الإثنين 29 ابريل 2024

وَلَا تَجَسَّسُوا

أخرى27-12-2020 | 09:31

يقول المولى عز وجل في سورة الحجرات ( وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ) ، والتوجيه الإلهي هنا في قول الحق (وَلَا تَجَسَّسُوا) هو توجيه بأن لا يتتبع بعضنا عورة بعض ، ولا يبحث عن سرائره ، يبتغي بذلك الاطلاع على عيوبه ، والاقتناع بما ظهر لنا من أمره ، وبه فحمدوا أو ذموا ، لا على ما لا نعلمه من سرائره .

والمقدمة السابقة هي مدخل ضروري لحديثي عن واحدة من أهم سلبيات ونتائج التطور التكنولوجي الذي أصاب العالم خلال القرن الماضي ، وظهور ثورة الاتصالات الهائلة فيه ، وهو ما ترتب عليه أن أصبحت الأحاديث الشخصية بين الأشخاص عرضة للالتقاط والتسجيل والإفشاء ، ولعل ظهور أجهزة الاتصالات الذكية والمتطورة ، وما جاءت به من تقدم تقني ، وبخاصة في مجال تسجيل المكالمات الصادرة منه والواردة إليه ، وهو ما نتج عنه العديد من الإشكاليات أو الفضائح على وجه التحديد ، فلا تخلوا مواقع التواصل الاجتماعي بين اليوم والآخر من مكالمة ، أو حديث خاص مسرب عمداً ، وبما يحمله من الفاظ وعبارات أحيانا ما تكون خادشه للحياء العام ، وتصريحات وشتائم ، ومؤامرات وتربيطات واتفاقات ، وتفسيرات أحياناً لأحداث عاصرناها ولكننا في وقتها لم نكن نملك تفسير لها ، ثم تأتي تلك التسريبات لتضع النقاط فوق الحروف ، وتزيل الغموض عن بعض المواقف ، بل وبعض المؤامرات أحياناً .

ولست هنا في مقام الحديث عن إشكالية تسجيل المكالمات ، وما تمثله من تعارض مع مضمون توجهات الدستور المصري وبخاصة المادة 45 منه ، والتي أكدت على حرمة الحياة الخاصة ، فالدستور كفل حرية الرأي وحرية المراسلات والمحادثات وكل حريات الأفراد ، والاعتداء علي هذه الحريات يستوجب معاقبة المعتدي ، ومنذ عام 1971 حظر القانون التنصت علي المحادثات التليفونية ، وذلك لأنها من الحريات الشخصية للأفراد ، فلا يجوز لأي شخص مهما كان أن يعتدي علي هذه الحرية ، ويقوم بالتنصت أو التسجيل لهذه المحادثات ، وكما يسري هذا الحظر علي الأفراد العاديين ، فإنه يسري كذلك علي السلطة التنفيذية في الدولة ، والقانون قد كفل ووضع ضمانة للأمر بالتسجيل ، فلم يعطه للنيابة العامة شأن أذون التفتيش ، وإنما أعطاه للقاضي وحده ، فهو الذي يصدر الإذن للجهة المختصة لتسجيل المحادثات التليفونية ولا يكون ذلك إلا حين نكون بصدد جريمة وتكون الدلائل مؤكدة علي ارتكاب المتهم جريمة معينة ، فيتم التسجيل لضبطها ، مثال ما يحدث في حالة قضايا الرشوة ، ويترتب على ذلك أنه إذا قام شخص من تلقاء نفسه بتسجيل محادثة تليفونية لشخص آخر دون رضاه ودون علمه ، فإنه يقع تحت طائلة القانون ، ويستوجب العقاب طبقا لقانون العقوبات .

 

إلا أنه على الرغم من تحريم وتجريم هذا العمل الدنيء ، إلا أن البعض منا يصر بكل تبجح واستخفاف على هذا الفعل اللا أخلاقي ، ولا يكتفي بمجرد تسجيل حوار خاص دار بينه وبين شخص اخر (وبدون الحصول على تصريح منه) ، بل أنه يبادر إلى إذاعته على مواقع التواصل الاجتماعي بكل تبجح ، ولعلني تناولت واقعة التسجيل التي تمت في احدى الجلسات الخاصة بين عدد من الزملاء المحامين في جلسات الترتيب لانتخابات توحيد النقابات من أسبوعين تقريباً ، وما خلفته تلك الواقعة من حالة من الجدل على ما جاء بمضمون هذا التسريب ، إلا أنني لم اجد من يتحدث عن أن هذا الآمر هو عمل لا أخلاقي ودنيء وغير قانوني أيضاً ، ولعلني زالت عنى تلك الدهشة بعد ما توصلت بالبحث المتخصص عبر موقع الفيسبوك ، الى عـدد هائل من المكالمات الخاصة المسربة عن عمد بين شخصيات عامة ، سواء لاعبين كرة قدم ، أو مسئولين سابقين باتحاد كرة القدم ، ولعل أكثرها فجاجة هو عدد من المكالمات المسربة لواحد من الشخصيات العامة ، والذي كان عضو بالجهاز التدريبي لمنتخب مصر لكرة القدم الأول في وقت ما ، وكان يطمح في رئاسة نادي قاهري كبير وعريق ، إلا أنه خسر أمام رئيسة السابق ، وما تضمنته تلك المكالمات من مؤامرات وتربيطات بين هذا الشخص ، والذي لم يتورع عن توجيه الشتائم والبذاءات لرموز هذا النادي العريق ، حتى وصل به الحال إلي أن سب واحد من رموزه التاريخية بلفظ خارج ويعرضه للمسائلة القانونية ، بل ذهب به الحال إلي مناقشة مخططات التآمر على غريمه بانتخابات رئاسة النادي مع صحفي صاحب قناة على اليوتيوب ، وبرنامج رياضي تلفزيوني تم إيقافه فيما سبق ، وبعد أن طلب منه مهاجمة بعض خصومة .

 

وأجدني أتساءل مستنكراً ... هل وصل الحال بالبعض منا الي هذا المستوى من عدم الأمانة ، وهل انحدرت قيم الأخلاق لدى البعض منا حتى وصلت به الى تحوله من شخص مؤتمن الي شخص خائن ، يفضح وينشر عن عمد ما تم الإسرار اليه به من أحاديث خاصة لا يجوز مجرد التصريح بها للغير ، فما بالك بأنه قام بطرحها على العامة بمواقع التواصل الاجتماعي، مما جعلها متاحة للملايين من مستخدمي تلك المواقع !

حديثي هنا ليس الغرض منه مناقشة التبعات القانونية حول هذا المسلك البشري الشائن ، بل حول افتقار البعض منا الي قيم الأمانة ، فالآية الكريمة وما حملته من تشبيه لمن يرتكب فعل الاغتياب وافشاء الأسرار كمن يأكل لحم أخيه ميتاً ، وهو تشبيه غاية في الصعوبة ، ولما كان المغتاب متفكهًا بغيبته وذمِّه ، متحليًا بذلك ، شبه بأكل لحم أخيه بعد تقطيعه ، ولما كان المغتاب محبًا لذلك معجبًا به ، شبه بمن يحب أكل لحم أخيه ميتًا ، ومحبته لذلك قدر زائد على مجرد أكله ، كما أن أكله قدر زائد على تمزيقه ،  فتأمل هذا التشبيه والتمثيل وحسن موقعه ومطابقة المعقول فيه للمحسوس ، وتأمل أخباره عنهم بكراهة أكل لحم الأخ ميتًا ، ووصفهم بذلك في آخر الآية ، والإنكار عليهم في أولها أن يحب أحدهم ذلك ، فكما أن هذا مكروه في طباعهم ، فكيف يحبون ما هو مثله ونظيره ؟

إلي هنا انتهي حديثي حول هذا الآمر ، ولعل ما خلصت إليه بعد ما استمعت إلى تلك التسريبات المتداولة والمطروحة على المواقع ، هو ضرورة الحرص والتزام الحيطة والحذر في أي حديث يتم تناوله هاتفياً أو في جمع بين الناس، فالتكنولوجيا الحديثة وجه سيء يصر البعض منا على استغلاله في إيذاء الآخرين .

    Dr.Randa
    Dr.Radwa