السبت 18 مايو 2024

"عملٌ رديء".. قصة لـ أسماء حسين من مجموعة "فسحة بويكا"

فن9-1-2021 | 10:19

تنشر "الهلال اليوم"، قصة "عملٌ رديء"، للكاتبة أسماء حسين، من مجموعتها القصصية "فسحة بويكا" الصادرة عن دار "فصلة" للنشر والتوزيع في طبعتها الأولى يناير 2018.



عملٌ رديء


 

كل يوم كنت أمضيه بصحبة جدار رطب قديم، في نهاية سقفه من الأعلى مساحة صغيرة وغربان لا تهدأ من الحركة بالخارج كعادتها السيئة في انتظار موت جديد قادم، وفي نهاية اليوم، كلما همّ أحدهم بمغادرة المستشفى، تمنيت لو أكون أي شيء يُدس في حقائبهم، كفرشاة أسنان، أو أن أطوى بين البيجامات، وأتنقل معهم إلى حيث تأخذني أقدامهم.

فقد ضجرت من حياتي المكممة بين غرف قميئة ألِفَت جدرانها ضجر روحي، وترحالي بين المرضى والأوبئة، أُعطِ هذا دواءه مُوقّعًا ببسمة تندلق من شفتايَ كالسم - دون أن يعلم أحدهم بذلك - وآخر أقيس ضغطه، لأتأكد من أنه طبيعي، بينما أنا التي في حالة غير طبيعية هنا، حالة هستيريا ترتفع وتهبط كالترمومتر، أكثر من الحرارة التي تعتريهم.

في السرير المحاذي للنافذة، يرتمي رجل أُصيب بالعمى منذ قرابة الأسبوعين. تعيّن عليّ أن أكون ممرضته وتحت خدمته أربعَ وعشرين ساعة - بالتمام و الكمال - وهذا اليوم الأول لخدمتي إياه إلى أن يحين خروجه مُعافًا! 

هذا مثلًا، لا أعرف كيف أتعامل معه؟! مُضرب عن الطعام والشراب والحديث! وكلما قسوتُ عليه وألقمته الخبز، سارع بنزع أنبوب المحلول من وريده، وصرخ، فتتناثر قطرات الدم على الشراشف البيضاء كجريمة على عاتقي، فيهرول الزوّار المجاورين لتهدئته، وتثبيته في مكانه، إلى أن يستعجل أحد الأطباء ويُعطِهِ إبرة مخدّر منقذة لأعصابي.

في الساعات الأولى من اليوم الأول معه، هكذا ! فكيف يكون غدًا، وبعد غد؟ ماذا عن كل هذا الضجر والنفور الثائر بي؟! كيف سأحتمل أكثر مما احتملت؛ لأجل استمرارية الحياة والشؤم في مستشفى أمراض نفسية؟!

في الليل أخيرًا نام، ونامَ الجميع، بينما بقيت مُتخشّبة على الكرسي بجانب سريره، أسترق النظر إلى قطعة السماء المربعة التي هي الحيلة الوحيدة للنجاة المتوفرة من نافذة مسيّجة بالحديد الصلب. تذكرت أن الرجل لم يُفرغ أغراضه من الحقيبة، أفرغتها في صندوق منسي تحت السرير، كانت بيجامة زرقاء بلون عينيه، ونظارة سوداء، ونوتة صغيرة، فتحتها فقرأت: "نحن الذين نسير لا ذكرى لنا، لا حلم، لا أشواق تشرق، لا منى*"!

لا أريد أكثر ولا أقل، فقط خروجي من تلك المستشفى بملابسَ تلائم امرأة في أواخر عشرينيّاتها، ناعمة،  أنيقة التفاصيل، يكفي لأن أكون حقًا قد نجيت من تجاعيد الزمن المتراصة هنا.

"نودّ لو متنا فترفضنا القبور."

أي رجل أعمى يقرأ هذا الحزن والموت دون عين؟!

– ماء ..ما ..ماء.

صعقني بلهاثه المفاجئ، فوضعت فم الإبريق في فمه؛ بعد أن كدت أسقط في عظام ركبتاي، لكنه وكزني دون قصد فانسكب الماء على قميصه وزي عملي، التزمت السكون، كانت أعصابه ترتجف، شبه منهارة، شرايينه الدقيقة منشدّة بشكل مريع، وبعد دقائق ارتخى كالسكران وارتمى رأسه على الوسادة.

فككتُ أزرار قميصه دون أن يغضب أو يقترف شيئًا من جنونه، بانَ صدره، كان كثيف الشعر الممزوج بالشيب، عند رئته اليمنى جرح بسيط، والجلد المغلف لقلبه يرتفع ويقع باضطراب نبضاته، "يكاد التمزق".

أجهل لماذا سألته عن اسمه!

قال وقد خُيّل إليّ وكأن صوته ليس له: أحمد كريم.

غير أنه في منتصف تلك الليلة؛ تغير بالمرة، تحوّل إلى رجل مُطيع ! قالَ أنه من مدينة أخرى، أفقد بصره رصاص طائش من بنادق المحتل، وبالمجيء إلى غزة أراد الاغتسال من ليل مدينته، فإذا به يغتسل بليل غزة، ليل على الأقل لم يُفقده بصره، "!"، وعن حالته النفسية، أخبرني أن ما هي إلا هروب وهمي من عالم ما وراء أسوار المستشفى وخلف قضبانها.

- الحياة خارج المستشفى ليس لها رائحة المعقمات التي تخنقك، بل رائحتها ملوثة تمامًا، صدقيني، ابقِ بنقائكِ ولقمة عيشكِ هنا.

- لكنني سأصاب بحالة نفسية هنا، سأغرق في طوفان من العقد إن بقيت أعمل ممرضة وسط كل هذا الموت البطيء.

- أخبريني إذن، لماذا؟!

- الجرحى يجرحونني معهم، أسمع أصواتًا مخيفة تصدر عن المرضى والمعقدين.

- إذا سأخبرك أن ذلك أفضل، أفضل من أن تسمعي أصوات النعاة ترتفع حولك أينما ذهبتِ، أفضل من أن تتشردي بين الجثث وأصوات أكبر من صوت البكم، وأن ترين ما تتصالحين مع العمى بعده.

في آخر المطاف استطعت بصعوبة انتشال نفسي من تلك الغيبوبة العفنة، وخرجت للهواء الذي كنت أتسوله من فتحة النافذة، خرجت لأجلس كما أجلس الآن، وأخيرًا، بين "الطبيعيين" والاعتياديين من البشر، يحيط بي جمع لا بأس به في هذه اللحظة بذاتها، غير أنهم، جميعًا، يتشحون بذلك السواد الذي كنت أراه وأخافه كلما نعقت الغربان حول ذلك المستشفى الكئيب. بينما تتوالى وترتفع أصوات النعاة، وأودع الأرواح، الجثث، التي ذهبت للحرب، ولم تعد منها واحدة.

وكلما هم أحدهم بمغادرة المجلس، أفكر بعيدًا عن هذا المكان، بنفس الضجر القديم الذي عرفته لسنوات مضت، ضجر أضيف له الحزن والخسارة، وأتمنى لو أن أحد العابرين يدسّني في حقيبته، كفرشاة أسنان، يحملني كشرشف مطوي، ويضعني على أحد أسرة المستشفى مجددًا، لأرتمي تحت قدمي أقرب مصاب وأقدم له رعايتي وابتسامتي، من دون أي سم عالق بها.

 

* مقتطفات لِـ نازك الملائكة

    الاكثر قراءة