في زمن
التراجع الثقافي والردة الحضارية والدوران إلى الخلف، وعندما يعلو صوت الحويني وهو
يقول أن المرأة غبية بخلقتها ولا تصلح للتعليم ومكانها البيت ليس إلا، أليس من
حقنا أن نتساءل هل كان رواد التنوير على باطل؟ وفي الوقت الذي نرى البعض يدافعون
عن النقاب باستماتة ويعتبرونه صيانة للمرأة وحراسة للفضيلة نتسائل: هل قاسم أمين
كما يراه الكثيرون بيننا اليوم داعية الانحلال والهادي إلى الضلال؟ أم أنه كان
مجددًا فكريًا وكاتبًا عقلانيًا ومصلحًا اجتماعيًا؟
والإجابة أن قاسم أمين دعا إلى حرية المرأة وإلى عفتها
أيضًا؛ إنها الطبيعة ولا شيء غيرها، فالحرية لا تمتد إلى ما لا نهاية؛ وإنما
يقيدها ضابط الخلق والشرع والقانون، وإلا كانت همجية، هذا هو مضمون رسالة قاسم
أمين وهذا هو ما كرس له حياته القصيرة بحساب السنين والكبيرة بتأثيرها الواضح
وإسهامها الفعال في إحداث نهضة ثقافية مصرية قاومت الانغلاق والتزمت والخرافة،
وهذا المقال ليس فقط سردًا تاريخيًا لبعض الوقائع التي لا يعرفها البعض عن حياة
قاسم أمين وأفكاره، ولكنه أيضًا يدعو إلى إعادة الإهتمام برواد النهضة المصرية في
النصف الأول من القرن العشرين واستلهام تجربتهم في نشر العلم والثقافة والإصلاح
الاجتماعي في محاولة للخروج من التأخر الواضح لدينا في كل المجالات.
والآن.. هل
تعرفون كتاب " المصريون " الذي وضعه قاسم أمين عام 1894م؟ لقد كان قاسم
بك حينها مقيمًا في باريس، وفي الكتاب ومن كل سطرٍ فيه سوف تدرك أنه كتبه انطلاقًا
من وازع الوطنية، وحَمِيَّةً لدينه وبلاده، وقد جاء هذا المصنف ردًا على النبيل
الفرنسي (الدوق دراكور) الذي وضع كتابًا عن مصر وأهلها نظر فيه من علٍ إلى المجتمع
المصري وهاجم الإسلام كدأب الكتاب الغربيين من قبله أو فلنقل بعضهم للأمانة؛ إذ
رأينا منهم من أنصف الشرق والإسلام أمثال (توماس كارليل) و(جوستاف لوبون).
وإذا تأملنا
تلك الروح السارية في عبارات قاسم، وهذه العاطفة الحارة التي ظهرت بوضوحٍ تام وهو
يدافع عن وطنه ومواطنيه وعقيدته ندرك أنه كان صادقًا مرهف الحس، وإلى ذلك فنحن
واجدون في هذا الكتاب عمق التأثر بالبيئة المصرية رغم الأصول التركية التي ينحدر
منها المؤلف، وإن شئت فقل أنها أصول كردية، غير أنه في ذلك الوقت لم يكن أحدٌ من
الناس يفرق بين الأتراك والأكراد الذين عاشوا في الأناضول، والذين كان منهم أمين
ذاك الضابط القوي الذي أتحفنا برجلٍ أنصف النساء، وشارك في تأسيس أول جامعة
مصرية.. إنها الجامعة الأهلية التي أصبحت جامعة فؤاد الأول، وهي الآن جامعة
القاهرة.
وتبدو لنا في
الكتاب إضافةً إلى ما سبق ذكره قوة إيمان المؤلف، وهو في دفاعه المخلص عن بلاده لم
يكن يغفل عن مواطن الضعف داخل بنية المجتمع، وهذا الوعي هو الذي قاده فيما بعد إلى
كتابة " تحرير المرأة " والذي أوضح لنا أننا بإزاء مصلح اجتماعي يحمل هم
أمته وليس مجرد مثقف نخبوي يقرأ حتى يستفيد ويتسلى ويبقى الجهال سادرون في جهالتهم
ويبقى الشعب ضائعًا وأعمى لا يعرف الخطأ من الصواب وحسبه لقمة عيشه فليبحث عنها ثم
يموت!.
لقد خلط قاسم
أمين همومه الشخصية بالهم العام، وقيل أنه أصدر كتابه عن تحرير المرأة عام 1899
بعد عودته من فرنسا بدافع من انبهاره بالغرب، والحق أن الرجل لم يخرج من جلده ولا
انبهر بالغرب ولا احترم عاداته أصلاً حتى يدعو إليها، لقد دعا إلى تحرير المرأة
لأنه كان لابد أن تتحرر، هذا كل ما في الأمر.
ونحن إذا
توخينا دقة البحث وتحلينا بالأمانة العلمية فإنه من الضروري أن نوضح ذلك التطور
الفكري الذي وصل إليه قاسم أمين في " تحرير المرأة " وما فيه من آراء جلبت
على صاحبها النقد والهجوم واستهلكت جزءًا كبيرًا من طاقته في معارك عدة وعلى أكثر
من جبهة.
غير أن الروح
المحافظة والتي بدت قوية في " المصريون " لم تضعف ولم يخبُ ضوؤها في
" تحرير المرأة " وهناك سمةٌ عامة في الكتابين وهي الاستناد إلى العقل
والصدور عنه في الحكم على الأمور؛ فهو مثلاً في كتابه الأول لم يرَ أي تمييز بين
الرجل والمرأة في مجتمنا الشرقي من ناحية الاختلاط؛ لأنه كما يُحْظَر على المرأة
أن تختلط بالرجال؛ فإنه يُحْظَر على الرجل أن يختلط بالنساء، فهل أخطأ قاسم أمين؟!
لم يقل شيئًا بخلاف الواقع أو ما كان واقعًا وقتها.
ولقد دافع
قاسم أمين في " المصريون " عن (الفضيلة الزاهرة) ورفع أسهم مبادئ
وأساسيات الحياة الزوجية عندنا على حساب الحياة الأسرية المفككة في الغرب؛ كما
رأيناه يقارن بين الزواج الغربي الذي هو نهاية العلاقة الجنسية وبين الزواج الشرقي
الذي هو بدايتها؛ إذ يخبرنا في كتابه الذي ألفه منذ 126 سنة عن خيبة الأمل التي
تسكن الفتاة الأوروبية بعد الزواج حين تكتشف أن زوجها غير مستعد للاستقرار، وفي
المقابل أشار إلى السعادة الحقيقية التي تبديها الفتاة الشرقية عند الزواج وبعده،
لأن بيتها مصدر أكيد للراحة والسكن، وتظل هي وزوجها يكرسان حياتهما للأبناء
وتربيتهم.
والذي قد
يدهش البعض أن قاسم في كتابه انتقد حضارة الغرب دونما هوادة وأظهر نفوره من مظاهر
تحللها الأخلاقي، وجعل يقارن بين نجاحها الكبير في إنتاج المخترعات وبين الفشل
العظيم في إنتاج الرجال، فالغرب – كما يخبرنا- نجح في اختراع السيارة وفشل في
تربية الإنسان! ورأيناه ينكر على حضارة أوروبا إهمالها لتوعية القلوب، وهدمها
للمعتقدات، وإغفالها للنشاط الروحي، وتأكيدها المطلق على المادة، وإنكارها للفردوس
الأعلى؛ حيث الجنة الوحيدة الممكنة عندها هي على الأرض، كما أوضح في كتابه أن
الغربيين ينشرون الرذائل أينما حلوا، وأنه ليس في مجتمعهم محبة ولا ترابط، ثم جعل
يذكر أوروبا بفضل الشرق عليها وأنه الصانع الحقيقي لحضارتها.
والسؤال
الآن: هل غير قاسم أمين وجهته ونكص على عقبيه؟ هل أصابه التناقض؟ أبدًا أبدًا، إن
قاسم أمين في " المصريون " هو قاسم أمين في " تحرير المرأة "
وما دعا إلى تحرير المرأة إلا بدافع الحرص على بلاده وحب الخير لها، ولم يخرج من
عباءته المصرية ولم يتنكر لتعاليم شريعته؛ بل كان قوي الإيمان إلى درجة أنه أصيب
بالحمى بعد أن قرأ كتاب الدوق دراكور وما فيه من الهجوم المقذع على مصر والإسلام.
لقد عارض
قاسم أمين وانتقد أوجه الخلل والقصور عندنا بدافع من حبه لنا، ودافع بشراسة عن
وطنه ودينه أيضًا لحبه لنا، وعندما تحمس في الرد على دراكور لم ينسَ أن بلادنا
وقتها كانت بلا حرية ليس للمرأة فقط وإنما للرجل أيضًا، ولم ينس أن الحرية هي
قاعدة الترقي للنوع الإنساني ومعراجه الأبدي إلى السعادة.
وأكثر من هذا
فإن قاسم بك كان يعلم أن الدوق على صواب في بعض ما ذهب إليه؛ خصوصًا في موضوع
علاقة المواطن بالحكام وأوضاع الفلاح والتعليم والمرأة والفقر والجهل والمرض، ومع
هذا فإن المصلح الاجتماعي لم يشأ أن يساير النبيل الفرنسي في هجومه على وطنه حتى
فيما رآه صوابًا؛ بل وقف موقف الرجال ودافع عن أمته ببسالة ثم انتقدها في كتابٍ
آخر، وجاء هذا النقد بعد تفكيرٍ سليم وتبصر بمواضع العجز والفشل، لذلك نقول أن
قاسم أمين تطور ولم نقل أنه تغير.
والخلاصة أن
كتاب الدوق دراكور كان صدمة قوية لقاسم أمين؛ صدمة جعلته يهاجم الكتاب ومؤلفه،
وجعلته أيضًا يفكر فيما جاء به، لقد دافع كرجل عن وطنه ودينه، ثم نصح لوطنه
وأحبابه كرجلٍ أيضًا، وهذا هو التنوير.