تقَّلب في فراشه
الضيق كالمحموم، تحت دثاره الخشن انقبض يطوّي بنفسه كمدًا، عتمة الظلام الفاحش
تَقبره بالكآبة والصمت العاجز، بعين مُضناة اَذوي داء الرَمَد بنور مقلتيها إلا
بصيصًا؛ يرقب الحُجرة المنخسفة - في باطن الدار القائم على شَطِ الفُراتِ .
تهُّب نسمات
النهر علي مخبأه المُهَدم، يتنشقها قلقًا فيزفر صدره المنقبض رائحة الموت، فُتَّ
كبده وعُصِر قلبه حسرةً ناعيًا مجده السَليب، أين قصره المنيف في "قنسرين"
المحاط برياض الشام الفاغمة، بواجهاته الفيسفائية، وتمرغه في مسارح المتاع وترف
النعمة السابغة، جداول المياه الفضية تخِرُ في مجاريها اللازوردية وتترقرق تحت
أقدام الجواري الشقراوات، الضحكات تلف المطارح العامرة تُشجي الآذان .
لو رآه رآي قبل أشهرٍ
قليلة مضت صائلًا وسط حراسه وبين خدمه وحشمه؛ ما صدق قط أن هذا الفتي: الغِسَّاني
اليافع الآبي، أهيف القد، وضّاح المُحيَّا، صافي الأديم، أصهب الشعر مُنَمقه،
الرافل في الديباج المُوَّشي باللؤلؤ والماس، فوَّاح المِسك، هو ذاته حبيس الدار،
المهيض، المهزول، اليائس، المطارد، الفَار بحياته من وجه العباسيين !!
صوت أمه وأختيه
المرتعش الخافت، يأتيه كرواجف تُرعد فرائصه، تُمَّثِل له وَحشة بلاء الأقدار
وتكالب نكبات الزمن؛ يُخيِّل لعينيه الكليلة حالهن وهُنِ يَرسفن في أغلال الأسر،
يُسَقن أمام رماح تنغزهن إماءً منكسرات، يتجرعن ربقة العبودية ومذلتها، وهُنَ من
حَلقَّن فوق متون العزة، واعتلين بروج الرفعة، وبلغن بآبئِ المجد مع أزواجهن
وأبنائهن في زهوة ماضٍ تليد .
أين المهرب؟ لو
فرّ ببدنه الواهن للاحقه أسمه ونسبه لأخر الدنيا، إلي أين المفر وهو : عبد الرحمن
بن معاوية حفيدُ الخليفة هشام بن عبد الملك بن مروان الأموي، اسمٌ طويل حُفِرَ في
صدر التاريخ بالسيف والرمح، محمولًا فوق أيام العرب بملاحم دامية، ممهورًا بالدهاء،
مدبوغًا بالمكر والخديعة، تجَذَّر بالتجبر والعنفوان منذ النزاع مع الهاشمين قبل
الدعوة المحمدية الحنيفة .
تكفل الشيخان
"أبو بكر وعُمَر" - رضي الله عنهما وأرضاهما - بدفن الصراع الأجوم،
واحتواءه بين جوانح الأضلع، وهو لا ينفك يبارحها محمومًا يغلي، ما لبث واحتدم
مجددًا بعد مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه وأرضاه -، وانفتق من
شرنقته لاظٍ بالتمرد علي أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه وأرضاه -
الهاشمي، يطالبونه بالقصاص لعثمان الأموي المقتول، وقد رفع معاوية قميصه المُدَمي
فوق سيفه في الشام، واستحار اللدد سجِيلًا في صفين؛ أما الداهية الدهواء أن الاسم
سيظل ما بقيت الحياة الدنيا قرين يوم كربلاء، يَجرُ في أذيالهِ سلسالًا من الدم
القرشي الهاشمي المُراق، وأي دم؟ دم آل بيت رسول الله صلي الله عليه وسلم، دم
الحُسين بن علي - رضي الله عنه - وسِبط شفيع العالمين النبي الأمين ؛ كلٌ يلقِ
بظلالٍ قاتمة شائهة علي عروش البيت الأموي .
قادته أفكاره
المتلاطمة وواقعه المرير لتأمل حاله آيسًا مغلوبًا: تلف الأيام وإذا بالحفيد التعس،
قابعًا وحده مخزيًا عاجزًا بُعد أميال من صحراء كربلاء، حيث سفك أسلافه الدم
الشريف المُعَبق بعطر النبوة، وسيقت الدُرر المكنونة ؛ بنات من اُمر المسلمين
بالصلاة عليه والتسليم، وكُبِّل أحفاده الأبرار العارفين بالله في الصحراء سبايا
أذلاء، يرقبوًا بعين بَضِع الدمع في محاجرها ذُعرًا، وقلب فطره الهَول ومَزَّع
الآسي وشائجه، الجسد الطاهر المُسَجي عاريًا فوق الرمال الساخنة المُلَبَكة بدمائه
الطاهرة، بعدما هرسته سنابك الخيل، مزقت أوصاله الشريفة سيوف عُمال جَده يزيد بن
معاوية بن أبي سفيان: عبيد الله بن زياد، وشمر بن ذي الجوشن، عمر بن سعد بن أبي
وقاص، وإذ بخولي بن يزيد يثب من صهوة فرسه ليحتز الرأس الشريف؛ فطِيفَ بها شوارع
الكوفة فوق عارض خشبي في زهوة من الانتصار الخسيس المغمس بطعم الكبائر المجللة
بالفجور
.
يُتبع بأجزاء
أخرى .