الخميس 27 يونيو 2024

الولايات المتحدة "المكارثية"

أخرى10-1-2021 | 12:30

من المتعارف عليه أن "المكارثية" سلوك يقوم بتوجيه الاتهامات، خصوصاً بالتآمر والخيانة، دون دعمها بالأدلة. وينسب هذا الاتجاه إلى "جوزيف مكارثي"، النائب الجمهوري في الكونجرس الأمريكي من ولاية ويسكنسن في الفترة ما بين عام 1947 إلى عام 1957، والذي اتهم عدداً من موظفي الحكومة والمثقفين، وقاد إلى حبسهم بتهمة أنهم شيوعيون يعملون لمصلحة الاتحاد السوفيتي. وقد تبين فيما بعد أن معظم تلك الاتهامات كانت على غير أساس، ولذا أصدر الكونجرس في عام 1954 قراراً بتوجيه اللوم إليه.

 ويستخدم هذا المصطلح الآن غالباً للتعبير عن الإرهاب الثقافي أو الفكري أو الإعلامي الموجه ضد أي فصيل أو شخص، دون سند أو دليل ودون ترك الحكم للقضاء الذي  يجب أن يكون هو الفيصل في صدقية أي اتهام من عدمه. و"المكارثية" تستخدم أيضا في بعض الأحيان بشكل مرادف لتعبير آخر وهو صيد أو مطاردة الساحرات، والذي يشير إلى الحملات الهستيرية والمحاكمة الصورية العنيفة التي شنتها الكنيسة ضد المعارضين لآرائها بدعوى ممارستهم للسحر المحرم، والذي قدّر ضحاياها بعشرات الآلاف بين القرنين الـ 15 والـ 18 في أوروبا وفي أمريكا الشمالية.

من يحلل جيداً المشهد في الولايات المتحدة الأمريكية، وخصوصاً منذ انتخاب ترامب رئيساً، يجد أن المشترك الوحيد في المشهد السياسي هي "المكارثية" وصيد الساحرات. فهي تقريباً الآلية أو الحرب التي يمارسها الكل ضد الكل، كما وصف الفيلسوف توماس هوبز (1588-1679) حالة المجتمع البريطاني في القرن السابع عشر. ففي الولايات المتحدة الآن هناك فائض في العنف اللفظي والجسدي والإرهاب الفكري والمهاترات والمزايدات الصاخبة والمتهافتة وندرة في الأفكار والحوارات الموضوعية والمجادلات الهادئة والهادفة التي كانت ربما تميزها في السابق.

ففي وجهة نظر "ترامب" وأنصاره، يشن الديمقراطيون حملة "مكارثية" على ترامب، حتى أصبحت عمليات التحقيقات القضائية والقانونية، كعزل الرئيس من منصبه، مسائل مسيّسة، يتم من خلالها استدعاء التحيزات الحزبية والدوافع الأيديولوجية. ويري هؤلاء أن خير مثال على تلك الكارثة التي تمارس ضدهم هو تمزيق "نانسي بيلوسي"، رئيسة مجلس النواب الأمريكي، خطاب حالة الاتحاد للرئيس ترامب بعد أن صفقت له بطريقة غريبة ومهينة وغير مسبوقة، بدعوى أنها لم تجد فيه صفحةً لا تضمّ كذبة، بل إنها وصفت من كتبه بأنه بائع زيت ثعابين. وبعد واقعة اقتحام الكابيتول الأربعاء الماضي، وصفت "بيلوسي" ترامب بأن غير مستقر ويجب حماية الأمريكيين من عدوانه على الديمقراطية الأمريكية، كما وصفه "بايدن" بأنه غير مؤهل للخدمة.

وقد قالها "ترامب" صراحة أكثر من مرة، خصوصاً عند التحقيق الذي أجراه  المستشار الخاص "روبرت مولر" بشأن تواطؤ حملته الرئاسية مع روسيا في الانتخابات الرئاسية، والذي وصفه "ترامب" بـ"المكارثية الجديدة" واصفاً "جوزيف مكارثي" مقارنة بما يفعله "روبرت مولر" بـ"الرضيع الصغير"، وبأن التحقيق معه هو أشبه بـ"قنص الساحرات". وفي خطاب أرسله ترامب بهذا الخصوص إلى رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، قال إن "المتهمين بالسحر تلقوا عملية محاكمة أكثر عدلاً".

كما لا يجب أن  ننسى وأنه منذ اليوم الأول لولايته يتهم "باراك أوباما" (الرئيس الذي خلفه دونالد ترامب) بتشويه سمعة الصحافة الحرة وعدم الالتزام بالحقائق والعلم، والافتقار إلى المهارات اللازمة لقيادة أقوى دولة في العالم، وأنه "لم يأخذ أبداً منصبه على محمل الجد".

في المقابل، يمارس ترامب هو الآخر "مكارثية" من نوع آخر، برسم نفسه على أنه حِصن في مواجهة تطرف اليساريين وبتغذيته الأيديولوجيا اليمينية المتطرفة، وبجعله الجماعات المسلحة ذات الأيديولوجيا اليمينية جزءا من المشهد السياسي الأمريكي، لدرجة أن وصل الأمر مؤخرا لتخطيط ثلاثة عشر رجلاً لخطف حاكمة ميتشيجان، واقتحام الكونجرس يوم الأربعاء الماضي.

يستخدم "ترامب" في حربه المكارثية مجموعات مثل "ثري بيرسنترز" و"أوث كيبرز" و"براود بويز" وكذلك "بوجالوس بوا" و"باتريوت براير"، والتي تشترك بدفاعها عن حق امتلاك السلاح والعداء للحزب الديمقراطي والأفكار اليسارية، وتعتبر أن قوات الأمن عملاء للحزب الديمقراطي الاستبدادي، بل وتحضر بعضها لثورة وطنية، يقودها ترامب باعتباره يخوض حرباً سرية ضد جماعة ليبرالية عالمية. وعادة ما يصف ترامب الديمقراطيين، وخصوصاً إدارة أوباما التي يتهمها بالخيانة والتجسس عليه، بأنها كانت الأكثر فساداً في تاريخ الولايات المتحدة، وأنها هي التي تنظم فعاليات الاحتجاج ضده وتسرّب معلومات من البيت الأبيض لتقويض شعبيته وسلطته، وأن ولاءها ليس للولايات المتحدة.

في زمن "جوزيف مكارثي" تصدى بشجاعة عدد من الشخصيات الثقافية اللامعة على رأسهم الإعلامي "إدوارد مارو" للإرهاب الفكري الذي مارسه مكارثي، وحالة الخوف والفزع التي سادت الكل خيفة أن يطالهم ما طال غيرهم ممن فقدوا وظائفهم أو تم الزج بهم في السجون بتهم العمالة. ولكن في زمن الولايات المتحدة "المكارثية" يبدو أن الولايات المتحدة الحالية لن تجد بسهولة "إدوارد مارو" جديداً؛ فمعظم من هو مؤثر متختندق مع الديمقراطيين أو ضدهم، مع ترامب أو ضده. ويبدو أن "المكارثية" أصبحت نهجاً وحيداً للحياة، غير قابل للتغيير بسهولة، في الولايات المتحدة داخليا وخارجيا، لدرجة أن وزير الخارجية الصيني "وانغ" أكد أن بكين مستعدة للتعاون مع الرئيس الأمريكي المنتخب "جو بايدن" حول عدة أولويات، لكنه حذّر واشنطن من تبني نزعة مكارثية معادية للصين.