الأحد 30 يونيو 2024

"بلا وطن".. قصة لـ أسماء حسين من مجموعة "فسحة بويكا"

فن11-1-2021 | 12:55

تنشر "الهلال اليوم"، قصة "بلا وطن"، للكاتبة أسماء حسين، من مجموعتها القصصية "فسحة بويكا" الصادرة عن دار "فصلة" للنشر والتوزيع في طبعتها الأولى يناير 2018.


بلا وطن


 

"كيف شعرت كأننى أنظر من ذات النافذة؟!"

 

عبرنى بخفة شديدة صوت عصفور نافذتى الذى مرق للتو بجانبي، قبل أن يطغى عليه صوت خطوات أمي الهادئة طوال الردهة المؤدية من باب حجرتي الى النافذة.

كنت أقف بهدوء مثالي، أكثر ميلًا للبرود ربما، أستمع لخطواتها وأداعب طرف العصفور بتأنٍ شديد لا يخلو من مسحة الشرود ماسحة بنظراتي كل شيء دون أن أرى شيء.

حتى شعرت بأيدي دافئة تحيط باحدى كتفيّ وتربت على الآخر باليد الأخرى.

لا اعرف حتى كيف حدث هذا!

ربما هي هوائيتي أو تقلباتي المزاجية المعتادة والتي تتألق في الصباحات بصورة أكثر وضوحًا، ربما حنان أمي الذي شجعني بقوة، وربما هو ذاك الحلم، نعم كان هو، ما جعلني أفيق من شرودي وأسترد وعيي بالحاضر فجأة بين ذراعيّ أمي، بعد لحظات طويلة كل ما أعرفه عنها أن لمحت خلالها فتاة تشبهني تمامًا فى انعكاسى بالمرآة تجهش بالبكاء الجارف بين ذراعيّ أمها ونصف جسدها النحيل ممدد على الفراش بوهن.

كان جسدي يشعرنى بالتلاشي منه ببطء مع هذا الوهن الشديد وأنا أقص على أمي ما رأيت بحلمي ذاك الصباح.

أخبرتها بشرود كيف كنت أعبر جانبيّ الشارع على الخريطة، نعم، لم أكن على أرض بقعة ما بل كنت أعبر جانبيّ خريطة، كنت كمشاهدة من خلف شاشة تحرك أفكارها كل الأجساد بهدوء، أو كلاعب شطرنج بلا أعصاب يحرك القطع من مربع لآخر بخفة لا يشغلها شيء سوى الفوز دون اعتبارات، ومع ذلك كنت متورطة بشكل ما في الأمر، وأشارك بدوري في تجسيد وجودي كقطعة والرضوخ لقراري كلاعب، كان كل ذلك يمثل المشهد العام للحظة التي حركَت إرادتي فيها القطعة التي تمثل أخي هناك على الخريطة لتضعها فى منتصف خط العبور تمامًا بين جانبيها، لم يكن جانبيّ الخريطة سوى عالمين.

رحلت أنا للآخر.

لا أعرف كيف حدث الأمر على هذه الصورة ولكن ما دهس أخي بعد ذلك لم يكن سيارة أو حافلة أو دراجة حتى، كانت الرياح!، وانتفض جسد أخي الهزيل بين جانبيّ الخريطة حين كانت تخرج منه عاصفة صغيرة ظننتها فى البداية روحه، لم تكن روح أخي، بل كانت وطنه!

علق أخى بالحياة، لكن بلا وطن.

كان كل ما فعلته بعد ذلك أن منحت أخي صندوقًا صغيرًا وربتت على قلبه بحنان واختفيت!

هدأت أمي من روعي لتخبرني كالعادة ببساطة الأحلام وقصتها المكررة منذ أجدادها وآبائها جميعًا دون شرط الصدق بالطبع.

وغادرتني لأتألم وحدي، لماذا أتألم الآن؟!

كانت الإجابة بسيطة، لأنني قد كذبت على أمي، وكان ذلك بشأنها، إنني أكذب دومًا حين يتعلق الأمر بشأنها.

لم أكن منزعجة لفكرة أنى قد حلمت بي وقد أذيت أخى بغير عمد، إنما انزعجت لأن من دهسته الرياح في الحقيقة لم يكن شخصًا آخر سواي.

أغلقت النافذة وأنا أحاول انتزاع نفسي من كل ما مر بذاكرتي وأنا أنظر عبرالمكان ذاته كما حدث ذلك الصباح البعيد.

اليوم، رحلت أمي، رحلت أيضًا الى اللا مكان ذاته الذي يتركني الجميع راحلين إليه كما كانت تخبرني كلما غاب أحدهم في طفولتي، وبقيت أنا وحدي!

اتجهت إلى الطاولة التي اعتدنا الجلوس إليها، وشعرت بأن فتاة غيري تجلس إلى هذه الطاولة لتسترجع حياتي معها ومع الآخرين، وأغلبهم من رحلوا.

فتاة أخرى تمد يديها لصورة عائلتها، تتناول الصورة، تنظر إليها، تنفخ عنها الغبار، وتسقط وقفة أمها، يفتت الهواء أمها إلى ذرات تطير بعيدًا بكل سهولة.

تقلب الصورة وتنظر للفراغ بشكل قوام أمها الراحلة.

الفراغ بطول 7سم في الصورة، بطول 167 سم كما يقول أبوها فى الواقع.

167 سم قابلة للزيادة.

الزيادة التي تسمح للأشباح بالعبور من قصص النوم المسائية لتحت أغطيتها قبل أن تنام.

الزيادة التي تسمح لسؤال ضخم وحائر أن يعبر حينما ترى قطرات الدم في ألبستها الداخلية وتتألم دون طمأنة والدتها الحانية.

الزيادة التي تسمح بدخول الأشياء المؤذية.

الزيادة المرنة الطيّعة، القابلة للتمدد حسبما يقتضي الأمر.

الزيادة التى تسمح بازدحامها بالعديد من الأشياء التي لا تتركها وحدها، وأكثرها الوحدة والخوف.

كانت هي، وليس أخي في الحقيقة، من رأيتها فى حلمي ذاك، تربت على قلبي وهي تضعني في منتصف الطريق وتحمل لي كرتون يخصني!

كرتون يحمل أشلائي!

كرتون به دماء وقطعة عتيقة من السماء، قلب صغير مزدحم بالكثير من التفاصيل والكائنات، كيس نايلون أسود يحمل  نصيبه من الشوائب، بعضًا من أصوات هشة، وروحًا ظلت بلا وطن تسكنه، إلى أن حلقت تبحث عن انتماء، وجسد معجون بلا هوية.

    الاكثر قراءة