في دروب مصر الكثير من الحكايات والحواديت تستحق القراءة ألف مرة لمن
أراد أن يعرف قدر مصر وجمالها. وقد تعلمنا في صغرنا دون معلم أننا إخوة، وأن الدين
كله لله، والوطن لنا جميعاً. وأن في أعيادنا كلها نحتفل سوياً، فيذهب جورج مع محمد
يحملون صواني كعك عيد الفطر سوياً، ليعودوا يوم الميلاد في بيت حنا، ليجدوا ماريان
وزينب قد زينوا الشجرة واشتروا الهدايا، ويجتمع أطفال البيت الواحد في مشهد يحتمي
بعضهم في بعض خوفاً من دماء أضحية توزع بالتساوي بين الجميع، فلا يُعرف من الذي
قام بالأضحية ومن حضر واحتفل وشارك المحبة دون تمييز. فكبرنا ونحن نعرف أن الدين
لله وأن رُسل السماء كلهم هدايا الرحمن لجميع أهل الأرض، وأن الفرح يجب أن يكون من
نصيب أهل الوطن جميعاً.
في مصر فقط تجد مآذن المساجد تعانق أبراج الكنائس يتضرعون لرب واحد
تحت سماء وطن محروس من الله تعالى، يرتفع الآذان مناجياً رب العالمين فتجد أجراس
الكنائس تغرد بمحبة الله ورحماته، وطن يعجز أعدائه عن فهم روعته ورحابة أرضه. وطن
عزيز وأبي، وشعب عصي على الطائفية وان أصابه بعض منها بعد هجمات الأفكار التكفيرية
عدوة الإنسانية والاديان جمعاء.
في المحروسة أسرار محبة وبركة أولياء ولو كره المكفرون، تحمل في
أرجاءها بصمات وبركات خطوات رحلة مقدسة سارت فيها سيدة نساء العالمين تحمل في
أحضانها رسول جاء بالمحبة والرحمة، أحتمت بأرضه وعشقها شعبه وقدسها وآمن برسالة
المسيح قبل أن يؤمن به أحد.
فالمصريون جميعاً أقباط بمسيحيها ومسلميها، فإيماننا بالسيد المسيح
فرض عين لاكتمال إيمان كل مسلم صحيح، واحتفالنا بمولده هو احتفال بميلاد المحبة
بين البشرية جمعاء.
أرض نزلت فيها آية كريمة على لسان سيدنا يوسف الصديق يبشر فيها أبويه
بالأمن والأمان "ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ". وجاءها
آل بيت رسول الله بعد أن أُخرجوا من ديارهم فوجدوا فيها الملاذ والسكينة، وبكرم
أهل مصر وحسن استقبالهم نالوا المحبة والبركة فدعت لهم أم العواجز السيدة زينب
حفيدة رسول الله (ص) "يا أهل مصر نصرتمونا نصركم الله، أويتمونا أواكم الله،
وأعنتمونا أعانكم الله، وجعل لكم من كل مصيبةٍ فرجًا، ومن كل كرب مخرجًا"،
فصارت مصر المحروسة دائماً وأبدا ببركة وفضل من رب العالمين.
في بيوت مصر دفء ومحبة وإيمان يصعب فهمه عند من ابتلاهم الله بقسوة
القلوب وجهل العقول، فقد كبرنا في مدارس تُعلمنا فيها الراهبات الأصول والالتزام
والأخلاق، تعاقبنا إن تجاهلنا صلاتنا، وتساعدنا على حفظ قرآننا، لا تستطيع أن تفرق
فيها بين مسلم ومسيحي، بل تكاد أن تجزم أنه الدين كله واحد ولكن اختلفت الأسماء
وطرق العبادات.
في بيوت المصريين لا يعرف الأطفال أسماء أعيادهم ولكن يكبرون على
أنوار فرح ومحبة قادمة من شجرة تضاء في عيد الميلاد المجيد فيعكس ضوئها فانوس
رمضان الكريم فتصدر منهما أنوار محبة تضيء الأرواح وتنقيها من رجس الشيطان وهوس
الجهلاء.
يفزع الناس في مصر عند سماع حوادث طائفية، لأن التركيبة المصرية نسيج
واحد منذ قديم الأزل، فتجد دوماً خلف كل حادث من هذا النوع يد خفية تسعى لتأجيج
الفتن ونشر الجهل والتطرف بغرض زعزعة استقرار مجتمع وشعب أعتاد الحياة بمحبة وقبول
الآخر المختلف عقدياً. هذه المحبة وهذا التعايش ظهر جلياً في الأفلام المصرية
القديمة فكانت الأخوة الإنسانية واضحة في كل التفاصيل، وكانت العلاقات الراقية رمز
للمجتمع المصري بكل طبقاته وأطيافه.
في صعيد مصر العامر تتجاور البيوت وتتكافل الأُسر والعوائل لتصنع
ملحمة إنسانية لا يدركها إلا أهله، يعيش فيه الجيران في مودة وتراحم تجعل منهم أهل
قبل الأهل وسند وعزوة ضد كل محن الحياة وكرباتها.
وفي الصعيد تكمن قوة مصر وشموخها وهو أمر يعجز أعداء الوطن على استيعابه.
فوجدوا في زرع الفتن الطائفية ضالتهم المنشودة لاقتحام أحد أهم معاقل الوطن وحصونه،
فحاولوا ويحاولوا أن يزرعوا كراهية وأسباب واهية رافعين شعارات إرهابية وأفكار تكفيرية
لن تستمر طويلاً بين أهل الصعيد الأصيل الواعي المدرك لقيمة الوطن والمواطنة.
في عيد ميلاد سيدنا المسيح -سلام الله عليه- نقول لمصر وأهلها كلهم كل
عام ومصر في محبة وسلام دائم، ولو كره الجهلاء والأعداء والمكفرون.