الأربعاء 26 يونيو 2024

«الهلال اليوم» تنشر الموضوع الفائز بجائزة الصحافة الفنية المصرية 2020 لخليل زيدان

فن28-12-2020 | 19:36

تنشر الهلال اليوم الموضوع الفائز بجائزة نقابة الصحفيين هذا العام في الصحافة الفنية (المركز الثاني) للزميل خليل زيدان والذي نشر في مجلة الكواكب عدد 18 بتاريخ يونيه 2019.

 

انفراد.. بعد 58 عاماً من الصمت..عازف التشيللو مجدي فؤاد:

هذه أسرار مملكة أم كلثوم

 

مازالت مملكة أم كلثوم تحوي العديد من الأسرار، وفي رحلة البحث والتنقيب لمعرفة المزيد من مقومات نجاح وخلود أم كلثوم، تحدث أخيراً أبو الهول فرقة أم كلثوم، نجم الشيللو اللامع مجدي فؤاد ليكشف العديد من الأسرار التي تنشر لأول مرة، فهو الآن مقيم باستراليا واستطعنا أن نتواصل معه ليخصنا بحوار بديع وشيق، فمن المعروف أن فرقة أم كلثوم كانت الدعامة الأولى لنجاحها، وكما خلدت أم كلثوم نفسها خلدت معها أنغام فرقتها التي تعد أروع الفرق الموسيقية في الشرق الأوسط في الماضي القريب، ومجدي فؤاد رمز من رموز الجمال، فقد كان القابع مع فريق الخلود الموسيقي خلف سيدة الغناء العربي .. لم نسمع له ولهم أبداً أي صوت إلا الأنغام الشجية التي كانت ومازالت تؤثر في مشاعرنا وتشكل وجداننا، فآلته التي يعزف عليها هي صوت الضمير ومحرك الأشجان.


لوالد فنان وعازف في الوسط الفني ولد مجدي فؤاد بولس في 25 فبراير 1941 بشارع شبرا في القاهرة، وفي طفولته تشبع بنغمات والده الساحرة، وكانت النواة الأولى لحبه للفن، وفي صباه بدأ مجدي العزف على البيانو الموجود في بيتهم، لكن والده رفض ميوله الفنية وقام ببيع البيانو، فهو يريده أن يلتحق بإحدى الكليات بعد الثانوية العامة.

 

ــ متى بدأ حبك للموسيقى وكيف أصقلت موهبتك؟

بدأ شغفي بالفن والعزف في مرحلة الصبا، فقد كان والدي عازفاً للكمان والبيانو، ورغم تعليمات والدي بألا أتجه للفن وأن ألتحق بالجامعة، إلا أن الحظ حالفني بافتتاح المعهد العالي للتربية الموسيقية "الكونسرفتوار"، والذي يمنح شهادة البكالوريوس، ووافق والدي أن ألتحق به في أول دفعة له، وشجعني بأن طلب مني التخصص في آلة التشيللو، واشتري لي آلة للمذاكرة عليها، وأيضاً بيانو جديد غير الذي باعه، واستمرت المذاكرة خمس ساعات يومياً أثناء الدراسة، وتعلمت على أيدي كبار الأساتذة، كما تابعت عزف العديد منهم حتى أستقي كل أساليبهم لأبدأ في تكوين أسلوب منفرد لنفسي يحمل كل أساليبهم.

 

ــ كيف بدأت مشوارك الفني؟

رغم أني درست في المعهد خمس سنوات، حصلت في السنوات الأربع على المركز الأول، لكن في السنة الخامسة حصلت على المركز الرابع، ولم أغضب من ذلك التقدير، لأني شعرت أنه جاء لصالحي، فلو كنت الأول لبقيت في المعهد معيداً ومدرساً، لكن ما حدث أتاح لي الفرصة بأن أبدأ العمل في الفرق الصغيرة، وفيها تعمدت أن أكون صاحب أسلوب مميز بما اكتسبته من خبرات الصبا والدراسة.

 

ــ متى التحقت بفرقة أم كلثوم؟

من ضمن الفرق التي عملت بها كانت فرقة النيل، التي كونها عازف الكمان الماهر عبد العظيم عبد الحليم، وتصادف أن جاء الموسيقار رياض السنباطي لتنفيذ لحن له مع فرقتنا، وكنا نقوم بعمل البروفات في معهد الموسيقى العربية، ومن طبعي الحضور مبكراً للتدريب، وأثناء عزفي رآني السنباطي واستمع إلي دون أن يعلق، وبعد البروفة الثانية تقدم مني وسألني: تحب تشتغل مع الست أم كلثوم؟ وهنا لم أصدق نفسي، وقلت له هذه أمنية حياتي، ولاحظ الموسيقار فرحتي بالفرصة التي أتاحها لي فقال: نلتقي غداً في العاشرة والنصف بمنزل أم كلثوم، وكان ذلك في بداية عام 1961.

 

ــ ما هو انطباع أم كلثوم الأول عنك؟

لا أخفيكم سراً أني أمتلك لفتة ذكاء، وتتجسد في حرصي أولاً على الحضور المبكر، ثم بقائي بعد إتمام البروفات وانصراف العازفين، وكان هدفي هو لفت انتباه السيدة أم كلثوم لقيمة الشيللو، فهو الصوت الأعمق لصوت الكمنجات، فشعرت أم كلثوم بأن الشيللو يغني معها ويصاحب صوتها، وهو الذي يحقق التوازن في اللحن، فارتاحت لوجودي الذي أصبح ضرورياً في الفرقة بعد أن شعرت بأني أضفت جمالاً على الألحان.

 

ــ حدثنا عن براعة الفرقة رغم عزفهم بدون نوتة؟

اتسمت فرقة أم كلثوم بشئ فريد، وهو عدم استخدام النوتة الموسيقية، وكانت أم كلثوم هي التي تصر على ذلك، وكنت قد التحقت بالفرقة الماسية كعمل إضافي بجانب عملي مع أم كلثوم وكان ذلك في عام 1964، وكانت الماسية تستخدم النوتة في كل الألحان التي تنفذها، لكن أم كلثوم كانت تعتمد على مهارة العازفين، فهي تعلم أن ما في قلب العازف أروع مما في النوتة، فحسب ما لمسناه منها أنها تريدنا أن نمتص اللحن ونتذوقه، ثم نعزف بما ترسب في وجداننا، وهذا هو الفرق وسر البراعة الذي أنتجته فكرة أم كلثوم، فقد كنا نجري البروفات بوجود الملحن وكنا نستشف ما يريده، ونعرف ما بين السطور ومالا يقدر على رصده في النوتة، وهنا نخرج إحساسنا مع تنفيذ ما يجيش في وجدان الملحن، فنبرع جميعاً في العزف لتظهر الألحان كما سمعتموها.

 

ــ أين كانت تقام البروفات وما هي طقوسها؟

بروفات الأغنية الجديدة كانت تقام إما في منزل أم كلثوم أو في منزل الملحن لو كان الموسيقار عبد الوهاب، أو في ستوديو 35 في الإذاعة، وكانت تقام يومياً لمدة شهر في العاشرة والنصف صباحاً، وأكثر الملتزمون بالمواعيد هم السيدة أم كلثوم والموسيقار عبد الوهاب والموسيقار السنباطي، لكن بليغ حمدي كان يتأخر حتى الحادية عشرة، وكنا نأتي جميعاً قبل الموعد لتجهيز الآلات والإستعداد للعزف، وتمتد البروفة الواحدة لساعة كاملة، وفي أول بروفة نقوم بعزف شامل للحن لنأخذ فكرة عنه، ثم نقوم بعزف كل جزء على حده بعد ذلك، وخلال الشهر مع الإعادات والتكرار نكون قد أضفنا أحاسيس الملحن للحن، ثم يأتي يوم تسجيل اللحن، ويبدأ في الحادية عشرة صباحاً، ومع الوقفات والتحسينات ننتهي من التسجيل في الرابعة صباح اليوم التالي، وكانت تلك هي أسطوانة كاملة وتسمي أسطوانة الحفلات، وبعد ذلك تذهب أم كلثوم مع الملحن لمدة 15 يوما لإختيار كوبليهات كي تصنع منها أسطوانة استوديو مختصرة بدون تكرار أو إعادة.

 

ــ ما سر تفوق أم كلثوم وخلود صوتها؟

أم كلثوم كانت حالة فريدة في الطرب الشرقي، فقد كانت تتقمص حالة الأغنية وتعيشها، وتتعمد التكرار بالإنفعالات لكي تجسد الحالة العاطفية في الأغنية، أي كانت تعيش الحدث وتحكيه، وفي الإعادة تعيد الدرس كأنها مدرس يلقي الدرس بطريقة أخرى، ونحن جميعاً كعازفين تعلمنا منها واستفدنا من طرق أدائها، وفي كل لحن طوال مسيرتنا كنا نتعلم منها الجديد، وكانت بارعة في التنقل من مقام إلى مقام برشاقة، وتقوم بعمل تداخل بين المقامات، وأخذنا عنها تلك البراعة كي ندرسها، ويحسب لها أنها من وضعت لنا تلك القواعد، وأؤكد لكم وأنا أعيش في استراليا الآن أني أتفاجأ بما أراه على في وسائل التواصل والقنوات الفضائية، فأجد أحاديث لبعض الشخصيات تقحم نفسها في حياة أم كلثوم وتروي عنها حكايات لا أساس لها من الصحة، ويفعلون ذلك للفت الأنظار إليهم، وأرى كذبهم أمام المذيعات اللاتي لا يعرفن تاريخ أم كلثوم، وبالتالي يصنعون تاريخاً زائفاً عنها، وهم لم يقتربوا منها أو عاشوا معها.

 

ــ لماذا أصرت أن يكون لها فرقة خاصة بها؟

هي كانت صاحبة مملكة طربية، ولابد أن يكون لها فرقة خاصة وجاهزة لتنفيذ البروفات والحفلات، فكل نجوم الطرب كانوا يعانون بسبب عدم وجود فرقة تنفذ ألحانهم وحفلاتهم، لكن بتكوين فرقة لأم كلثوم أصبحت قادرة على تنفيذ البروفات في الأوقات التي تحددها هي وأيضا تقيم الحفلات في أي وقت تشاء، وقد انتقت من الفرقة الماسية ستة أفراد وضمتهم لفرقتها، وعند إجراء أي بروفة لها أو إقامة حفلاتها تؤجل أي حفلات للماسية، ولم يكن أي ملحن أو مطرب يجرؤ على إقامة أي حفل يتزامن مع حفل أم كلثوم، فهو يعلم النتيجة مسبقاً، ولن يتجه أي فرد لسماعه، فالجمهور العربي كله كان ينتظر حفلات أم كلثوم.

 

ــ هل كانت تتعامل بحزم مع أفراد الفرقة؟

بالعكس.. أم كلثوم كانت مهذبة جداً وعلى درجة عالية من الثقافة، وكانت لطيفة جداً ولم تتعامل معنا أبداً بحدة، فقد كانت تثق فينا وتعرف قدرنا ومهارتنا، وكنا وهي مع الملحن أسرة واحدة، وتآلف فني ينتج عنه قفشات جميلة وتعليقات ظريفة في البروفات تضفي على الجو مرح وبهجة، وكانت تنادي كل فرد بكلمة أستاذ قبل إسمه هي والموسيقار عبد الوهاب .. ورغم أن الموسيقار السنباطي عصبي بعض الشئ إلا أنه طيب القلب، وقد حدث ذات مرة أن طلب من أحد العازفين القدامى في الفرقة أن يعزف وحده منفرداً ، وكان من الطبيعي أن يكون آداء العازف الكبير ليس كسابق عهده وشبابه، وهنا أدركت أم كلثوم ما سيحدث، فقد يستاء العازف الكبير من طلب السنباطي، فقالت على الفور: لا.. لا.. قولوا مع بعض، وأثبتت بأنها لا تسمح بإحراج أي فرد من أفراد فرقتها.

 

ــ ما أصعب المواقف التي تعرضت لها أم كلثوم؟

من المؤكد أن أصعب موقف مرت به كان سقوطها على أرض المسرح في باريس، فقد فوجئنا جميعاً بشاب جزائري قد تسلل من الأمن وحراس المسرح، وقفز على المسرح ليعبر لأم كلثوم عن شعوره ويقبل قدميها، وكانت أم كلثوم تعيش في كلمات الأغنية ولا ترى أي شئ في الدنيا، ثم شعرت بيد تجذب قدمها فحاولت أن تتراجع، وكادت أن تسقط سقطة مهينة على الأرض، وكان حسين معوض عازف الرق راصداً للموقف، فجرى بسرعة هو والحفناوي وقاما بسندها حتى لا يتم السقوط الكامل، ورغم ما حدث فلم تشأ السيدة أم كلثوم أن تفسد الحفل، فكانت شديدة الذكاء والدبلوماسية، وكانت وقتها تشدو بقصيدة الأطلال، وقد أخذت الشرطة الشاب وكادوا يبرحونه ضرباً لولا أن أشارت لنا لنبدأ العزف ثم غنت وأشارت على الشاب وهو بين أيدي رجال الشرطة وهي تقول: هل رأى الحب سكارى.. سكارى؟ فتعاطف الجمهور معها وانقلبت الأزمة إلى موقف طريف.

 

ــ في رحلة أم كلثوم إلى ليبيا عام 1969 هل كادت الطائرة أن تسقط بكم ؟

أتذكر في 10 مارس 1969 وصلنا إلى مطار بنغازي عصراً وبعد استقبال حافل لأم كلثوم والفرقة والوفد الصغير المرافق لها من الجمهور الليبي وكبار المسئولين، ركبنا طائرة أخرى إلى طرابلس لإحياء الحفل الأول في 12 مارس، والرحلة كانت من أجل المجهود الحربي ودعم الفدائيين في منظمة فتح.. وكان على أم كلثوم أن تلبي بعض الدعوات من العائلة السنوسية وحفل سفارات العرب وجهات أخرى في طرابلس، وحان موعد الحفل الثاني والذي يقام في بنغازي، وركبنا الطائرة من طرابلس إلى بنغازي مساء 17 مارس وبعد أن ارتفعت الطائرة في السماء بقليل تعرضت لمطبات هوائية شديدة، وظلت الطائرة تتأرجح لمدة طويلة، وتعالت الصرخات والخوف من أن تسقط في البحر، وشعرنا جميعاً بأنها اللحظات الأخيرة في حياتنا، أما أم كلثوم فقد جلست في مقعدها ثابتة تتلو القرآن في الوقت الذي فزع وصرخ فيه الجميع وأصيب البعض بالإغماء، وبعد فترة طويلة على هذا الحال استقامت الطائرة وفرح الجميع بالعمر الجديد الذي كتبه الله لنا، وفي اليوم التالي أقمنا الحفل الثاني في بنغازي بليبيا.

 

ــ هل هذه أول مرة تتعرضون فيها للمخاطر في الرحلات الخارجية؟

لا.. بل كانت هناك مخاطر أخرى شبيهة لنفس الحدث في المغرب، وذلك عندما تمت دعوة أم كلثوم عام 1968 من قبل ملك المغرب الحسن الثاني لإقامة عدة حفلات بمناسبة ذكرى ميلاد إبنه الملك الحالي محمد السادس، أو ذكرى جلوسه على العرش، وكان هناك استقبال حافل في الرباط ينتظر أم كلثوم، وحاول قائد الطائرة الهبوط عدة مرات في مطار الرباط، لكنه وجد مطبات هوائية وصعوبة في الهبوط، وقد دب الفزع والخوف في نفوس الجميع، وأصبت بالإغماء من هول الموقف، وبعد أن أفقت عرفت أن الطائرة هبطت بنا في الدار البيضاء، وفي المطار وجدنا سيارات ملكية أقلت أم كلثوم وأفراد فرقتها إثنين بكل سيارة، وأعادتنا إلى الرباط مكان إقامة الحفلات، وهذه الحفلات كانت للشعب المغربي، وأقمنا حفل خاص في مراكش للملك وأسرته وبعض أفراد الأسرة الملكية.

 

ــ حدثنا عن طرائف حفلات أم كلثوم؟

أتذكر في إحدى الحفلات كنا نعزف ورائها لحن أغنية "ودارت الأيام"، وكانت أحياناً من شدة اندماجها تنسى بعض الكلمات، ولاحظت أنها لا تتذكر كلمة "وقابلني"، فنظرت إلى حسين معوض الذي يعزف بجانبي فأبلغني بالكلمة، وبدوري اقتربت برفق من عباس عظمة وقلت له: "وقابلني يا عظمة" .. فتحرك عباس بخفة بالباص دون أن يشعر أحد ليبلغ العازف القريب من أم كلثوم بالكلمة، وقال له عظمة مرتين: وقابلني.. وقابلني ، ولم يرد عليه العازف، فأعاد عظمة الكلمة مرة ثالثة، وهنا التفت إليه العازف قائلاً له بصوتٍ عالٍ: "واقابلك فين يا أخي"، وسمعنا الرد جميعاً وكدنا ننفجر في الضحك، وانتبهت أم كلثوم لذلك الموقف الطريف الذي لم يشعر به الجمهور.. ومن الطرائف أيضاً ما حدث في المغرب، فقد ذهبنا لإقامة حفلات خاصة للملك الحسن الثاني في أعياد ميلاد إبنه، وكان الرجل عاشقا للفن المصري ولصوت أم كلثوم، وأثناء الغناء انفعل الملك وأعطى إشارات بلحن مغربي، وفهمنا من إشارته أنه يريد تغيير اللحن للطابع المغربي، فقمت بتنبيه حسين معوض وعباس فؤاد "عظمة" بإشارة مخفية بما يريده الملك، وبدلنا جميعاً العزف من الطابع المصري إلى المغربي، وهنا التفتت أم كلثوم التي تفاجأت بالتغيير ونظرت إلي، فأشرت لها بالقوس على الملك، ونظرت إليه فوجدته يشير ويطلب التغيير، فانفجرت في الضحك، وبعد الحفل عاتبتنا ضاحكة بأننا نريد مجاملة الملك على حساب لحنها، فضحكنا جميعاً.

 

ــ هل أثرت فترة مرض أم كلثوم على العازفين؟

بالطبع، فقد كنا قبل كل شئ أسرة واحدة، وكانت هي بمثابة الآلة الموسيقية ونحن أوتارها، فعلى الجانب الإنساني تألمنا لمرضها فقد كانت هرم مصر في الموسيقى والطرب، ولم نتأثر مادياً، فمعظم العازفون ورائها كانوا أساتذة يقومون بالتدريس، وهناك ستة منهم كانوا يعملون بالفرقة الماسية التي نحيي فيها حفلات لفايزة وحليم ونجاة ووردة وصباح وغيرهم من نجوم الطرب، وأم كلثوم لم تكن تمنع أي منا بالعمل في أي فرقة أو أي مكان، شريطة أن نكون جاهزين عند طلبها لنا، وبالتالي كان لنا دخل آخر سواء من التدريس أو من العزف مع الماسية.

 

 

 ــ من المؤكد أن وراء خلود أنغامكم أسرار.. فما هي؟

يجب أن أؤكد أن كل عازفي فرقة أم كلثوم كانوا يعشقون العزف، ليس لمجرد أنه وسيلة للعمل أو كسب الرزق، بل لتحقيق التألق والإبداع، فقد صارعنا الحياة وواجهنا غضب الأهل لكي نحترف الموسيقى ونحقق رغبتنا الدفينة، وأهم عوامل البراعة هو العزف بدقة متناهية وعدم احتمالية النشاذ، فكنا نعزف بإحساسنا ومن وجداننا لتتقابل انفعالاتنا وتنسجم مع ما يجول بخاطر الملحن، والعازف المبدع هو الذي يستخرج من آلته أروع النغمات .. أما الآلات الموسيقية في فرقة أم كلثوم فكانت جميعها غالية الثمن ومصنوعة يدوياً عند فنانون وصناع مهرة، علاوة على تجانس أفراد الفرقة وتكاملهم، فلا توجد فردية، فهي تحدث بلبلة، وكنا نتعامل بروح الفريق، ومن يرد منا أن يبدع ويتميز فكنا نفسح له الطريق، وكانت هناك توزيعات داخلية بيننا تشكل مراحل الإبداع الجماعي.

 

ــ هل أثرت حفلات المجهود الحربي على أجور الفرقة؟

حقيقة لم نقابل أحد في كرم أم كلثوم، فقد كانت تقيم الحفلات للمجهود الحربي في مصر وخارجها، خصوصاً بعد نكبة 1967، وكانت هي تتحمل نفقاتنا وأجورنا، فقد كانت تريد أن نكون سعداء وتحافظ على مورد دخلنا، لذلك كانت تدفع للفرقة أجورها من مالها الخاص، أما إيراد الحفلات والتبرعات فقد كانت تجمعها وتسلمها للمسئولين ولا تتقاضي أي أجر عن أي حفل أقامته للمجهود الحربي، ولم تواجهنا أي عقبات في حفلاتنا، فكنا نجد دائما المسئولين ومنظمي الحفلات يسهلون لنا كل إجراءات السفر والإقامة.

 

ــ حدثنا عن علاقتك بأم كلثوم على المستوى الشخصي؟

لا أعرف كيف أصف لكم شخصية أم كلثوم المثقفة الإنسانة والفنانة المتواضعة، التي تحترم الغير ولها أفكار مبهرة في الفن والحياة، وأتذكر أنني كنت أعمل ببعض الوظائف الخارجية في بعض الوزارات، أثناء عملي معها، وقد صادفتني عدة عقبات عند التنقلات فلجأت إليها وعلى الفور أجرت اتصالات بالمسئولين وتم تذليل العقبات، وكذلك كل أفراد الفرقة، من يواجه أي عقبة في أي مؤسسة كانت تسرع لخدمتنا وتتصل بالمسئولين، وعند وصولنا إليهم نجد منهم عتاباً خفيفاً قائلين: لماذا أجهدتم الست وجعلتموها تتصل بنا، لو جئتم إلينا لحققنا لكم مطالبكم، فلكم جميعاً مكانة عالية عندنا وعند الشعب المصري.

 

ــ صرح الفنان عبد الحليم حافظ بأنه تعرض لموقف لا يعرف هل هو تكريم أو مقلب من أم كلثوم، فأين الحقيقة؟

كل ما طرح عن هذا الموضوع تحليلات صحفية غير صحيحة، فأم كلثوم لا يمكن أبداً أن تدبر أساليب أو أمور كهذه، فمكانتها جعلتها فوق القمة وأكبر مما طاف بعقل الفنان عبد الحليم، وحسب علمي أنه في ذلك الحفل قد وصلتها رسالة من المسئولين كي تبدأ الغناء مبكراً، وما حدث من عبد الحليم لم يكن يجب أن يصدر من فنان في وزنه، فالجملة التي قالها لا يجب أن تقال لشخصيتين مثل أم كلثوم وعبد الوهاب، ولا تتداول أمام أكبر شخصيات في الدولة ورئيسها، فلم نكن في صالة نتسامر فيها ونمزح، والجملة لم يكن فيها شئ من التروي والتوازن، فإعتقاد حليم بأن أم كلثوم أرادت الغناء قبله وأعدت له مقلباً إعتقاد خاطئ، فهذه حركات المتنافسون الصغار الذين يخشون انصراف الجمهور، وهذا التخيل ليس من اللائق أن يصدر من فنان في مكانته .. وبالطبع أم كلثوم غضبت غضبا شديدا وشعرت بالأهانة، لأن جملته معناها أنها تخشاه أن يغني قبلها، وأم كلثوم لم تكن تخشي أي مغنٍ يغني قبلها، واعتبر الوسط الفني كله أن ما حدث كان خطأ من حليم، وتقدم العديد من كبار المسئولين إلى أم كلثوم لإرضائها حتى تمكن حليم من تقديم إعتذار كبير كى يرفع عنه العقاب الذي لحق به.

 

ــ كيف قابلتم خبر رحيل أم كلثوم، وما مصير الفرقة بعدها؟

من خلال تواجدنا مع أم كلثوم تولدت بيننا المحبة والمودة، وقضينا معها وقتاً أكثر مما قضيناه مع عائلاتنا، قدر أم كلثوم عند الجماهير غير قدرها عندنا، فهي عند الجماهير فنانة تسحر القلوب وتثير أشجانهم، أما نحن فقد شعرنا أننا فقدنا صرح عظيم تمتاز به مصر، وعم الحزن الشديد على كل أفراد الفرقة ، فقد كان حزنا فنيا ونفسيا، كأننا فقدنا الدنيا كلها، فلم تكن مجرد صرح يجمعنا لنقدم معا أروع الأغنيات، بل كانت شئ لا نقدر على وصفه، تكفينا فقط السعادة التي كنا نشعر بها ونحن بجانبها ونعمل معها ونسعد بانفعالاتها وتطريبها، وما حصلنا عليه من أجور منها أو أموال لا يعتبر شئ بجانب قربنا منها وسعادتنا بالعمل معها .. وعن مصير الفرقة بعد رحيلها، فإن الحياة لا تتوقف ، فجميعنا كانت لنا أعمال أخرى كانت هي قد سمحت بها، منها العمل في بعض الفرق أو التدريس، وكنت أنا أعمل بالتدريس في أكاديمية الزمالك علاوة على عملي مع بعض الفرق وكبار الموزعين الموسيقيين الكبار أمثال أندريا رايدر وعلى إسماعيل وفؤاد الظاهري وإبراهيم حجاج.

 

ــ متى هاجرت إلى أستراليا وهل استكملت مسيرتك هناك؟

في أوائل 1981 قمت بزيارة أقارب زوجتي في أستراليا، وأعجبني كثيرا الهدوء هناك وأسلوب الحياة، وعدت إلى مصر وقضيت أربع سنوات أخرى في العمل، وحاولت أن أبحث عن مكان هادئ أقيم فيه بيت صغير، وفي عام 1985 سجلت آخر لحن لي وهو أغنية "بعمري كله حبيتك" من ألحان الموسيقار عبد الوهاب لوردة، وما ألمني هو رحيل رموز الفن والقمم التي كنت أسعد بالعمل معهم، وعلى رأسهم أم كلثوم ثم عبد الحليم ورياض السنباطي وفايزة وفريد الأطرش، فلم يبق إلا عبد الوهاب الذي يقوم فقط بتلحين عمل واحد في العام، فشعرت أن القمم التي كنت أشبع هواياتي بالعزف معها قد تلاشت، لذا قررت أن أستريح بعد أن قضيت قرابة 25 عاماً متصلة في العزف.. وتذكرت أستراليا وجوها الهادئ فقررت الهجرة إليها، فقد أعجبني بها شكل المنازل الصغيرة، وهناك كان يملؤني الأمل والرغبة في العمل، لكني لم أجد جمهور من الجاليات هناك، فعملت بالحكومة الإسترالية كمدرس للموسيقى إلى أن قررت الإحالة إلى المعاش لأنعم بالهدوء الشخصي.. وعن الفن في عائلتي فقد أعاد الزمن نفسه، فهاهو إبني قد لحق بي في إستراليا بعد أن تخرج في معهد الموسيقى العربية بمصر، وأكمل دراسته في استراليا ويعمل عازف شيللو أيضاً، ونقوم أنا وهو بتنفيذ بعض الأعمال الموسيقي.

 

في نهاية الحديث الشجي الذي كانت بمثابة لحن واحد امتزجت فيه الأطلال مع أنت عمري بدارت الأيام مع هجرتك وعودت عيني، أهدى الفنان الكبير مجدي فؤاد كل التحية لمجلة الكواكب العريقة التي غطت كل حفلاتهم، وسعد بتواصلنا معه، كما أهدى أجمل تحياته للشعب المصري.. فقلبه مازال في مصر.. ووجب الشكر للشاعرة الكبيرة سوزان عون، مديرة البيت الثقافي في استراليا، والتي سهلت لنا التواصل مع نجم فرقة أم كلثوم المبدع مجدي فؤاد، والتي لولاها ما أجرينا هذا الحوار البديع.

 

رجال خلف أم كلثوم

بقي أن ننوه أن فرقة أم كلثوم تكونت في عام 1930، ويعد محمد عبده صالح وكريم حلمي وعبد المنعم الحريري ومحمود القصبجي وسيد سالم هم أقدم أعضاء الفرقة، وحرصت أم كلثوم على اختيار فرقتها على أسس معينة ومنها أن يكون العازف بارعاً ويقدم شيئاً فريداً ونادراً على نفس الآلة التي يعزف عليها بين زملائه عازفي نفس الآلة، وقد رصد الصحفي الكبير حسين عثمان في تحقيق له بمجلة الكواكب عام 1960 بعنوان "الذين يجلسون وراء أم كلثوم"، أن أعضاء فرقة أم كلثوم تتكون من 28 عازفاً، يحملون جميعهم الشهادات الموسيقية العالية وبعضهم حاصل على الليسانس والبكالوريوس، اختارتهم أم كلثوم وفق المعايير السابقة وأيضاً اختارت بعضهم من عازفي الإذاعة بأذنها الموسيقية، بعد أن لمست تفردهم على العزف، وضمت الفرقة عازف قانون واحد وهو محمد عبده صالح و17 عازفاً للكمان وعازف ناي واحد وهو سيد سالم، وثلاثة عازفين للتشيللو وهم مجدي فؤاد ومحمود الحفناوي وحسان كمال، وعازف واحد على الكونترباص وهو عباس فؤاد وضابط إيقاع واحد وهو حسين معوض، وعلى البنجز أحمد صبحي، وعلى الطبلة سيد كراوية وعلى الطمبا إبراهيم توفيق، وعلى الأوكرديون فاروق سلامة، وقبل حسين معوض كان إبراهيم عفيفي يقوم بالعزف، وقد لقب بـ "عفريت الرق".