكب فعل الاغتياب وافشاء
الأسرار كمن يأكل لحم أخيه ميتاً ، وهو تشبيه غاية في الصعوبة ، ولما كان
المغتاب متفكهًا بغيبته وذمِّه ، متحليًا بذلك ، شبه بأكل لحم أخيه بعد تقطيعه ،
ولما كان المغتاب محبًا لذلك معجبًا به ، شبه بمن يحب أكل لحم أخيه ميتًا ،
ومحبته لذلك قدر زائد على مجرد أكله ، كما أن أكله قدر زائد على تمزيقه ، فتأمل هذا التشبيه والتمثيل وحسن موقعه
ومطابقة المعقول فيه للمحسوس ، وتأمل أخباره عنهم بكراهة أكل لحم الأخ ميتًا ،
ووصفهم بذلك في آخر الآية ، والإنكار عليهم في أولها أن يحب أحدهم ذلك ،
فكما أن هذا مكروه في طباعهم ، فكيف يحبون ما هو مثله ونظيره ؟
إلي هنا انتهي حديثي حول هذا الآمر ، ولعل ما
خلصت إليه بعد ما استمعت إلى تلك التسريبات المتداولة والمطروحة على المواقع ، هو
ضرورة الحرص والتزام الحيطة والحذر في أي حديث يتم تناوله هاتفياً أو في جمع بين
الناس، فالتكنولوجيا الحديثة وجه سيء يصر البعض منا على استغلاله في إيذاء
الآخرين .